العلاّمة محمد فتحي الدريني.. في أرجوحة التجديد والمحافظة -2

2020.02.13 | 16:59 دمشق

mhmd_fthy_aldryny.jpeg
+A
حجم الخط
-A

اختار الدكتور الدريني، رحمه الله تعالى، أن يكون من دعاة التجديد في الأصول، فأدخل لأول مرة في تعريف الاجتهاد مفهوم اعتبار (روح النص) المتمثِّل في العدل والمصلحة، وجعل مراعاته ركناً أساسياً في صميم عملية الاستنباط التي ما عادت تقتصر على خصائص اللغة وقواعد الشرع، وبسط ذلك في مئات من الصفحات، فاستعرض نصوص الشرع وكلام الفقهاء، وصال وجال فيهما للتدليل على هذه الإضافة المهمة، وكان المؤمَّل منه أن يمضي في هذه السبيل مخرِّجاً الفروع على الأصول، وأن يطبق ذلك المنهج الذي دعا إليه ونظّر له، وأن يناقش الفقهاء الأقدمين أو المعاصرين في فقههم إذا تخلّف عن ركب (روح النص)، أو تصادم معه، ولا سيما أنّ الفقهاء المعاصرين يميّزون ما بين (الشريعة) و(الفقه)، فالشريعة هي نصوص الوحي وتطبيقات السنة، أما الفقه فهو ما فهمه العلماء من هذه النصوص، ولذلك قرّروا أنّ الشريعة معصومة أما الفقه فلا، وهو قابل للمناقشة والتصويب والتخطئة، ورغم ذلك فإنّ الدريني جارى الفقهاء مجاراةً تضع تنظيره الأصولي على المحك، وتدفعنا للتساؤل عن عدم اتساق دعوته في التجديد مع كثير من اختياراته الفقهية، ومعالجاته الفكرية.

 

الدريني المحافظ:

نلاحظ للوهلة الأولى أنّ جميع الأمثلة التي يضربها أستاذنا الدريني لتأصيل (الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده)، و(نظرية التعسف في استعمال الحق) هي أمثلة قديمة كلاسيكية من قبيل (منع الاحتكار)، و(جواز فرض التسعير)، و(حرمة تلقي السِّلع، وبيع الحاضر للبادي)، و(الحجر على المفلس)، و(تحريم نكاح التحليل) إلخ، وهي مسائل شبعت بحثاً ودراسة وتفصيلاً، وقد نجد له عذراً في إيرادها بوصفها متكأً تراثياً راسخاً يدعم ما يؤصله ويبيّنه، ولكننا في الوقت نفسه لا نراه يبادر إلى المسائل المعاصرة أو النوازل الراهنة (1) ليجلّي من خلالها هذه النظرية، وليقدّم إسهاماً في التطبيق يمكن أن يُعتمد عليه أو يُشار إليه، أما أمثلة القانون الوضعي للنظرية نفسها التي ينقلها عن القانونيين فنراها معاصرة راهنة حول السلاح النووي، أو صواريخ الفضاء ومسؤولية الدولة عن آثارها أو أضرارها.

ويا ليت أنَّ المسألة تقف، فقط، عند مجرد تمثيله بالأمثلة الفقهية القديمة الصالحة للتطبيق، بل يمثِّل بأمثلة قديمة لا يمكن قبولها ولا إقرارها، لأنها من النوع المرهون بعادات ووضعيات اجتماعية أو اقتصادية غابرة، ولكنّه لا يلحظ الفرق بين عصر الإمام الجويني وعصر الدكتور الدريني، فيوردها ويثبّت من خلالها وعياً فقهياً مشوّهاً لدى طلبته وقرّائه، وسأكتفي بذكر نماذج مع الإشارة المقتضبة للمشكلات التي تحفّ بها. فمن ذلك ما يذكره من قاعدة: (تصرُّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)، حيث يفرّع عنها عدة فروع منها قوله: "ليس لولي الأمر أن يزوّج امرأة ــ أي لا ولي لها ــ بغير كفء، وإن رضيت، لأنّ حق الكفاءة للمسلمين، وهو كالنائب عنهم، فلا يقدر على إسقاطه".

وبدلاً من أن يستغل مثال مسألة الكفاءة في النكاح ليبيّن ما يعتوره من مشكلات طبقية وعنصرية ولا إنسانية، فإنه يقرّره ويطرحه في أشد صوره راديكالية، ويضرب صفحاً عن المرأة وشعورها وقرارها وحريتها، ويجعل مسألة الكفاءة في الزواج حقاً للمسلمين!! وكان بإمكانه أن يناقش الفقهاء في اشتراطهم الكفاءة بين الزوج وزوجه من خلال التنظيرات الأصولية التي اشتغل عليها، وأن يثبت بطلان هذه المسألة من خلال منطوق النص وروحه، ولكن غلبت عليه النزعة المحافظة فأطفأت أنوار ملكته النقدية وأخمدت شرارات محاكمته الفقهية.

"إذا تخيّر في الأسرى بين الرّق والقتل والمنّ والفداء، لم يكن له ذلك بالتشهّي بل بالمصلحة، حتى إذا لم يظهر وجه المصلحة يحبسهم إلى أن يظهر"

ومن تلك الفروع التي ذكرها أيضاً قوله عن رئيس الدولة بأنّه "إذا تخيّر في الأسرى بين الرّق والقتل والمنّ والفداء، لم يكن له ذلك بالتشهّي بل بالمصلحة، حتى إذا لم يظهر وجه المصلحة يحبسهم إلى أن يظهر"، ويعني بذلك أنه إذا ظهرت له، فيما بعد، مصلحة بالقتل قتلهم، أو مصلحة باسترقاقهم استرقهم، إلخ. وبدلاً من أن يشير الدكتور الدريني إلى أنّ هذا الكلام يُعدّ اليوم جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، فإنه يقرّره وكأنه مسلّمة من المسلّمات، مساهماً في تشويش رؤية المسلم لحقوق الإنسان، ومشاركاً في ترسيخ هذه الأحكام الخرقاء الرعناء، التي رأينا مصاديقها لدى المجموعات الإسلامية المقاتلة المتشبّعة بهذا الفقه وهذه الأحكام.

لقد جعلته هذه النزعة المحافظة يلتزم الأمثلة التراثية كما هي، ويوردها كما هي، ويقرّها كما هي، رغم أنّها تخالف روح العصر وروح النص مخالفة تامة، ففي حديثه عن تدخّل الدولة الذي لا يعني افتئاتاً على الحق يورد المثال الفقهي القديم التالي ألا وهو (إلزام الصانع قبول أجر المثل)، وفي ذلك يقول: "وعلى هذا فالعمّال والصنّاع وسائر الحرفيين وأرباب الكفاءات إذا امتنعوا عن العمل إلا بأجور فاحشة والناس في حاجة إلى منافعهم وخبراتهم أجبرهم ولي الأمر على العمل بأجر المثل، لأنّ الزيادة عن أجر المثل حرام"، وحقيقةً لا ينقضي عجبي من هذا المثال المنكوس المعكوس الذي يقف على النقيض من واقع الحال، ولو أن الأستاذ الدريني تريّث قليلاً وفكّر فيما يكتب، وخرج عن ربقة المحافظة على المثال الفقهي، لكتب عن (إلزام ربّ العمل على إعطاء العامل أجر المثل)، بدلاً من حديثه عن (إلزام العامل أخذ أجر المثل)، ولتَحدَّث عن حق العمال في الإضراب للحصول على حق أجر المثل، ولكنْ يأبى الفقيه، في أغلب أحيانه، إلا أن يكون منفصماً عن الواقع أو بعيداً عنه، لأنه لا يعيش بفكره ووجدانه وأمثلته وآفاقه إلا في حدود الدولة العباسية والدولة المملوكية! ونذكر في هذا السياق أنّ الدكتور الدريني بدأ كتابة أطروحته عن (الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده) من سنة 1959 حتى سنة 1965 في لحظة تغوّل الدولة الرهيب في مصر وسوريا، وإبّان تطبيقها نظام التأميم والقرارات الاشتراكية، ورغم ذلك لم نر أيَّ موقف، أو عبارة أو إشارة لما كان يجري في تلك الآونة، علماً أنه من صميم اختصاص الأطروحة، ومن أولى أولوياتها!! إنّنا أمام مثال متكرّر لتطلّع الفقيه المسلم المعاصر لقيادة الواقع وتوجيهه من خلال طرحه وتنظيره لمقولات ومبادئ عامة لا يختلف عليها اثنان فيتصوّرها ويصوِّرها على أنّها خاصة بالإسلام والمسلمين، ثم لا يُحسن تنزيلها على هذا الواقع، ولا يوفّق لاستثمارها حتى في أشد اللحظات حاجةً إليها!

ويسهب الدكتور الدريني، فيما يسهب فيه، في الحديث عن الدين والسياسة، ويخصّص لذلك كتابه (خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم)، والذي يتمتع بحسن السبك، وجمال العبارة، ومهابة الألفاظ، والإكثار من استخدام التمييز نحوياً، لكنّه يعجّ بالمغالطات الكثيرة، والتجاوزات العديدة من أوله إلى منتاه، وربما نخصّص مقالاً خاصاً له، بوصفه مصدراً من المصادر العديدة لتشكيل الوعي السياسي الزائف المغلوط لدى مسلمي اليوم.

 

الخلاصة:

هنالك معنى واحد يدخل في نسيج الموقف المحافظ سواءً كان سياسياً أو فكرياً، ألا وهو ما يُعبّر عنه في أصول الفقه بمبدأ (الاستصحاب)، فالسياسي يروم الإبقاء على الهياكل التنظيمية التي جُرِّبت سابقاً، والمفكّر يسعى إلى حراسة الأفكار التي اختُبرت ماضياً، وكلاهما يبغيان استصحاب صلاحية هذه الهياكل أو الأفكار السالفة، وتثبيتها في الوقت الحالي، والمحاماة عنها، لأنَّ ما ثبّت نفسه في الزمن السالف يجب الاحتفاظ به، فالمحافظة تعني الاستقرار، والأمان! ومن هنا يجد المحافظ نفسه ملتزماً بكل ما هو قديم، ولا يتعامل معه إلا بالحدّ الأدنى من الوعي الناقد والمسائِل، حتى لو كان مؤهلاً أهلية كافية للمراجعة والمحاكمة والتصحيح وتقديم الاقتراح فإنَّ موقفه المحافظ يكبّل شعوره وذوقه، فلا يستشعر المشكلات، ولا يحس بالتناقضات، ولا يتنبّه للورطات، ولا يرى العوائق ولا العقبات.
رحم الله أستاذنا الفقيه العلاّمة الشيخ محمد فتحي الدريني فقد كان أصولياً بارعاً متين الحجة، متوقد الذكاء، ناصع البيان، ولكنه لا يخرج عن وصفي للأصوليين المعاصرين الذين لم يكونوا، في الممارسة العملية يوم يجد الجد، إلا كذاك الذي يعرف كيف يضبط مفاتيح عوده، ويظل يعرك أذنه المرة تلو المرة تلو المرة، ولكنه لا يجيد العزف عليه.

هوامش:
(1) يمكن أن نشير فقط إلى بحث مبتكر من بحوثه عنوانه (حق الابتكار في الفقه الإسلامي)، وما سوى ذلك فمسائل وبحوث مطروقة ومبحوثة.