العقلانية حيث لا شيء حولك عقلاني

2023.10.18 | 06:02 دمشق

العقلانية غير العقلانية
+A
حجم الخط
-A

أن تكون عقلانياً حين لا شيء حولك عقلاني، هو فعل غير عقلاني، وأن تصرَّ على رؤية الأشياء واقفة على قدميها، بينما كل ما حولك مقلوب رأساً على عقب، هو أيضاً فعل غير عقلاني، أي أحجية هذه..؟؟!!

لستُ من المقتنعين بفكرة الفشل الاستخباري الإسرائيلي في اكتشاف ما قامت به الفصائل الفلسطينية صباح 7 أكتوبر الجاري، وبالتالي فإن المفاجأة المدوية التي تعرضت لها إسرائيل كانت مصطنعة إلى حد كبير، ربما كان حجم العملية فقط هو غير المتوقع، ولستُ من المقتنعين بأن الزلزال الذي أصاب العالم فجأة وتجلى عبر تحركات عسكرية ضخمة وسريعة لقوى كبرى، وعبر منع غريب وصادم لحرية التعبير عما يجري في فلسطين في كبرى بلدان الديمقراطية في العالم، وعبر رسائل بالغة الوضوح بإسقاط أنظمة وتدمير مناطق و..و.. كل هذا من أجل معاقبة حماس، والجهاد الإسلامي وغيرها من الفصائل، على ما قامت به في ما يسمى غلاف غزة..!!

لم تكد تمضي ساعات على بدء عملية "طوفان الأقصى" حتى بدأ تداول مقولة ولادة شرق أوسط جديد..!! وأن هناك خطة إسرائيلية ستنفذ فورا وسوف تخلق وضعاً عسكرياً، وسياسياً، وجغرافياً جديدا في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي فإنه من البدهي الاستنتاج أن هذه الخطة لم توضع بعد ساعات من اقتحام فصائل فلسطينية لجدار السجن الغزاوي الكبير، وأنها كانت موجودة وربما _ بأحسن النوايا _ وجدت في هذا الاقتحام "اللغز" ذريعتها الأنسب للبدء بها.

ينقلب فجأة كل شيء.. يصبح رئيس أقوى دولة في العالم مجرد مسوّق لكذبة يراد لها أن تصنع رأياً عاماً، يهيئ لحدث كبير، فيرى فيما يرى المستيقظ رؤوس أطفال تقطع، ونساء تغتصب

كل الأحداث التي أعقبت خلال ساعات عملية طوفان الأقصى بدت غريبة، فيما لو أردنا اعتبارها نتيجة العملية، إذ ينقلب فجأة كل شيء.. يصبح رئيس أقوى دولة في العالم مجرد مسوّق لكذبة يراد لها أن تصنع رأياً عاماً، يهيئ لحدث كبير، فيرى فيما يرى المستيقظ رؤوس أطفال تقطع، ونساء تغتصب، وعلى وقع ما رآه الرئيس الأقوى، تقرر بعض بلدان الديمقراطية العتيدة أن تستبق احتمال ولادة رأي مناهض لما قد يجري، فتقرر عقوبة السجن لسنوات لكل من يقول بهذا الرأي مسبقاً.

يقوم العالم ولا يقعد، وتتحرك أساطيل، وتعلو خطب الحرب، والتهديد والوعيد.. وتُجنَّد ماكينات إعلامية ضخمة، وتهدد ماكينات أخرى، كي تطغى فكرة وحيدة على العالم كلّه مفادها، أن الدولة "الديمقراطية المسالمة الوحيدة" في هذا الشرق الأوسط العتيد، قد هوجمت بوحشية لا شبيه لها، إلا المحرقة التي ارتكبها النازيون بحق اليهود في القرن الماضي.

في تصريح صادم، يُخالف كل قواعد الديبلوماسية، وكل الأعراف التي كرّسها مفهوم الدولة الحديثة في العلاقات الدولية، يعلن وزير خارجية الدولة الأقوى في العالم "أنتوني بلينكن" بأنه يزور "إسرائيل" بصفته "يهودياً"!!، ثم تتوالى التصريحات الصادمة، فيصرح رئيس إسرائيل إسحق هرتسوغ: "لا يوجد شخص بريء في قطاع غزة"، وكأنّه يمهد مسبقاً لجريمة إبادة شاملة بحق ما يزيد عن مليوني فلسطيني.

"داني أيالون"، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق يعلنها صراحة: "هناك مساحة واسعة في صحراء سيناء على الطرف الآخر من غزة.. ليذهب سكان غزة إليها، ونحن نتعهد مع المجتمع الدولي ببناء عشر مدن لهم ونؤمن لهم الماء والطعام"، وعندما يستهجن المذيع الذي يجري المقابلة معه الأمر يرد عليه: ".. لماذا تستهجن الفكرة، نحن نفعل كما فعل بشار الأسد عندما هجر السوريين باتجاه تركيا".

يعود الرئيس "الأقوى" في العالم، والمتعثّر دائماً، ليس بخطواته فقط، بل وفي جهاته وأقواله، للتذكير بقوة بلاده، فيقول نحن الولايات المتحدة الأميركية أقوى بلد في تاريخ العالم، ونحن نقف بكل ما نملك إلى جانب إسرائيل في حربها، ولا يأبه للمظاهرة الحاشدة التي جرت في مدينة أوروبية، وقالت له: "لكن هذه ليست حربا هذه إبادة جماعية عنصرية".

وزير خارجية إيران "عبد اللهيان"، يُصرّح أنه في حال استمر قصف غزة فإنه من المحتمل أن تتدخل أطراف أخرى في الصراع، لكن سرعان ما يُصرح مندوب إيران في الأمم المتحدة: "قواتنا لن تشتبك مع إسرائيل، شريطة ألا تغامر بمهاجمة إيران ومصالحها ومواطنيها".

المستشار الألماني، وكذلك رائد إنهاء الأحادية القطبية للعالم "بوتين"، وداعمته الصين يسرعون للقول: "يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها"، فترد عليهم الحكومة النرويجية بأن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها لا يتيح لها أن تفعل ما تشاء.

لا يتأخر اللاعبون الصغار عن إعلان مواقفهم الرمادية، والتي تستبطن فتح خط الرجعة لهم، فها هو "خالد مشعل"، يكاد يقول نحن في حماس لا علاقة لنا، إنها كتائب القسام التي فعلت ما فعلت، بينما يقول محمود عباس بأن أفعال حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، ويرتبك حزب الله في صياغة حساباته، فالقادم لا يحتمل الروايات الملتبسة، وهو يحتاج للقول بلا أي مواربة.

وسط كل هذا الغليان الدبلوماسي، والمواقف، واللقاءات والتصريحات تلقي إسرائيل ما يزيد عن سبعة آلاف طن من المتفجرات فوق المساحة الصغيرة المسماة قطاع غزة، خلال سبعة أيام، هل تتخيلون..!! سبعة آلاف طن من المتفجرات على مساحة لا تتجاوز 360 كيلومتراً مربعاً، يسجن فيها مليونان وثلاثمئة ألف إنسان ويمنع عنهم الماء والدواء والغذاء والكهرباء، ليس هذا فحسب، بل ويُصرّح قادة إسرائيليون، عسكريون وسياسيون بأن كل ما حدث ليس سوى المقدمة..!!

ما جرى وسيجري في غزة، هو سيناريو يستعير تفاصيله من حدثين مهمين جداً، ففي سيناريو تهيئة الرأي العام العالمي وصناعة المؤثرات، وإرهاب المختلفين بالرأي، يُستحضر سيناريو ما جرى في 11 سبتمبر 2011م، أما في الهدف النهائي لهذه المعركة المستعرة، فيتم استحضار سيناريو ما جرى في صيف 1982م، حين اجتاحت إسرائيل لبنان، وأرغمت الفصائل الفلسطينية على الخروج منه.

مسكون برعب محاكمته، وضياع مستقبله السياسي، يجد نتنياهو في هذه الحرب حبل نجاته الوحيد، فيجعل منها سفر تكوينه الخاص

ما الذي تحمله الأيام القادمة لهذه المنطقة المنكوبة بكل ما فيها، فهذه المعركة هي من أغرب معارك التاريخ، فما من أحد يستطيع الانتصار فيها وحيداً، وما من أحد يستطيع الهزيمة فيها، ثمة حقيقة واحدة واضحة، ولا أحد يختلف عليها، أو يهتم لها، إلا بما تخدم معركته، وهي أن لحم ودم ملايين الفلسطينيين هو الحلبة التي تقام فوقها جولة المصارعات.

مسكون برعب محاكمته، وضياع مستقبله السياسي، يجد نتنياهو في هذه الحرب حبل نجاته الوحيد، فيجعل منها سفر تكوينه الخاص، وثمة في الطرف الآخر من لا يجد أمامه مفر منها، حيث لم يعد لديه ما يخسره، فيذهب إليها بكل يأسه أو بكل أمله لا فرق، وثمة أطراف تحتاج هذه الحرب، لتعيد للأرض التي تهتز تحتها قليل من الثبات، أو تعيد صياغة تحالفاتها الجديدة في منطقة تتأرجح على وقع حروب الآخرين.

لا يستطيع "نتنياهو" إلا أن يقتحم قطاع غزة عسكرياً، أو أن يُمنح نصراً واضحاً، ليس أقله خروج حماس من قطاع غزة، لكن إلى أين؟

ولا يستطيع "حزب الله" أن يوسع دائرة مشاركته في هذه الحرب، ولا تستطيع حماس وفصائل أخرى أن تبقي المعركة مستمرة بكل هذا العنف إلى ما لا نهاية.

إنها الحرب التي ولدت من زواج جنون السياسة وجنون الموت، والتي سندفع ثمنها نحن شعوب هذه المنطقة.