icon
التغطية الحية

المسرح وهواجس الذات الثورية إزاء قضايا الجماعة

2022.03.04 | 09:05 دمشق

mhmd_altar-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

في العام 2012، كتب المسرحي (محمد العطار) نصه (فيك تتطلع بالكاميرا؟)[ii]، الذي يروي حكاية الثلاينية (نورا) العاملة في مجال الإعلان، والتي تجد نفسها منخرطة في تجربة تحقيق فيلم للمرة الأولى في حياتها، فتشرع في تصوير شهادات المعتقلين والمعتقلات السياسيين في شهور الانتفاضة الأولى.

 أسئلة الفاعلية السياسية والمشاركة الثورية

لكن هذه الرغبة التي تتوسع مع مجريات الأحداث والتغيرات التي تطرأ على حياة (نورا) تبقى موضع شك وتساؤل عندها، لتشاركها تالياً مع الناشطين والناشطات الجالسين أمام كاميراتها، ولذلك تظهر حوارات بين الشخصيات تحاول أن تكشف الأسباب التي دفعت كلاً منها للمشاركة في الحدث السياسي، أو تحاول أن تفسر السلوكيات التي قامت بها الشخصيات. ورغم أن نورا وغيرها من النشطاء في المسرحية يتابعون تحقيق إردات دوافعهم إلا أنهم يبقون على حالة من التساؤل التي تسمح بمناقشة دور الفرد في الحراك الجمعي أو النشاط السياسي.

 

من عرض فيك تتطلع بالكاميرا (1).jpg
من عرض (فيك تتطلع بالكاميرا؟)

 

تجري الأحداث بين شهري أيلول وكانون الأول 2011 في أحد أحياء وسط دمشق، خشبة المسرح هي غرفة في شقة صغيرة تملكها نورا، كانت تستخدم سابقاً كمكتب محاماة. وتتنوع فئات النشطاء والناشطات اللواتي يقدمن شهادتهن في نص (محمد العطار)، ويظهر الجهد الكبير في تنويع مضامين الشهادات لتشمل زوايا رؤية متنوعة لمعايشة تجربة الاعتقال، وتتخصص بعض الشهادات بتجربة العيش داخل المعتقل في وصف العزلة والظلمة والتعذيب، وتتضمن شهادات أخرى الأسئلة المتعلقة بموضوعة المتعة للمشاركة في النضال، أو جواباً على أسئلة الفاعلية والمشاركة:

"لما كانوا يضربوني كنت غمض عيوني وفكر بأشياء تانية، فكر بكل شي عملتو مشان الثورة، وأحمِد ربي على كل شي قدرت أعملو". وهيك أنا عملت، وسبحان الله مع كل الوجع كان تنتابني مشاعر لذة غريبة، كنت مبسوط إني أنا هون محل ناس تانيين، كنت اتذكر رفقاتي وحس كأني عم أتعذب عني وعنهون".

"أول شكل للأمل هو الخوف، وأول مظهر للجديد هو الرعب" هاينر مولر.

ينقسم النص سردياً إلى لوحات منها تلك المتعلقة بالشهادات التي يرويها النشطاء أمام كاميرا نورا، ومنها تلك اللوحات التي تتخصص بسرد حكاية (نورا) الشخصية. بالإضافة إلى غموض إدراك نورا لدوافعها للقيام بهذا النشاط الفيلمي، فإنها تعاني من معارضة أخيها المقرب (غسان)، وهو محامي ويدير مع والده الشركة التي تملكها العائلة. إن التشتت في رؤية نورا للحدث من حولها يسمح لأخيها بتشكيل خطاب يدفعها إلى الخوف من مجريات الأمور أولاً، وإلى الشك بنفسها وقدرتها على تحقيق المشروع. لا يرغب (غسان) أن يصرح مباشرةً بمعارضته لما تقوم به أخته، ولذلك يلجأ إلى تثبيط قدراتها الذاتية على تحقيق المشروع التي تطمح له حتى النهاية.

"غسان: ليكي نورا، أنا بعرفك أكتر من حالك، حتى إذا بلشت بهالشغلة، فما رح تكفي فيها. فكري شوي، القصص هلق ما عاد فيها مزح، البلد كلها على كف عفريت

نورا: ما بعرف، حاسة بعجز رهيب، كل اللي عم بيصير حوالينا وأنا عم إتفرج. ما عاد فيني إتفرج أكتر من هيك".

عاش المسرحي الألماني (هاينر مولر) بين ديكتاتورية الشيوعية والرأسمالية، وكما كتب عنه (فواز طرابلسي)، فقد عايش التعارض بين المبادئ الاشتراكية والانتهاكات القمعية في ألمانيا الشرقية، وقد استلهم أسلوب الرسام غويا الذي عاش تجرية الصراع بين الثورة الفرنسية والاحتلال الفرنسي لبلاده: "فبدأت لوحاته تهاجم الواقع، وبذلك استلهم مولر فكرة الفن الذي يعتدي على الواقع".

 

المسرحي هاينر مولر.jpg
مولر (1929- 1995)

 

لقد جسدت مسرحياته في السبعينيات الانقسام المجتمعي الألماني حيث تضم عائلات حكاياته إخوة في انتماءات سياسية متصارعة؛ أخ نازي والآخر شيوعي. وتحت عنوان (مولر أو مسرح العدوان على الواقع) يتابع (طرابلسي): "يدافع مولر عن الفرد بما هو ضحية قمع قوى المجتمع الصناعي الحديث، حتى وهو يتوقع هزيمة الفرد واختفاءه.  ومولر علاقة غريبة بالأمل. يؤمن بالصراع، ويسعى في كتاباته إلى الإضاءة على جدليات النزاع والمجابهات والتناقضات، وهو قريب من بيكاسو في ميله إلى أساليب الضغط الاختزال والصهر، الإبداع عنده فعل قسر وعنف. لاذع ويبالغ بالتهكم".

وكذلك الأمر مع الفعل الإبداعي في مسرحية (فيك تتطلع بالكاميرا؟)، فليس تحقيق فيلم توثيقي عن تجارب التعذيب والاعتقال بالمشروع القائم على المتعة الفنية، فتدخل نورا في تفاصيل أساليب التعذيب التي عايشتها الشهادات، وتتطلع على الندوب والتشوهات التي مازالت على أجساد الضحايا، وتركز عدسة كاميراتها على الآلأم القاسية، بالإضافة إلى أن جلسات التصوير مع الشاهد/ة تجري في الخفاء، ويجب أن يتم التحضير واللقاء بالسر بعيداً عن أيّ رقابة أهلية أو أمنية. ويركز الكاتب على الأثر النفسي لتجربة التصوير والإنصات.

رغم المخاطر الشخصية والآثار النفسية العميقة إلا أن الشخصيات تستمر في الإندفاع تجاه العمل الناشطي. فتتكرر في عدد من الشهادات حالة إقدام الأفراد على العمل الناشطي أو المساعدة وهو ما يزال في طور التساؤل عن السبب الكامن وراء سلوكه. فكما هي نورا تصور وتحقق فيلماً وهي ما تزال في طور التساؤل عن غايتها العميقة، فإن العديد من الناشطات والنشطاء يكررون تساؤلاتهم عن منابع دوافعهم، كما هو الحال مع طالبة الأدب انكليزي (فرح) التي تعتقل مع صديقتها أثناء مشاركتهما مظاهرة في منطقة الميدان في دمشق.

يروي أبطال فيلم (نورا) عن "الناس يلي اجتمعت وقامت بضرب الناشطات المتظاهرات"، ويتناقشون عن الأسباب التي تجعلهم يعتقلون ويتعرضون للتعذيب، ورويداً رويداً يتشكل الوعي السياسي- الحقوقي في ذهن النشطاء الشباب والشابات، فإن كانت المشاركة الفردية في الحدث الجمعي تبدأ مع الشعور بالتعاضد الأخلاقي، فإن فكر الفرد المتابع للحدث ما يلبث أن يمتلك وعياً حقوقياً على أقل تقدير أمام تكرار الجرائم والاعتداءات.

التجارب الذاتية كأحداث سياسية

أيضاً اهتم مسرح (هاينر مولر) بالضحية المقدمة لأجل المسيرة الثورية، ودمج نص لبروتولد بريشت بعنوان (القرار) عن مجموعة من الشيوعيين الصينيين اضطر أفرادها إلى قتل زميلهم لأجل الثورة، عالجها مولر في إطار تاريخي مختلف لكنه أبقى على موضوعة القتل أو العنف فداءً للثورة. إن موضوعته الأثيرة هي السحق الذي تمارسه الجماعة الثورية بحق الفرد، لذلك تتشكل نصوص مسرحياته من حوارات بين الجوقة والفرد المجهول الاسم يرمز بحرف (أ)، والذي تطلب منه الجوقة الثورية بعد النضال الطويل أن يموت، لأن الثورة لا تحتمل البطولة المستمرة.

كذلك الأمر مع هاوية التصوير (نورا) التي بدأت بتسجيل بوح أصدقاءها بآلامهم/ن، فأصبحت تمتلك رأياً حقوقياً يتبنى فكرة استعادة العدالة وتحقيق المحاسبة في مستقبل البلاد. وتظهر الحوارات التالية أن الشخصيات التي تدلي بشهاداتها أمام الكاميرا لا تعتبر رويها لتجربة اعتقالها كفعل سياسي، بل هو في إطار حاجة الإنسان إلى السرد وروي الحكاية.

وهكذا، يسعى المؤلف أن يحيط بالجانب النفسي للضحايا الذين يدفعهم إلى رغبة الروي عن تجاربهم/ن، لكن هذه الرواية الذاتية للآلام والعذابات تنطوي بالإكراه على مضمون سياسي. كأن النص يوضح لنا أن الحدث الذاتي كالبوح يتحول في لحظة التعذيب إلى فعل سياسي. وبالتالي، لا ينبع الفعل السياسي من دافع النظرية أو الرؤية الإيديولوجية، بل ببساطة هو عملية سرد لمشاعر المعتقل أو المعتقلة الذاتية.

من خلال  الحوارات القاسية التي تجري بينها وبين أخيها، ندرك أن نورا ما تزال في حالة التساؤل عن الدوافع الموجهة لأفعالها، لكن النص يكشف لنا بمنطقية عن المرحلة التالية، فبعد التعاضد، التعاطف، الوعي الحقوقي، يدخل الفرد في مرحلة متعلقة بالمسؤولية المهنية. لقد دفعت نورا النشطاء إلى البوح أمام كاميرتها ومع تقدم الأيام أصبحت تشعر بمسؤولية نابعة من اختصاصها أو مهنتها، والفيلم الذي كان عبارة عن كاميرا ثابتة تصور أحاديث الأصدقاء تحول إلى مسؤولية عميقة تجاههم/ن.

تلعب شخصية الأخ (غسان) محركاً ديناميكياً في مساءلة شخصية نورا لأعماق سلوكياتها وأفكارها، فهو لا يمثل المعارض التقليدي في العائلات المحافظة والرافضة لدور المرأة، وإنما هو يشكل الخطاب الذي يقلق المجموع المجتمعي، فالحجج أو بالأدق المخاوف أو الأفكار المشتتة التي يشكلها المجتمع حول الحدث السياسي تجعل من غموض المستقبل حجة لصالح رافضي التغيير.

النضال السياسي والإبداع الفني كنزوات الأنا

تبقى أعمق الأسئلة في الذات المشاركة في الفعل السياسي أو المبدعة لعمل فني تتعلق بنزوات الأنا الذاتية، هل هذه البطولة للتفاخر؟ هل هذا الفيلم واللقاءات مع ضحايا التعذيب للشهرة؟ لا شك أن هذا مونولوج شخصية مثل نورا ومحيطها من النشطاء الشباب الجدد. ويمكن أن يوجه هذا الاتهام من الخارج- الاجتماعي، إلا أنه حاضر في أعماق الذات الفاعلة سياسياً والساعية لتحقيق عمل فني اجتماعياً.

"غسان: وإنت بتصدقي كل شي طبعاً! اتطلعي فيني منيح، إنت بدك تعملي فيلم وتقولي للناس شوفوني يا ناس كيف عملت فيلم عن المُعتقلين. هاد فيلمك إنت ومو مهم شو بدو يوصل للناس، المهم إنو إنت أخيراً رح تعملي فيلم، بدل البوسترات والدعايات السخيفة، وعن شو؟ عن أخطر موضوع ممكن، برافو" (يصفق).

بالإضافة إلى الحوارات المسرحية وشهادات المعتقلين والمعتقلات التي تتناول موضوعة المشاركة السياسية أو الفاعلية في الحراك الجمعي، يأتي المصير الذي رسمه المؤلف للشخصية في نهاية القصة والتي تبين مقدار التحول الداخلي خلال تجربة التصوير. من اللوحة الأولى إلى اللوحة الأخيرة (الـ19)، يتغير مصير نورا من مصورة فيديوهات لشهادات المعتقلين والمعتقلات إلى أن تصبح هي بذاتها معتقلة. تجري اللوحة الأخيرة في نهاية كانون الأول 2011، داخل أحد الفروع الأمنية، حيث الحوار الأخير بين الأخ غسان وأخته المعتدة والمعتقلة نورا والتي توحي بمشاعر الاعتزاز.

إن القلق من الانخراط الفردي في تيار الجوقة الجماعي، وخصوصاً في الحدث الثوري موضوعة موجودة في مسرح (جورج بوشنر، بيتر فايس، جان جينيه)، أما (هاينر مولر) فيوسع من رمزية الحبكة ليتطلب من الفرد الإقتناع بموته لأجل المصلحة الثورية العامة. إنه قلق الذات الفردية في خيار الانخراط أو الاعتكاف عن الحدث الجمعي، الانتماء أو الانتقاد للقيم الجمعية، هي الأسئلة التي شغلت ذهن المسرحيين والكتاب في الأعمال السابقة. لذلك، ينبه المسرح الثوري عند مولر من انسحاق الفرد وفقدانه القدرة النقدية، أما الكاتب العطار فهو يقدم من خلال نص طويل مراحل الاندماج الفردي في القضية الجمعية من التعاطف إلى تشكيل رأي سياسي واجتماعي ربما يخدع الذات في قضايا الجماعة، لكنه بلا شك دافع للإبداع الفني كما رأينا مع (نورا والعطار ومولر).

 


[ii] - "فيك تتطلع على الكاميرا؟"- 2012: أنجز النص في طوره الأول وقُدم كقراءة مسرحية أيضاً في مهرحان Meeting Points  قبل أن يقدم كعرض ناجز للمرة الأولى في سيؤول بكوريا قبل أن يقدم لليلة واحدة على خشبة دوار الشمس في بيروت ، وترجم النص للغات عديدة وقدم بنسخة إنجليزية وكذلك في نسخة المانية ونسخة فرنسية. أخرج النسخة العربية المخرج (عمر أبو سعدة). (المعلومات من لقاء مع الكاتب).