icon
التغطية الحية

الـدّاد.. يا مـدّاد!

2023.10.07 | 15:46 دمشق

حدد
نقش حجري للإله "حدد"
+A
حجم الخط
-A

بعض الأساطير والمعتقدات لا تموت كليًا، لكنها، لطول العهد، قد تأخذ شكلاً يُنسينا أصلها ونشأتها رغم استخدامنا لِشيء من رُكامها اللغوي. ففي ريفنا الفراتي في الشمال الشرقي من سوريا، كنا نسمع تعبيراً مثل، "ظلت تُمطر حتى صِحْنا الدَّاد!" (أي، حتى استغثنا بقوة ما اسمها الدَّاد) أو قد تَنْهَر أمٌ ولدها الشقي بقولها له، "الدَّاد منّك" (أي، أنها تستعيذ بتلك القوة من ولدها العابث). فما معنى الدَّاد وما أصلها؟ الطريف في الأمر أن التعبير مستخدَم أيضًا في العراق والكويت، أي في بلاد الرافدين التاريخية ومحيطها. على سبيل المثال، يقول الصحفي الكويتي يوسف عبد الرحمن، "الدَّاد كلمة كويتية تُستخدم في لهجتنا وهي وسيلة (توسل) الى الله، ويقولها الناس على ألسنتهم في حال الضنى والوجع إذا أتعبهم شيء قالوا: الدَّاد الدَّاد! وبعضهم يضيف: الدَّاد، الدَّاد يا رب العباد!"

يبدو لي أن كلمة الدَّاد بلفظها الحالي ما هي إلا تحويرٌ لاسم أدَد، إله الطقس عند البابليين والآشوريين. لكن كيف يمكن أن يستغيث مسلمو اليوم بإله وثني غابر؟ أم أن للكلمة أصلًا عربيًا ولا علاقة لها بذلك الإله الوثني؟ بدايةً، لا بد أن نتذكر أن لهذا الإله البابلي-الآشوري وجهين: وجهَ خيرٍ ووجهَ شرٍ. فهو، عند من يؤمنون به، واهبُ الحياة من خلال الأمطار التي يرسلها إلى أراضي أوليائه، ومُهلكُها من خلال العواصف والأعاصير التي يرسلها على مزروعات أعدائه. والساميون الغربيون (العموريون) يسمونه حَدَد.

لا يخلو الأمر من دلالة، بالنسبة إلي، حين لم أجد كلمة "الدَّاد" في «معجم الدوحة التاريخي» (المتوفر على الإنترنت). فغياب هذه المفردة من هذا المعجم التاريخي الشامل يعني أمرين: 1) أنها ليست من أصل عربي وأنها غير شائعة الاستعمال؛ 2) حتى وإن كانت الكلمة متداولةً على نطاق واسع، بصرف النظر عن أصلها غير العربي، فقد ظلت في إطار التراث الشفوي غير المُدوَّن رسميًا، شأنها في ذلك شأن كثير من كلامنا المحكي الذي لا يُدوَّن اليوم إلا في وسائل التواصل الاجتماعي. فما العمل إذن؟ لا بد من تأصيل هذه اللفظة، وإن كان ليس لدينا إلا التخمين وطرائق الاستدلال المنطقي، علمًا أنني لا أجزم بقطعية أي استنتاج أتوصل إليه مهما بدا مقنعًا لي، لكن حسبي أني أجتهد.

كيف تحولت كلمة "أدَد" إلى "الدَّاد"؟ كيف نفسر إضافة أل التعريف إلى الاسم؟ ومن أين أتت الألف الواقعة بين الدالَين؟

يستبعد المستعرب الفنلندي ياكّو هامين أنتيلا (Jaakko Hämeen-Anttila)، الأستاذ في جامعة إدِنبرا البريطانية، أن تكون اللغة العربية قد نجحت في طمس كل مفردات لغات العراق القديم أو أن تكون المسيحية والإسلام قد اجتثا كل المعتقدات الوثنية لدى شعوبه. إذ لا بد أن تنجو مفرداتٌ من الطوفان اللغوي الكاسح وتبقى قيد التداول، فتصبح رافدًا للغة السائدة الجديدة الدارجة (وهذا ما يطلق عليه عالم اللسانيات المصري د. رمضان عبد التواب، رحمه الله، اسم الركام اللغوي). وما يصح على الركام اللغوي يصح على ركام العقائد الوثنية المندثرة.

هذه نظرية معقولة، ويمكننا أن نتوكأ عليها في محاولة بحثنا عن علاقة "الدَّاد" بأدَد، إله الطقس عند البابليين والآشوريين، ولعل "أدَد" جمعت بين الركامَين اللغوي والعَقَدي. وبما أن مفردة "الدَّاد" لم تُدَوَّن في بطون الكتب، فهذا يجعل احتمال تَشَوُّه لفظِها الأصلي أمرًا واردًا. فمن المحتمل أن التعبير الأصلي، لو دُوِّن، كان "فلان يصيح أدَد [وليس الدَّاد]" (بمعنى أنه في كَرْب شديد ويستغيث، كما كان عَبَدةُ أدَد يستغيثون به لينزل عليهم المطر أو ليرفع عنهم شر العواصف والأعاصير). لكن مع مرور الزمن ونسيان الناس معنى "أدَد" باندثار العبادة الوثنية، فقدت الكلمة معناها الأصلي، فيما يبدو، واحتفظت بوظيفتها الأصلية: الاستغاثة! إذن، مع فقدان الكلمة معناها الأصلي باندثار سياقها الوثني، صارت تعبيرًا إيمانيًا توحيديًا صِرفًا. والدليل على كونها تعبيرًا إيمانيًا توحيديًا هو أن المؤمنين الموحِّدين أضافوا إليها، ربما في غفلةٍ تامةٍ عن أصلها الوثني، عباراتٍ من قبيل "يا مَدّاد" أو "يا ربَّ العباد" لتُبطِل بذلك نشأتَها الوثنيةَ ولا تترك مجالًا للشك في توحيد قائليها. وهذه مفارقة لغوية طريفة تجمع بين تعبيرين: واحد ذي نشأة وثنية وآخر ذي نشأة توحيدية!

أما صديقي د. موسى عباس فيرى أن "الدَّاد" ابتكارٌ من ضرورات السجْع، ودليله على ذلك أنها تُلْحَق أحيانًا بعبارة "يا مدّاد،" فجرى الجزءُ الأول على ألسنة العامة وسقط الثاني. بيد أن انتشار التعبير على نطاق واسع في بلاد الرافدين التاريخية ومحيطها (أدَد كان يُعبَد حتى حلب غربًا، بحسب الموسوعة البريطانية) يُملي علينا أن نتعمق في نشأة التعبير إلى ما هو أبعد من قضية السجْع. فالثابت في التعبيرين الكويتي والفراتي هو "الدَّاد" بينما المتحول هو تعبير الاستغاثة التوحيدي: "يا مدّاد" أو "يا رب العباد." وهذا يدل على أن "الدَّاد" هو الأصل الثابت، وأن ركن السجع الثاني، من الناحية التاريخية، هو الإضافة اللاحقة. ومما يدل على أصالة "الدَّاد" هو إمكانية الاستغناء عن ركن السجع الثاني في كثير من الأحيان. فإذا كان الأمر كذلك، فهل يُعقل أن تكون "الدَّاد" مجرد سَجْعٍ لا وظيفة له إلا ما تضيفه المحسنات البديعية في مثل هذا المقام؟ لا أظن ذلك.

لكن يبقى السؤال: كيف تحولت كلمة "أدَد" إلى "الدَّاد"؟ كيف نفسر إضافة أل التعريف إلى الاسم؟ ومن أين أتت الألف الواقعة بين الدالَين؟ تفسير هذا، برأيي، أمر يسير. فمع خلو المدونات الرسمية (كالمعاجم العربية) من كلمة "أدَد" ربما ظن الناطقون بها أنها تُنطق وتُكتَب "الدَّاد." وما ساعد على هذا الظن الخاطئ هو أن الدال حرفٌ شمسيٌّ يوجِب، في حال تعريف أي كلمة تبدأ بها، كتابة اللام وعدم لفظها. أما إضافة الألف الواقعة بين الدالين فيمكن تفسيرها بأكثر من وجه. فمن المعروف أن طول العهد يُعرِّض الألفاظ، ولا سيما ذات التداول العالي، إلى البلى اللفظي (والتعبير للدكتور رمضان عبد التواب، رحمه الله). لذلك لا يبقى اللفظ ثابتًا. على سبيل المثال، مدينة دَرعا كان اسمها في سالف العصور أذْرِعات، وقلعة شيزر (كما كانت تُسمى في زمن الحروب الصليبية) بات اسمها اليوم سيجَر عند السكان المحليين. من ناحية أخرى، ألا ترى أن مَن يستغيث بأدَد لا بد أن يُشْبِعَ حركة الفتح حتى تصبح ألفًا ممدودة؟ جرِّب أن تنادي شخصًا اسمه أحمد من مسافة 50 مترًا، على سبيل المثال. هل تناديه أحمَد أم أحماد؟ وهكذا أرى أن كثرة الاستغاثة بأدَد ربما أضافت إلى اسمه ألفًا متوسطة كرَّسها طول العهد حتى نُسِي الأصل.