المسلمون واليهود ضحايا التطرف اليميني في ألمانيا

2019.11.12 | 16:38 دمشق

50775595_303.jpg
+A
حجم الخط
-A

تزايدت حالات الاعتداء على اليهود في ألمانيا في الآونة الأخيرة، ويجدُ المتتبّعُ أنّها لم تتوقّف بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعد سقوط الحكم النازي، بل استمرّت بشكل متقطّع لكن متواتر، مما يدلّ على أنّ مسألة العداء لليهود لم تضمحلّ في المجتمع الألماني. يمكننا أن نذكر بعجالة أشهر هذه الاعتداءات، ففي شهر أيلول من عام 1959 رسم رجلان من الحزب النازي الألماني شعار الصليب المعقوف على جدران الكنيس اليهودي في كولونيا وكتبا شعار: "الألمان يطالبون بخروج اليهود" وانتشرت بعد ذلك في عموم ألمانيا شعارات وكتابات ضدّ الساميّة. في آذار من عام 1994 تمّ إحراق كنيس يهودي شمال مدينة لوبيك، وتكرر الاعتداء على الكنيس ذاته في العام التالي. في شهر تشرين الأول من العام 2000 وقع اعتداء بالحجارة على كنيس في مدينة إسن غرب ألمانيا، وفي نفس الشهر وقع اعتداء على كنيس آخر في مدينة دوسلدورف. في 30 تشرين الأول من عام 2010 تمّ في مدينة ماينز إحراق كنيس جديد بعد أيّام فقط على افتتاحه، وكان قد بُني على أنقاض كنيس قديم سبقَ وأحرق على يد النازيين في العام 1938.

وقع آخر هذه الاعتداءات الكبيرة في التاسع من شهر تشرين الأول عام 2019، عندما حاول شابّ ألماني يُدعى شتيفان باليه اقتحام كنيس يهودي في مدينة هاله بولاية سكسونيا، لكنّه فشل في الدخول إلى المعبد الذي كان يؤدّي الصلاة فيه ما يقرب من 70 شخصاً، فقام بإطلاق النار على المارّة في الشارع فأردى سيّدة ثم قتل رجلاً في مطعم تركي. وبالتحقيق معه اعترف بأنّه ارتكب جريمته بدوافع عنصريّة، وأنّه كان ينوي ارتكاب مجزرة بالمصلّين اليهود. وقد صنّف المدعي العام الاتحادي هذا الاعتداء بأنّه إرهابي. ومن الجدير ملاحظته أنّ شتيفان كان يبثّ جريمته بشكل مباشر على موقع "تويتش" عبر الإنترنت في محاكاة واضحة لفعل مرتكب مجزرتي مسجد النور ومركز لينود الإسلامي في مدينة كرايستشيرش في نيوزيلانده في 15-3 2019.

كذلك كانت الاعتداءات على المسلمين كثيرة ونذكر منها اعتداء مدينة زيلغين عام 1993 الذي راح ضحيته خمس فتيات تركيّات وخالتهنّ، وقتل الأتراك الثمانية بعدها بفترة من قبل عناصر "خليّة الأساس الألمانية" وقتل الصيدلانيّة منى الشربيني في مبنى محكمة دريسدن عام 2009 وغيرها من الاعتداءات المختلفة.

ضجّت الساحة الألمانيّة بهذه الاعتداءات المتكررة وخاصّة محاولة الاعتداء الأخير على الكنيس في مدينة هاله، وشهدت جدالاً واسعاً في صفوف الأحزاب في البرلمان وعلى أرفع المستويات السياسية، وتناولتها الصحافة بجميع أشكالها. كما تفاعل المجتمع الإسلامي مع الحدث بشكل كبير، حيث قام السيد أيمن مزيك رئيس المجلس المركزي لمسلمي ألمانيا بزيارة مقرّ الجالية اليهودية في المدينة، كما قال في معرض تعقيبه على الاعتداء: "لم يكن هذا الاعتداء مفاجئاً وقد توقعناه منذ فترة طويلة، وكان بإمكانه أيضاً أن يضرب الجالية المسلمة في المدينة". ويؤكّد المجلس المركزي لمسلمي ألمانيا بأنّ السلوك المعادي للمسلمين واليهود بات واضحاً بدرجة كبيرة، وأنّ الإحصائيّات لا تعكس الواقع إلّا بشكل جزئي فهي لا تسجّل جميع الاعتداءات، ولهذا أسباب عديدة لعلّ أهمّها أنّ المعتدى عليهم لا يشتكون في أغلب الأحيان من الاعتداءات اليومية مثل الشتم والإتيان بحركات تهديد أو غيرها من أفعال باتت مُعتادة من كثر تكرارها.

تُشير دراسة حديثة قامت بها مؤسسة فريدريش أيبرت المقرّبة من الحزب الاشتراكي الألماني (SPD) تحت عنوان (دراسة عن الوسط السياسي)، إلى أنّ "المواقف اليمينّية الفرديّة المتطرّفة والمواقف اليمينيّة الشعبويّة تجد لها مكاناً راسخاً في وسط المجتمع الألماني، وإنّ بعض الأفكار مثل الرفض أو التقليل من شأن بعض فئات المجتمع، والإيمان بنظريات المؤامرة، والتأييد الخفي لأشكال الحكم الاستبدادي، تسيطر على المشهد اليميني في ألمانيا"

تمّ ربط نتائج هذه الدراسة مع دراسة أخرى طويلة الأمد بدأت باستطلاعات رأي الألمان منذ العام 2002 وقام بها "معهد البحوث المتعددة التخصصات بشأن الصراعات والعنف IKG" تحت مسمّى أو عنوان " العداء الذي يركّز على شرائح اجتماعيّة متعددة"، وخلص الباحثون في جامعة بيليفيلد إلى نتائج تقول:

"إنّ انتشار اليمين الشعبوي، على عكس التصور السائد، ليس بظاهرة جديدة على ألمانيا. من جهة أخرى تشير نتائج الدراسة إلى عكس ذلك: فقد كان كل شخص من أصل ثمانية متبنياً للفكر العنصري، خلافاً للأعوام 2018 و2019، حيث بلغت النسبة "شخص واحد من أصل أربعة عشر". كما بلغ العداء للمسلمين في عام 2006 نسبة أكثر من 30 في المئة، أي أكثر بكثير عن نتائج الدراسة الماضية، حيث كانت تبلغ نسبتهم18.7 في المئة. وكانت تحظى معاداة السامية وكراهية الأجانب بشعبية مضاعفة تقرياً بين المشاركين في الاستطلاع في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مقارنة مع نتائج الدراسات الحديثة."

وبحسب الدراسة فإنّه "بينما يرفض نصف المستطلعة آراؤهم من ألمانيا الغربية، اللاجئين عموما، فإن كل اثنين من أصل ثلاثة من ألمانيا الشرقية، يفعلون ذلك. كما أن 26 من أصل 100 ألماني شرقي و 19 من أصل 100 ألماني غربي، لهم نظرة دونية للمسلمين. ووفقاً للقائمين على الدراسة "فإن الغضب الجماعي من الهجرة" في الشرق أعلى بكثير( 52 في المئة) عنه في الغرب( 44 في المئة)."

يميّز الدكتور عزمي بشارة بين نوعين من اليمين في أميركا وأوروبا، فهناك حسب رأيه يمين متطرّف عقائدي يؤمن بما يقوله ويفعله وهؤلاء هم النازيّون الجدد وأمثالهم من الفاشيست، وهناك يمين شعبويّ لا يؤمن بما يرفعه من شعارات بالمطلق

يميّز الدكتور عزمي بشارة بين نوعين من اليمين في أميركا وأوروبا، فهناك حسب رأيه يمين متطرّف عقائدي يؤمن بما يقوله ويفعله وهؤلاء هم النازيّون الجدد وأمثالهم من الفاشيست، وهناك يمين شعبويّ لا يؤمن بما يرفعه من شعارات بالمطلق، لكنّه يقول ما يريد الناس أن يسمعوه.ويشير الدكتور عزمي إلى أنّ هذه الظاهرة تتأتّى من بحث الناس عن قيمٍ عليا مثل الهويّة الوطنية، وأنّ علينا النظر لهذه الهواجس حتى لو كانت غير مهمّة بالنسبة للباحثين، لأنه ثمّة مسائل تثير اهتمام الناس عموماً دون أن تكون ملحوظة بشكل كبير.

يضرب الدكتور عزمي مثالاً على ذلك الانتخابات الأميركية التي فاجأت الجميع بنجاح الرئيس الحالي دونالد ترمب، حيث سمّاها "انتفاضة الرجل الأبيض". ثمّة هاجسٌ حول الهويّة الوطنيّة الأميركية المفقودة لم تنتبه لوجوده بقوّة في وسط أميركا مراكزُ الاستطلاع والبحوث. هذه الفئة التي تأثّرت بشدّة بخروج الصناعات التقليدية من أميركا إلى دول العالم الثاني والثالث، ولم تستفد من الصناعات الحديثة في الشاطئ الغربي ولا من صناعة السياحة في الشاطئ الشرقي. لذلك كان الخطاب الشعبوي للمرشح ترمب قادراً على أخذ أصوات هؤلاء الناخبين الساخطين من جهة والذين ما يزالون تحت وطأة أزمة الرهن العقاري التي سبّبت أزمة ماليّة عالميّة في العام 2008.

في ردّها على استفسار موجّه من كتلة الخضر في البرلمان الألماني، قالت وزارة الداخلية الألمانية، إنّ دائرة مكافحة الجريمة الاتحاديّة قد سجّلت في العام 2017 وحده 1495 جريمة معادية لليهود و 1069 جريمة معادية للإسلام، فكان مجموع هذه الاعتداءات 2564، بينما كان عدد الجرائم التي سُجّلت وتحمل طابع معاداة المسيحيّة 127 جريمة. أي ما يشكّل أكثر من عشرين ضعفاً للجرائم المرتكبة ضدّ اليهود والمسلمين مقارنة بتلك المرتكبة ضدّ المسيحييّن.

هنا أكّدت المتحدّثة باسم كتلة حزب الخضر على أنّ الحكومة الاتحاديّة تسبّبت في "عدم التوازن في المناقشة من خلال الإعلان عن الهجمات على المسيحيّين أولاً، ولم تذكر الأعداد الكبيرة للجرائم المعادية للساميّة والمعادية للإسلام التي هي أكبر بكثير من الجرائم المعادية للمسيحيّة". كما أشارت إلى أنّ هذه الأرقام مُقلقة، لأنّ نهج الحكومة الاتحاديّة "يمكن أن يُخفي بطريقة خطرة الإجراءات المعادية للساميّة والمعادية للإسلام".

يمكن استثمار حالة الحريّة وسيادة القانون بشكل فعّال لمحاربة العنصريّة، فما يميّز الديمقراطيّات الغربيّة قوّة الدولة المقترنة بقوّة المجتمع المدني، إضافة لقوّة الحياة السياسيّة وتجذّر قيم العدل والمساواة والحريّات العامّة والفردية. ومن هنا نستطيع أن نفهم سبب استمرار مجتمعات هذه الدول بالتطوّر والتقدّم. كيف كان لنا أن نعرف بالأرقام حقيقة ما يجري، لولا وجود شفافية بالتعامل بين أجهزة الدولة المختلفة، ولولا رقابة الأحزاب والصحافة والمجتمع المدني على أعمال الحكومات، ولولا الإحصاءات والدراسات والبحوث التي تقوم بها مراكز الأبحاث والجامعات؟

ثمّة إذن حاجة ملحّة تدفع أبناء الجالية المسلمة للتعاون مع اليهود الأوروبيّين وإنشاء تحالف فيما بينهم بداية، ومن ثمّ تشكيل جبهة واسعة تضمّ إلى صفوفهم أحزاب اليسار وأحزاب الخضر والأحزاب الليبرالية التي تتقاطع معها جزئياً في بعض النقاط. إنّ من شأن قيام مثل هذه الجبهة أن يحدّ أو يعيق موجات العنصريّة التي يقودها اليمين المتطرّف في أوروبا عموماً، وبدعم روسيا الذي بات واضحاً للجميع، والتي يهمّها بشكل كبير نجاح اليمين المتطرّف في حكم أوروبا. إنّ وجود قوانين تجرّم العنصرية وتحارب التمييز بين البشر غير كافٍ بحدّ ذاته لمنع وقوع الانتهاكات وارتكاب الجرائم، لابدّ من أن يحارب أصحاب الحقوق من أجل الوصول إليها وفق هذه القوانين. وقد نشهد في المستقبل أيضاً تحالفات سياسيّة بين هذه الكتل البشريّة التي تعاني من بعض التمييز ضدّها لأسباب مخالفة لطبيعة وجوهر الديمقراطيّة والليبراليّة ذاتهما.