icon
التغطية الحية

"القريّا" الصرح الذي يحمي التاريخ من الغياب

2023.09.02 | 16:28 دمشق

سويدا
+A
حجم الخط
-A

"القريّا" بلد صرح الثورة السورية الكبرى، وموطن رفاة سلطان باشا الأطرش. واليوم هي البلدة التي يعلو صوتها منذ أسبوعين، مطالبا بحق الشعب السوري بالحياة في دولة يحكمها قانون المواطنة والعدالة، وبنظام حكم يعيد لسوريا موقعها كأقدم حضارات الأرض.  

تقع القريا جنوبي محافظة السويداء وعلى بعد عشرين كيلومتراً من مركز المدينة. وعلى الرغم من أن عدد سكانها لا يتجاوز الـ5000 نسمة، ولكن لا يمكنك أن تأتي إليها من دون أن تحدّثك عن نفسها. يستقبلك مدخلها الجميل، الذي تحتفي فيه أشجار النخيل بزائرها مثلما يبتهج العنب على باب كل بيت فيها. ومذ تدخُلها، يقول لك صرح الثورة السورية الكبرى، العالي فيها، إنّك هنا في بلد العزّ والشهامة، بلد التاريخ الذي لا ينسى، ولا يموت.

يظهر التاريخ القديم لهذه البلدة من خلال آثار تنتشر في أنحائها، وتدلّ على أنّها كانت مسكونة ومأهولة بالبشر منذ العصور الحجرية. إلا أن الآثار الرومانية تشكّل الجزء الأكبر من جغرافيا البلدة.

أما اسم القريا فيعود إلى كلمة "القِرى"، والتي تعني "إطعام الضيف الآتي من أيّ مكان وإكرامه مهما طالت إقامته". وقد اعتادت هذه البلدة على وجود الضيوف الدائمين والأعداد الكبيرة من الزائرين طيلة أيّام وشهور السنة، وهذه سمة عامة لدى أهل جبل العرب، كالعديد من المناطق السورية.                            

ولعل ما زاد من شهرة هذه البلدة داخل سوريا وخارجها هو تسطير اسمها في التاريخ الحديث، حين انطلقت منها شرارة الثورة السورية الكبرى في عام 1925، بقيادة أحد أهم زعمائها، سلطان باشا الأطرش، لتقدّم هذه البلدة الصغيرة عدداً كبيراً من شهداء الثورة، ولتكون منارة للحرية.

في هذه البلدة، البعيدة والبسيطة، كانت تُعقد أهمّ اجتماعات الثوار، وكانت تُدار ثورة كاملة ضدّ الاستعمار الفرنسي من جنباتها وبيوت أهلها ووجهائها. ولذلك نرى أن أهمّ ما تتباهى به هذه البلدة هو مضافة سلطان باشا الأطرش، التي ما تزال إلى يومنا هذا قائمة بكلّ مقتنياتها الأصلية والأصيلة، مشكّلةً قبلة للزائرين والسياح الذين يأتونها ليعيشوا التجربة الحقيقية لتاريخها، وليقرأوا وصية سلطان باشا التي لا تزال معلّقة في زاويتها. تلك الوصية التي نادى فيها الأطرش: "إلى السلاح إلى السلاح، ما أُخِذ بالقوّة لا يسترد بغيرها". والتي أطلق فيها عبارته الشهيرة: "الدين لله والوطن للجميع".

وهناك، في تلك المضافة، يمكن للزوّار والسيّاح أن يشربوا القهوة المرّة، كما كان يشربها الفرسان قبل ذهابهم إلى أرض المعركة، قبل قرن من الزمان.

من جهة أخرى، نجد أن صرح الثورة السورية الكبرى، الذي بُنِيَ فيها حديثاً، والذي كلّف الكثير من الأموال ليظهر على هذا الشكل الجميل والضخم والمميّز معمارياً وجمالياً، هو ما يميّزها الآن عن أيّ مكان آخر في سوريا، وهو ما يجعل تاريخها حاضراً في كلّ لحظة.

القريا
صرح الثورة السورية

يتألّف هذا الصرح من بناء ضخم مغطّى بحجر البازلت الأسود، تعلوه أعمدة عالية جداً تجعله مرئيَاً ومنظوراً من أيّ مكان داخل البلدة. وتحيط به ساحة كبيرة مرصوفة بالحجارة السوداء. وداخل الصرح يتربع متحف غنيّ يضمّ قطعاً نادرة تدلّ على الثورة السورية وتاريخها، بالإضافة إلى رفاة سلطان باشا الأطرش، الذي يرقد هناك ويحرس التاريخ من النوم.

وفي بلدة القريا أيضا، عُلّق أوّل علم عربي قبل وصول أوّل حكومة إلى دمشق بعد انسحاب العثمانيين. وقد حيك هذا العلم على يد سمية، شقيقة سلطان الأطرش قبل أن يعلّقه أحد أبنائها في ساحة المرجة.

حاضر القريا هو ابن ماضيها، إذ تزدان بنسبة كبيرة جدا من المتعلمين وحاملي الشهادات الجامعية والأساتذة الجامعيين، إضافة إلى عدد من الكتّاب والفنانين، من بينهم  سميح شقير والفنانة ضحى الدبس والفنان معروف شقير الذي طوع البازلت فيها. واللافت في البلدة هو النسبة المرتفعة جدّا من النساء المتعلمات تبعا لعدد السكان، ولربما تكون من أعلى النسب في الوطن العربي.

كلّ هذا جعل من القريا منبرا حقيقيا لكثير من الفعاليات الثقافية، خصوصا تلك التي كانت تتمّ بشكل غير رسمي والتي كانت تحاول الهروب من سلطة النظام، إذ بقيت البلدة  ولفترة طويلة تستقبل أسبوعيا أحد الكتّاب في إحدى مضافاتها، مع عدد كبير من مثقفيها، ليدور حوار رائع بألفة نادرا ما تتكرّر. هذا ما جعل نظام الأسد يعزّز من حجم الوجود الأمني فيها، ويعتقل عدداً من شبابها منذ التسعينيّات.

أما في ثورة الشعب السوري ضدّ نظام الطاغية، فقد كانت القريا من أوّل أماكن محافظة السويداء التي شهدت حراكاً سلمياً مدنياً، لتقوم فيها مظاهرات تنادي وتدعم درعا وحمص وحماة، وليمارس النظام عليها أشد حالات القمع والاعتقال، ولتزفّ العديد من شبانها شهداء مدنيين وآخرين تحت التعذيب. وما تزال القريا اليوم، رغم كلّ ما يجتاح سوريا، تردّد للسوريين جميعاً مقولة سلطان الأطرش: "الدين لله والوطن للجميع"، وتنهض كل صباح محملة بحلم لا يذبل.

صرح
من داخل صرح الثورة