icon
التغطية الحية

"العين الزرقاء".. عن تاريخ الحسد وجذور عين الشر

2022.03.28 | 18:05 دمشق

yn_hwrs.jpeg
محمد أوزملّي
+A
حجم الخط
-A

بحسب المعتقدات، فإنها تسبب عددًا من الأمراض بما في ذلك الأرق والتعب والاكتئاب وأوجاع البطن، بل تتعدى الأمراض في بعض الأوقات لتوصل الشخص إلى الموت، "الحسد" أو "عين الشر" كما وصفها باحث الأنثروبولوجيا آلان دونديس قائلاً: "يجب أن نضع في اعتبارنا أن العين الشريرة ليست معتقدًا خرافيًا قديمًا يهتم به فقط الآثاريون".

حيث لا تزال "العين الشريرة" عاملًا قويًا يؤثر على سلوك ملايين لا حصر لها من الناس في جميع أرجاء العالم.

يُعدّ الحسد من بين المعتقدات المنتشرة بقوة ومنذ القدم بين الشعوب على اختلاف ثقافاتها وتفاوتها المعرفي. والإيمان بـ "عين الحاسد" ما يزال منتشراً عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، كما ذكرت "العين الشريرة" في النصوص السومرية والمصرية واليونانية والرومانية القديمة.

ولا نستغرب ارتباط الشعوب القديمة بنفس المعتقد رغم اختلاف قومياتها وثقافاتها والمسافات الفاصلة بينها، ولكن اللافت للانتباه هو طريقة التصدي للحسد من خلال "تميمة العين" التي اجتمعت عليها كل تلك الحضارات.

العين الزرقاء

لطالما زينت تميمة "العين الزرقاء" على اختلاف أشكالها ووحدة مضمونها وعملها معظم منازلنا ومراكز عملنا، حتى إنها صارت تُعلّق داخل سياراتنا ودخلت في الحُليّ بوصفها إحدى صيحات "الموضة". وكل هذا ينطوي تحت فكر ومعتقد واحد يتمثل في الحماية من الشر والحسد اللذين يجلبان الأمراض ومن بينها المميتة، ناهيك عن قطع الأرزاق وسوء الأحوال... إلخ.

لهذه التميمة جذور تاريخية استطاعت عبر التطوّر الزمني الذي يعود لآلاف السنين الغابرة؛ اتخاذ أشكال وخامات عديدة وجدت عليها، من حجر وفخار وخزف ومواد أخرى. ويُرجّح أن تعود أصولها لنحو عام 3500 ق.م عند شعوب مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، وبعدهم الفينيقيون، فشعوب الحقبة الهلنستية، مروراً بالعصور الوسطى، وصولاً إلى العالم الحديث والمعاصر.

عين حورس

كان المصريون القدماء يعتقدون أن "عين حورُس" أو ما أطلقوا عليه "عين أوجات" أو "عين القمر"، تتمتع بقوة علاجية ووقائية، واستخدمت كتميمة واقية وحامية من الحسد والأرواح الشريرة والحيوانات الضارة والمرض.

وُلد هذا المعتقد عند المصريين القدماء مع أسطورة "إيزيس وأوزوريس" الشهيرة، التي تحدثت في جزئها الثاني عن الصراع بين الإله حورس (الصقر- إله الشمس عند قدماء المصريين) وسِت (إله الصحراء والعواصف) والتي تقول:

"كان حورس إلهًا قويًا في السماء على شكل صقر وكانت عينه اليمنى الشمس وعينه اليسرى القمر. وفي معركة صراع مع ست استطاع أن ينتصر عليه، ولكنهُ فقد عينه اليسرى. وبطريقة سحرية من قبل "حتحور" تمت استعادتها". 

 

حورس.jpg
عين حورس

 

وجاء هذا المعتقد ليرمز إلى عملية تكوين الشفاء والراحة وانتصار الخير. كما أنهُ أصبح شكل العين المستعادة "عين حورس" تميمة قوية ورمزًا مقدسًا للتجديد والحماية والكمال والتضحية في مصر القديمة. وغالبًا ما كانت تُصنع في تمائم لتوفير الأمان لمن يرتدونها، كما إنها نُحتت في نصب جنائزية لتمنح أرواح الموتى ممرًا آمنًا إلى الحياة الآخرة.

وبناءً على اللقى والاكتشافات الأثرية تبيّن أنهُ لم تنحصر رمزية تميمة العين عند المصريين فحسب، بل تعدت الحدود الجغرافية لنراها في مناطق بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا).

معبد العيون

في "تل براك" الأثري بريف محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا، تم الكشف عن بقايا معبد سمّي بـ معبد العيون يعود تاريخهُ للألف الثالثة ق.م، وسمّي بهذا الاسم بسبب العثور بداخله على مئات من التماثيل وآلاف من الكسر الحجرية والرخامية تمثل أشخاصاً لم يعرض منها إلا الكتفان والرقبة والعينان البارزتان جداً، كما عُثر على صور وتصميمات العين في الإفريز ومنحوتات المعبد، ما يُشير إلى أنها كانت رمزًا سحريًا ودينيًا فاعلاً، فرغم كونها تبدو مختلفة تماماً عن الخرزة الزرقاء المنتشرة في الوقت الحالي، فإنه من المرجّح أنها تمائم بدائية ترتبط بطقوس دينية لها دلالات للحماية من الشرّ والعدوّ، وتعاويذ قدّمها السكان إلى المعبد تعبيراً عن تفانيهم لصد العدوان المحتمل الذي يهدد المدينة، ولجلب الخير وإبعاد الشر.

 

تل براك.jpg
من معبد العيون في تل براك

 

ونرى أنهُ على المعتقد ذاتهُ في مناطق أخرى من ميزوبوتاميا تم الكشف عن تمائم للحماية تعود للحضارة البابلية وتم تبنيها لاحقاً من قبل الآشوريين، وكانت توضع داخل المنازل وأمامها وفي والمعابد والقصور وغيرها من الأبنية.

تلك التمائم كانت عبارة عن كف تشبه قبضة الأسد وبداخلها قطعة حجرية، وعلى الأصابع من الخارج نقوش مسمارية مفادها تعاويذ من أجل المباركة والحماية والوقاية من الحسد، وسمّيت هذه اللقى بـ "كف عشتار" نسبة إلى عشتار الإلهة الأم ومنجبة الحياة عند شعوب بلاد الرافدين.

 

كف عشتار.jpg
كف عشتار

 

تطوّر شكل الكف لاحقاً ليصبح كفاً مفتوحة وبداخلها عين زرقاء، ولكن لم يتغير مضمونها المتمثّل في الوقاية والحماية من الحسد، ورافق هذا التطور الملحوظ للشكل العديد من التسميات الأخرى مثل: كف موسى، كف مريم ، كف فاطمة؛ وفقًا لمعتقدات المجتمع الدينية. أما التسمية العامة المتعارف عليها اليوم فهي "خمسة– خمسة وخميسة...". ولم يتم تحديد تأريخ دمج العين الزرقاء مع الكف ليصبح بشكله الحالي .

 

عشتار.jpg
تطور كف عشتار في العصر الحالي

 

كما تفيد الاكتشافات الأثرية أنهُ لم يتم استخدام العين كرمز للوقاية في التمائم عند شعوب بلاد ما الرافدين، على عكس الإغريق الذين استخدموها برمزيتها وشكلها منذ القرن السادس ق.م.

كأس العين

كان لمفهوم العين الشريرة جانب مهم في الحياة اليومية للإغريق والرومان، ووصفوا في أساطيرهم أن اللعنة التي تأتي من العين الشريرة هي من صنع الآلهة لجلب الحظ السيئ وسوء الحال والأمراض وما إلى ذلك، لأولئك الذين يظهرون قدرًا كبيرًا من الغطرسة والتكبر في حياتهم. وقد وصفت هذه اللعنة بالكتابات اليونانية القديمة بالأشعة أو الوهج القاتل.

وفي إطار هذه المعتقدات تم الكشف في أثينا وشالكيس اليونانية على أكواب مرسوم على سطحها الخارجي زوج من العيون السوداء سمّيت بـ "كأس العين" والتي تعود إلى قرابة القرن السادس ق.م، ومن المرجَّح أن هذا النوع من الأكواب كانت وظيفتها التصدي للعين الشريرة. هذا المعتقد ما يزال لدى الشعب اليوناني، ويطلق عليه اسم "ماتي" الذي يعني العين باليونانية، وهي ترمز إلى "عين الشر".

 

كأس العين
كأس العين عند الإغريق

 

وفي الإشارة إليها من قبل أفلاطون، وهسيود، وبلوتارخ، والعديد من المؤلفين الكلاسيكيين الذين حاولوا وصف وشرح وظيفة العين الشريرة؛ ذكر تفسير بلوتارخ العلمي: "العيون كانت المصدر الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، للأشعة القاتلة ،أي أنهُ عندما ينظر أي شخص إلى ما هو ممتاز بعين الحسد فإنه يملأ الأجواء المحيطة بالخباثة"، والمقصود هنا باللعنة المضرة أو القاتلة في بعض الأحيان المكمونة داخل تجاويف العين والذي يُعتقد أن هذا الوهج الخبيث يُلقى منها.

وبالتفسير ذاته نقلها لنا الكاتب اليوناني هليودورس الحمصي عبر روايتهُ "إيثيوبيكا" في القرن الثالث الميلادي.

تميمة العين الزرقاء حديثاً

بأشكال مختلفة مثل أدوات الزينة والأساور والأقراط والخواتم. أو ما يمكن تعليقه على شكل خرزة زجاجية فوق باب المنزل أو مدخله لحماية العائلة، تسير العين الزرقاء الحديثة على النهج والمعتقد ذاته الذي بدأت عليه منذ ما يقارب الـ5500 عام الماضية.

وتعدّ تركيا اليوم من أشهر الدول في صناعة وتصدير هذه التميمة، كما يستخدمونها ﻓﻲ معظم ﺗﻔﺎﺻﻴﻞ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ لسبب أنها تردّ الشر والحسد والنحس. كما أن أغلب شعوب دول حوض البحر المتوسط وبحر إيجة وأوروبا ما تزال ثقافاتها وتقاليدها وتراثها تحتضن ذلك المعتقد والرمز والأسلوب بالتعاطي مع هذه التميمة بصورة أو بأخرى.

 

عينننن.jpg
العين الزرقاء حديثاً

 

وما تزال تلك الشعوب اليوم يضعون العين الزرقاء داخل منازلهم وعرباتهم وسفنهم بالطريقة ذاتها التي رسم بها المصريون العين الحامية (حورس/ أوجات)، وما يزال تقليد شراء الخرزة الزرقاء لحماية الحامل والمولود الجديد أو لتُعلق في المنازل لحماية العائلة من العين الشريرة قائماً على المفهوم ذاته للعين الحامية التي نُحتت على تماثيل سكان ميزوبوتاميا، ورُسمت على كؤوس الإغريق.  


  من المصادر:
- كتاب: موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية، روبير تيبو، ترجمة فاطمة عبد الله حمود.
- موقع: TELL BRAK  , موقع الويب الخاص بمشروع التنقيبات  https://www.tellbrak.mcdonald.cam.ac.uk/contact.html