icon
التغطية الحية

المسلسل التركي "كُبرى".. نبوّة مزعومة في عصر الذكاء الاصطناعي

2024.05.13 | 11:50 دمشق

45645645
+A
حجم الخط
-A

منذ أيام، مرت بي ستوري لأحد الأصدقاء يذكر فيها تحذيراً بعدم متابعة المسلسل التركي الجديد «KÜBRA» (كُبرى)، غير أنه اكتفى بعبارة أن "المسلسل يحكي قصة شاب يدّعي النبوة" ولم يوضح أكثر من ذلك.

أثارت الفكرة اهتمامي، فتابعت الحلقات الثمانية وهي الموسم الأول الذي عُرض على منصة نتفليكس، والمأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته للكاتب التركي «أفشين كوم»، والتي نُشرت أول مرة عام 2020، وقد صدرت روايته الأولى «Sıcak Kafa» في 2016. ولعل دراسة «أفشين» لهندسة الكمبيوتر في جامعة البوسفور، والسينما والتلفزيون في جامعة بيلغي، وعمله كمطور برمجيات ومدير في مؤسسات مختلفة، قد لعب دوراً هاماً في استلهام فكرة الرواية.

يروي المسلسل الذي يجمع بين الخيال العلمي والتشويق قصة شاب يقيم في ضواحي مدينة إسطنبول يدعى «غوكان»، ويعمل في ورشة للحدادة، وهو شاب معروف في حيّه بأنه محترم، ومؤمن، وصادق، يعمل بجد، وجميع من حوله راضون عنه.

في أحد الأيام، تصل غوكان رسالة عبر تطبيق هاتفي من مستخدم يدعى «كبرى» مفادها: "أنت مختلف"، بداية تجاهل الرسالة الأولى، ولكن مع ازدياد عدد الرسائل، وإثبات «كبرى» أنها تعرف الكثير عنه وعمّن حوله، وأن بإمكانها التنبؤ ببعض الحوادث المستقبلية، ازداد فضوله، وتوصّل إلى قناعة بأن هناك قوة إلهية وراءها، فخرج إلى الناس، وأعلن لهم بأن الله يكلمه، ولتأكيد ذلك، أُرفقت الرسائل بقطع الكهرباء بشكل كامل عن المدينة، ثم إطلاق صوت حاد يصمّ الآذان.

وبما أن مجتمعاتنا عاطفية، انساق خلف غوكان (والذي لُقّب أيضاً بـ «سماوي») الكثير من أصدقائه وأقربائه وأفراد من حيّه، وقد وصل الأمر بهم إلى تقديسه، والدفاع عنه بأرواحهم.

حاجتنا كبشر للمعجزة

عندما تلقى غوكان أول رسالة، كان يعاني من حالة اكتئاب وشعور باللا جدوى، ومن اضطراب ما بعد الصدمة جرّاء حادثة رهيبة حصلت معه في الماضي حين كان مجنداً في الجيش، ما دفعه إلى البحث عن معنى لوجوده؛ فجاءت «كبرى» لتنقذه من جحيم اليأس الذي يعيشه.

ثم، وتماشياً مع الحاجة للمعجزة، تقوم خطيبته وبالتعاون مع أحد أصدقائه، بفبركة معجزة ينجو خلالها «سماوي» من الموت أمام جمع من الناس والصحفيين، وذلك من أجل انتشاله من العزلة والاكتئاب اللذين وقع في براثنهما مجدداً.

وعلى الرغم من اطلاع غوكان على حقيقة «كبرى» وحقيقة نجاته من الموت بأعجوبة في نهاية المطاف، إلا أنه يستمر بتصديق أهميته كمصلح لمجتمع طغى عليه الفساد الذي أعطب أرواح الناس.

الذكاء الاصطناعي يشهد تطوراً سريعاً ويؤثر في مختلف جوانب حياتنا الحديثة، وهو تطور يثير مخاوف حول تأثيره على الأديان والجوانب الاعتقادية والأخلاقية للإنسان

وهذا ما يدفعنا لطرح مسائل مهمة منها: إمكانية استمرار تأثير الأديان السماوية على الإنسان المعاصر، وحاجته اليوم إلى إحياء تلك الأديان عبر معجزات جديدة تواكب العصر، ومدى حاجتنا كبشر للمعجزة في زمن التطور التقني؛ حاجة تخطت انتظار المعجزة إلى صنعها، فنحن في صنعها لم نخرج عن إطار المادي والملموس، لذا نحتاج أن نرى الأمور الخارقة للعادة بأعيننا، إذ لم تعد الحكايات المتواترة تفي بالغرض.

سيكولوجيا الجماهير الرقمية

خلقت «كبرى» قائداً تجمعت الجماهير حوله، لتختبر كيفية تشكيل الأيديولوجيات لدى البشر، من خلال تجربة اجتماعية، فما إن يجتمع عدد من الكائنات الحية، حتى يضعوا أنفسهم بشكل غريزي تحت سُلطة زعيم ما؛ يلعب دوراً ضخماً بالنسبة للحشود البشرية؛ وقد وقع اختيارها على غوكان لأنه يمتلك هيبة ونوعاً من الجاذبية تجعلان من حوله يطيعه طاعة عمياء.

واختارت ثيمة «الدين» لأن الجماهير لا يمكن تحريكها والتأثير عليها إلا بوساطة العواطف والشعارات، والتأثير على الفرد الـمُنخَرِط في الجمهور يتم بالتركيز على عواطف المجد والشرف والدين والوطن لديه؛ ومن يعرف كيفية إيهام الجماهير يصبح سيداً لهم، أما من يحاول قشع الأوهام عنهم؛ يصبح ضحية لهم.

وهكذا، انطلقت دعوة سماوي، والذي تعكس أخلاقه وتصرفاته الإنسانية، ومهنته المتواضعة، ما وصلنا تاريخياً عن صفات بعض الرسل والأنبياء، إضافة إلى ادّعائه بأنه رسول جاء برسالة من عند الله عز وجلّ لينشر السلام، ويدعو إلى نبذ العنف والتطرف، ورفْع الظلم عن المظلومين، ومن هنا جاء تركيز صناع المسلسل على الجموع التي تميزت بالفوضى والتشتت النفسي وعدم التواصل، فراحت تبحث عن الطمأنينة، وتعتنقها، حتى لو جاءت عن طريق تطبيق رقمي، وانجذبت إلى الخطب الدورية التي يلقيها هذا الشاب البسيط عن التسامح والمحبة والإخاء بين البشر، مما خلق طائفة دينية من نوع جديد تؤمن بـ "الدين الاصطناعي"، لتكرّس تعلقنا بالتكنولوجيا، وتبرز مدى تأثير التحول الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا.

وكما يقول «غوستاف لو بون» في كتابه الشهير سيكولوجيا الجماهير: "إن من العوامل المشكّلة لعقائد الجماهير، هي الشعارات؛ فمُخيِّلة الجماهير تتأثر بالصوَر بشكل خاص، وكذلك قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحياناً أكبر قدرة على التأثير."

دين افتراضي

يحاول المسلسل تصدير إمكانية اختراق السردية الدينية، وإمكانية التلاعب بها آنياً، فيضع المشاهد في مواجهة دين من نوع جديد في عصر الذكاء الاصطناعي، ويدفعه للتساؤل حول قدرة الدين الاصطناعي المزعوم على استبدال الأديان السائدة، ما سيتسبب حتماً في اندثارها بعد حين.

فالذكاء الاصطناعي يشهد تطوراً سريعاً ويؤثر في مختلف جوانب حياتنا الحديثة، وهو تطور يثير مخاوف حول تأثيره على الأديان والجوانب الاعتقادية والأخلاقية للإنسان، حيث يمكن أن يكون تحدياً وفرصة في الوقت نفسه؛ فمن ناحية، يمكن استخدامه لأغراض سيئة أو تغيير الديناميات الاجتماعية، ومن ناحية أخرى، يمكن أن يساهم في تطوير أدواتٍ تعزز الفهم الديني وتوفر إجابات على الأسئلة الدينية. ولأن «كبرى» تعي تماماً أنه لا يمكنها أن تحل محل الإنسان في العبادة والتواصل مع الله، لذا آثرت الوصول إلى البشر عن طريق كائن بشري مثلهم، بدل ادّعاء النبوة بنفسها، ونشر رسالتها عبر شبكات التواصل والإعلام، متسللة إليه عبر تطبيق يجمع مستخدميه المؤمنين افتراضياً، مستمدة حججاً قوية من القرآن، ومستندة على نظريات التحليل النفسي وعلم نفس المجتمع.

استخدام الدعوة الدينية كغطاء للمصالح السلطوية

مع سطوع نجم «سماوي»، وتعاظم عدد أتباعه ومريديه، واستقبالهم التبرعات المالية والعينية من كل حدب وصوب، يحاول أحد المسؤولين استغلاله لتعزيز مركزه في الحكومة وبين أفراد الشعب، إلا أن غوكان يرفض رفضاً قاطعاً الخضوع لطلب المسؤول؛ فالدين عنده أسمى من أن يتحول إلى وسيلة لتحقيق مصالح شخصية، وأداة للتلاعب والتحكم بالناس، ويحاول من خلال رسالته ضمان أن يكون الدين قوة إيجابية تسهم في تحقيق العدالة والمساواة.

وفي هذا الإطار يقدم لنا المسلسل أسلوب تعاطي السلطة مع الدين والعلاقة القديمة المتجددة معه، ففي العديد من البلدان، وعلى الرغم من التطورات الاجتماعية والسياسية، ما يزال استغلال السلطة للدين قائماً في أيامنا الحالية، باعتباره أداة قوية يمكن استخدامها لتبرير القرارات السياسية والتحكم في الشعب، وذلك من خلال توجيه الخطب والمواعظ بما يخدم مصالح الحكومة أو النظام الحاكم، كما تُستخدم المفاهيم الدينية للحفاظ على السلطة وقمع الحريات الشخصية والتعبير، ومن ضمنها استخدام فتاوى دينية لتبرير القمع والتشدد في السياسة والمجتمع.

مما سبق، يتضح أن للدين أهمية في كافة المجتمعات، وقد بدأ الحديث عن أن القرن الحادي والعشرين هو قرن ديني بامتياز، في ضوء ظاهرة الانبعاث الديني من جديد، واستخدام الدين من قِبل كافة الأطراف، سواء الدولة (السلطة الحاكمة) أو القوى الاجتماعية الأخرى، إن كان بهدف تبرير الطاعة للحاكم أو للدفع بالثورة ضده، ولا يقتصر الحديث على الدين الإسلامي وحده، ففي إسرائيل مثلاً؛ استخدمت القوى والجماعات الدينية (اليهودية) الدين لدعم القدرات العسكرية للجيش، عبر إعطاء محاضرات عن الدين للجنود، وفي بعض الأحيان دعوة الجنود لرفض أوامر قادتهم. كما يرى بعض القوميين اليهود أن الكنيست (البرلمان) يعتمد على الشرائع غير اليهودية أكثر من اعتماده على الشرائع اليهودية، التي يجب أن يكون لها السمو والهيمنة.

ومن الجدير بالذكر أن تركيا قد تقدمت في مجال الأعمال الفنية الرقمية، حيث أصبح الأستوديو الفني التركي «Ouchhh»، المتخصص في إنتاج أعمال فنية رقمية، الأول في إرسال عمل له ببيانات الذكاء الصناعي إلى القمر، يحمل اسم «أطلس الخلايا البشرية» ويعد أكبر مجموعة بيانات أُنتجت عن جسم الإنسان في العالم، والذي نزل على سطح القمر في الأسابيع الماضية بوساطة صاروخ لشركة «سبيس إكس». إضافة إلى أن صناعة السينما والمسلسلات في تركيا قد تطورت خلال الآونة الأخيرة، وقد ذكر رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية «فخر الدين ألطون» بأن الطلب على المسلسلات التركية ازداد عالمياً في السنوات الثلاث الأخيرة بنسبة 183 بالمئة، مضيفاً أن نحو مليار شخص في أنحاء العالم يتابعون المسلسلات التركية.

وعليه، فليس من المستغرب ألا تكون «كبرى» أول عمل تركي درامي حول الذكاء الاصطناعي؛ فقد سبقته عدة أعمال مثل «Börü 2039»، «İspanya'da Yağmur»، «.H.O.M.E»، وغيرها، ولكنها أعمال ركزت في مجملها، كما تجري العادة، على هيمنة الذكاء الاصطناعي على البشر الذين يقومون في المقابل بمحاربته واسترداد مكانتهم كأسياد لهذا الكوكب.

أما ما يميز هذا المسلسل هو أنه يمزج بين التصوف والتشويق والضعف الإنساني، ويتعمق في نفوس شخصياته، حيث يستكشف مخاوفهم وشكوكهم وهواجسهم، في حين تقود السرد الروابط العاطفية بين الشخصيات، وقد حرص مبتكروه على جذب انتباه المشاهدين منذ الحلقة الأولى بالغموض الذي أضفوه على القصة، وترْكِهم ليخمنوا نوايا «كبرى» الحقيقية ضمن إطار من التوتر الذي يستمر في التصاعد حتى نهاية الحلقة الثامنة.

وعلى الرغم من أن الأعمال الدرامية التي تتناول ثيمة الذكاء الاصطناعي تكون – في مجملها – سوداوية، وتنتهي بفناء البشر وسيطرة الآلة، إلا أن نهاية «كبرى» ليست واضحة بعد، ولا يستطيع المشاهد استشراف الأحداث القادمة من خلال حلقات الموسم الأول وحدها، ما يجعل العمل مثيراً للاهتمام، ويحثّ الجمهور على انتظار التتمة بفارغ الصبر.