icon
التغطية الحية

الغاوتشو والصعاليك بين الذاكرة الشعبية والمُنتَج الثقافي

2022.04.25 | 20:49 دمشق

ghawtshww.jpg
غاوتشو (kineshma.net)
+A
حجم الخط
-A

قد يكون للذاكرة الشعبية علاقةٌ وثيقةٌ بعملية تجميل القبح وتلميعه بالشَّكل الذي يجعله مقبولاً اجتماعياً وجمالياً، ويمكننا تفسير ذلك من خلال النظرية التي تقول إنَّ الجمال هو أصل القبح العارض وغير الأصلي في الأشياء، لا لشيءٍ سوى لأنَّه فارق الكمال واعتراه النقص، لذلك فإنَّ تلك الذاكرة تحاول رتق تلك الفجوة الجمالية؛ لأنَّها تسعى إلى تحقيق ذلك الكمال المفقود.

ومن هنا كانت الرغبة فيما ينبغي أن يكون عليه الموضوع الجمالي هي رؤيةٌ حالمةٌ لا تنطلق من وعي الواقع وعياً تاماً ومُدْرَكاً، إنَّما تنطلق من تلك الرغبة التي ترى العالم بمنظورها المثالي البعيد كلَّ البعد عن الواقع. وبناءً على ذلك فإنَّ شيوع محتوى الذاكرة الشعبية على نحو واسع يؤثِّر في المنتَج الثقافي بأنواعه كلها سواء في ذلك الشعر والقصة والرواية والمسرح، وبذلك تكاد لا تتوقَّف تلك الذاكرة على التأثير في المحتوى الثقافي سلباً وإيجاباً.

وقد رأيت أنَّ الغاوتشو والصعاليك من أفضل الأمثلة التي يمكن أن تُضرَب للكلام على ما أريد التحدُّث عنه، وذلك لشدة الآراء المتضاربة حولهما، والتي وصلت في مرحلةٍ ما إلى حدِّ التناقض، تراوحت هذه الآراء بين مؤيد ومعارض لها، وذلك نتيجةً لما قامت به الذاكرة الشعبية  والمنتَج الثقافي، إذ رسمتهما بصورٍ مختلفةٍ ومتناقضةٍ، ولم تقدِّم هذه الصور المنتجَة الحقيقة كما هي في الواقع، بل راحت ترسم بريشة خيالها الخصب الكثير من التفاصيل التي لا ندري حقيقتها على وجه التحديد.

إنَّ تسمية (غاوتشو) تحمل بعدين مختلفين دلالياً فهي تارة تحيل على رعاة الحيوانات (رعاة البقر بالتحديد) الذين كان ينُظر إليهم على أنَّهم فرسان كرماء النَفْس وطيبو المعشر، وكما تحيل من جهة أخرى على الوضيع والخسيس حين يتمُّ إطلاقها على مجموعة المجرمين والهاربين والمهربين، فالغاوتشو هنا تعني المجرم أو اليتيم أو المتشرَّد، وبذلك هم يتقاطعون مع الصعاليك الذين تعني تسميتهم تارةً الفقير الذي لا يملك شيئاً، وتعني تارةً أخرى المتسكِّع واللَّص والمحتال والمشرَّد.

برز الغاوتشو في أميركا الجنوبية بشكلٍ واضحٍ في نهاية القرن التاسع عشر، ولاقوا آنذاك شهرة واسعة حتَّى أصبحوا رموزاً شعبية ووطنية لما امتازوا به من روح المغامرة والمهارات القتالية، وبالتالي كانوا مادةً دسمةً لما سُمِّي لاحقاً بـ"أدب الغاوتشو" الذي تغنَّى فيه الشعراء بفروسية هؤلاء الرجال الأفذاذ، وعلى الرغم من أنَّ هذا الشعر استخدم قوالب شعرية غير دارجة وألفاظاً وتراكيب غير مترابطة، إلَّا أنَّه لاقى رواجاً عند فئةٍ من الناس الذين كانوا ينظرون إلى هؤلاء الرعاة الخارجين عن القانون نظرة احترام وتقديس.

وفي يومنا هذا أصبح الغاوتشو مثالاً يحتذى في لباسهم الذي غدا موضةً تتسابق دور الأزياء على تجسيدها بروح عصرية، حيث يمثِّل البنطال الأسود الواسع في أسفله مع القميص الأبيض المزين بمنديل أحمر ملفوف حول الرقبة مع القبعة الكبيرة زيَّاً يرتبط بالبطولي المحبَّب شعبياً، هذا الزي الفلكلوري الذي أعيد إنتاجه مع إضافات مختلفة للنساء والرجال على حدٍّ سواء لا يزال الأرجنتينيون في أميركا الجنوبية يقيمون له مهرجانات شعبية سنوياً لإحياء تراث الغاوتشو العظيم بواسطته.

بينما في رواية "أخفُّ من الهواء" يحكي الكاتب الأرجنتيني فيديريكو جانمير على أخلاقيات الغاوتشو مقدِّماً صورةً مختلفةً عمَّا تحدثنا عنه تماماً، إذ يرى البعض –ومنهم صاحب الرواية- أنَّ الغاوتشو ينتمون إلى رعاع البشر، ليس بسبب فقرهم واكتفائهم من الحياة بخيولهم ولباسهم المتواضع، بل لأنَّهم مشردون لم يعرفوا ثقافة التوطين، ولم يقبلوا بها حين عرفوها، يعيشون في أيِّ أرض تأخذهم إليها خيولهم، يعملون عندما يفلسون، وحياتهم بيولوجية محضة، قائمة على السرقة والاستيلاء، يسلبون الآخرين نساءهم حينما يشعرون بالرغبة، كما يسلبونهم طعامهم حين يشعرون بالجوع، فقد كانت الحرية بالنسبة لهم حريةً خاصة بهم وعلى طرازهم، حريةً تتجاوز كلَّ القواعد والقوانين.

 

هووااء.jpg

 

أمَّا الصعاليك العرب في الجاهلية فهم فئة من الرجال الذين رفضوا الانصياع لقوانين القبيلة وتمرَّدوا عليها، وعابوا غياب العدالة الاجتماعية فيها، وغالباً ما كانت لديهم مشكلة في نسبهم أو كانوا من الفقراء الذين لا جاه لهم أو مال، لذلك فهم كانوا يعانون من مركَّب نقصٍ أثَّر في نفسيتهم، وهذا ما جعلهم يحاولون تعويضه بخروجهم عن القبيلة والانشقاق عنها، والعيش بعيداً عن قوانينها الصارمة والظالمة، وعلى الرغم من أنَّ الصعاليك يتَّسمون بسمات سلبية كالتمرد والسرقة والانعزال الاجتماعي إلَّا أنَّ المنتَج الثقافي عمل على تجميل صورتهم عند المتلقي حين صدَّرهم على أنَّهم متواضعون عفيفو النَفْس، وإن سرقوا فإنَّهم يسرقون لغاية شريفة حين يأخذون المال من الغني ويعطونه للفقير على مبدأ "الغاية تبرِّر الوسيلة".

وعلى كلِّ حال تبقى الذاكرة الشعبية ذات أثر قويٍّ على كثير من الشخصيات التي تحولَّت بواسطتها إلى أساطير تخدم المنتَج الثقافي وتغذِّيه، فبفضلها كان الزير سالم وأخوه كليب على سبيل المثال رمزين من الرموز الخالدة في قصيدة (لا تصالح) لأمل دنقل، وعن طريقها أحببنا شخصيات ونفرنا من أخرى من دون أن نَعِيَ ما تمَّ إضافته أو نزعه عن تلك النماذج شكلاً ومضموناً.