الطلاق البريطاني الأوروبي من الانتظار إلى الإشهار

2019.12.14 | 17:20 دمشق

images_15.jpg
+A
حجم الخط
-A

انتهت مجريات اليوم الانتخابي الطويل في المملكة المتحدة، الانتخابات التي قد تكون الأكثر تأثيراً في تاريخ بريطانيا منذ عقود، فهي لن تنهي الجدل الدائر حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو خروجها منه فحسب، بل ستضع المملكة المتحدة أمام سؤال: أتبقى مكوناتها متحدة، أم أنها ستواجه أزمة انفراط عقدها؟

لقد مرت خمس سنوات على هذه الأزمة السياسية التي ظلت تتفاعل داخل البرلمان، وفي الحكومة البريطانية وفي المجتمع البريطاني، منذ الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016.

يومها، كانت نتائج ذلك التصويت الذي عبر عن ميل أغلبية الناخبين البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، قد أدت إلى استقالة رئيس الوزراء المحافظ "ديفيد كاميرون"، فخلفته "تريزا ماي"، ولأنها فشلت في تمرير

بهذه النتيجة سيكون لدى رئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسون، دعم وافر من نواب مجلس العموم لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلال الشهر المقبل

الاتفاق الذي أبرمته مع بروكسيل بخصوص الاتحاد الأوروبي؛ استقالت أيضاً؛ ليحل محلها رئيس الوزراء الحالي "بوريس جونسون"، الذي فشل أيضاً في دفع البرلمان إلى قبول خططه الخاصة بالخروج من الاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذي دفع إلى انتخابات برلمانية مبكرة...

تتيح النتائج الأخيرة للانتخابات البرلمانية البريطانية أن يقوم حزب المحافظين بتقرير السياسات التي يريدها، فهو حاصل على 368 مقعداً من أصل 650 مقعداً؛ أي ما يزيد على 56% من المقاعد، وبالتالي: إنه، حزب المحافظين، غير مضطر إلى أي تحالف مع أي قوة أخرى.

بهذه النتيجة سيكون لدى رئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسون، دعم وافر من نواب مجلس العموم لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلال الشهر المقبل، وسيكون أمامه خمس سنوات من حكم المحافظين لبريطانيا بأغلبية قوية ومريحة أيضاً...

هذا، إضافة إلى أن هذا الفوز الساحق قد ترافق مع هزيمة ساحقة، هي الأخطر في تاريخ منافسه حزب العمال، هذه الهزيمة التي على الرغم من أنها الهزيمة الرابعة في سلسلة هزائم متتالية لهذا الحزب، فإنها الأسوأ- في تاريخه الانتخابي- منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وقد تكون نتائجها بالغة السوء على مستقبل هذا الحزب سياسياً.

في مؤشرات هذه الانتخابات بالنسبة إلى الأحزاب الأخرى، لا يبرز ما يمكن أن يكون استثنائياً؛ فلم تحقق الأحزاب الأخرى أي مقاعد إضافية. ومع ذلك، ثمة ما يجب التذكير به، وهو بالغ الأهمية: إن الحزب القومي الإسكتلندي قد عزز من هيمنته على إسكتلندا، هذه الهيمنة التي لن تغير في تركيبة البرلمان البريطاني، لكنها قد تؤثر تأثيراً بالغاً، فيما لو ربطت إسكتلندا انسحابها من المملكة المتحدة بانسحاب المملكة من الاتحاد الأوروبي.

وعليه، لا بد من السؤال: ماهي مكونات المملكة المتحدة؟

إن المملكة المتحدة تتشكل من مملكتين رئيستين، هما: مملكة بريطانيا العظمى، ومملكة إيرلندا الشمالية، ويندرج تحت مُسمّى مملكة بريطانيا العظمى كلٌّ من دول إنجلترا وويلز وإسكتلندا.

لقد فجرت العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وتصويت البريطانيين على الخروج منه، أزمة تهدد بقاء الدول المكونة للمملكة المتحدة ضمن صيغتها الحالية، وبرز احتمال ضعف وتفكك المملكة، فقد تسبب إعلان نتائج الاستفتاء- الذي أُقيمَ حول موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي- بظهور مطالب مقابلة، تدعو إلى إجراء استفتاءات حول استقلال كلّ من إيرلندا الشمالية وإسكتلندا. ولقد صرّح نائب رئيس الوزراء في إيرلندا الشمالية: إنّ على الحكومة البريطانية الالتزام بالديمقراطية، والدعوة إلى التصويت حول خروج إيرلندا الشمالية من المملكة المتحدة. وقد توقع "أليكس سالموند" الزعيم الأسبق للحزب القومي الإسكتلندي، وهو الحزب المهيمن في إسكتلندا: أن يطالب الحزب بإقامة استفتاء حول خروج إسكتلندا من بريطانيا العظمى؛ لأن أغلبية الإسكتلنديين مع البقاء في الاتحاد الأوروبي، وقد صوتوا لصالحه، بينما أيّد البريطانيون قرار الخروج منه.

ثم، بغض النظر عن تداعيات نتائج هذه الانتخابات على علاقة مكونات المملكة المتحدة فيما بينها، فإنها تأتي ضمن سياق الأزمة الكبيرة التي تواجه القارة العجوز، التي تتقاذفها تيارات وتوجهات عدة: فمن جهة يبدو ترمب غير مهتم كثيراً بأوروبا، ولا بتحالفها العميق والتاريخي مع أميركا، كما أنه يريد أن يخضع هذه العلاقة - رغم تاريخيتها وخصوصيتها- إلى صيغة دفعٍ وقبضٍ فقط؛ أي كما عبر ترمب عنها: صيغة جديدة تدفع فيها أوروبا ثمن هذه العلاقة. كما أن هذه النتائج تأتي أيضاً ضمن موجة الصعود اليميني وتراجع أحزاب اليسار في أوروبا، مع تنامي نزعات العنصرية والكراهية حيال اللاجئين.

ربما لا تعكس نتائج هذه الانتخابات حقيقة رأي البريطانيين بالأحزاب السياسية البريطانية؛ فالتصويت الذي جرى في الأمس، قد كان- في أحد أهم وجوهه- تصويتاً لإنهاء حالة عقم سياسي متواصلة منذ سنوات في بريطانيا، حالة دفعت البريطانيين ثلاث مرات إلى صناديق الاقتراع خلال خمس سنوات، وكان تصويتاً لوضع حد لانقسام عميق راح يتجذر داخل المجتمع البريطاني: انقسام بين يمين ويسار، وبين بقاء في الاتحاد الأوروبي أو خروج منه، وانقسام حول برامج الصحة والتعليم، وحول السؤال المتفجر عن بقاء إسكتلندا وويلز وإيرلندا داخل المملكة المتحدة...  لقد ملَّ البريطانيون انتظار اتفاق الأحزاب السياسية الذي لم يأت، فذهبوا إلى خيار تفويض أحدها. لكن السؤال الذي لن يتمكنوا من الجواب عنه قبل سنوات: ماذا سيكون ثمن هذا التفويض الواسع لحزب المحافظين؟

قد تبدو بريطانيا بخروجها من الاتحاد الأوروبي رابحة للوهلة الأولى، لكن الأمر هو أقرب لورطة حقيقية لن يكون لها حلول في الأفق القريب وسيكون لها انعكاسات قوية على بنية الاقتصاد البريطاني وعلى علاقات البريطانيين

الاتحاد الأوروبي يبدو اليوم أكثر ضعفاً من أي مرحلة في كل مراحله السابقة، وإن ألمانيا- التي تشكل دينامو هذا الاتحاد- تقف شبه وحيدة في مواجهة مشكلاته الكثيرة.

بجوارهم الأوروبي. والأخطر من كل هذا أنها ستزيد من حدة التفاوت الطبقي داخل المجتمع البريطاني، وستقلل كثيرا من المساعدة الاقتصادية التي تقدمها الحكومة للشرائح الدنيا من المجتمع.

يبدو أن الرئيس الروسي، بوتين، من أكثر الفرحين بنتائج الانتخابات البرلمانية البريطانية؛ فهذه النتائج التي سيكون أول تجلياتها إقرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أي زيادة التصدع في بنية هذا الاتحاد، ستفتح الباب أمام بوتين لزيادة فرص اختراق دول أوروبا باتفاقات وعلاقات، تبدو الدول الأوروبية بحاجة لها، خصوصاً بما يتعلق بموضوع الغاز والطاقة. ثم إن الاتحاد الأوروبي يبدو اليوم أكثر ضعفاً من أي مرحلة في كل مراحله السابقة، وإن ألمانيا- التي تشكل دينامو هذا الاتحاد- تقف شبه وحيدة في مواجهة مشكلاته الكثيرة.

إن صعود اليمين الشعبوي في العديد من دول أوروبا يدعو إلى القلق ليس بخصوص ما سيواجهه اللاجئون من تصاعد في الخطاب المعادي لهم، وربما في قوانين جديدة ليست لصالحهم فحسب؛ بل في انعكاسات هذا الصعود على الصيغة السياسية لأوروبا، فأوروبا اليوم تنحو باتجاه يختلف عن أوروبا التي أنتجتها الحرب العالمية الثانية، لابل ربما يمكن القول إنها بدأت تشبه أوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية.