الشهيد أنس رضوان – حلب 2013

2020.05.19 | 00:00 دمشق

12309871_719020598199050_7895805005171922579_o_-_copy.jpg
+A
حجم الخط
-A

"لمَا يكون عندك باب السَوس ناخره.. فما في شي بالدنيا يقدر يصلحه.. الحل الوحيد مع هيك باب هو القلع"

هذه العبارة هي التي أنهَت نقاشاً محموماً في أحد مراسم كلّية الهندسة المعمارية في جامعة حلب بدايات شهر نيسان عام 2011، بعيد انطلاق الثورة السورية، في وقت كانت فيه النقاشات حول الثورة والمظاهرات وإسقاط النظام أمراً شائعاً وشبه علني، في البلاد نفسها التي يحفظ أبناؤها قبل أسمائهم عبارة "الحيطان إلها آذان"! بل وفي مبنى كلية العمارة الذي شهدنا فيه قبل تلك الجلسة بعام تقريباً اعتقال "الأمن" طالباً من أحد مراسمها، بسبب تقرير كيديّ كتبه طالب من أبناء الطائفة العلوية في سوريا أثناء معسكر للتدريب الجامعي، حيث اتّهم صاحب التقرير الطالب المعتقل بأنه "يحاول قلب نظام الحكم في البلاد ليعيده إلى الأكثرية السنية"، وأنه يقوم لأجل ذلك "بالاجتماع مع الطلاب وجمع تبرعات منهم لتأسيس تنظيم بهذا الغرض".

تهم كهذه كانت كفيلة بأن يذهب صاحبها إلى "ما وراء الشمس"، أو إلى مكان لا يرى فيه الشمس حرفياً طوال حياته، لكن أجهزة الأمن في البلاد كانت تعرف أنّ التقارير الشبيهة غالباً ما تكون نتيجة مشكلة شخصية، يقوم صاحبها بكتابة تقرير كطريقة انتقام، لذلك كانوا "يكتفون" باعتقال المتهم ستة أشهر "فقط" في أحد فروع الأمن الكثيرة في البلاد.. وهو ما كان، حيث اُعتقل زميلنا ستة أشهر في معتقلات مختلفة من بينها فرع فلسطين سيء الصيت، ثم أُفرِج عنه قبل انطلاق الثورة بنصف عام تقريباً، ليُكتَب له أن يشهد انطلاقتها، ويحضر معنا تلك الجلسة.

إلا أن هذا الطالب لم يكن صاحب العبارة التي أنهت النقاش، فصاحبها هو "أنس رضوان" من أبناء عشيرة البكارة القاطنين في حي الصاخور الحلبي، وأحد أنجب طلاب السنة الثالثة في كلية الهندسة المعمارية في جامعة حلب آنذاك.

 

مرفق 1 - الشهيد أنس رضوان.jpg

 

كانت تلك الجلسة في المرسم، واحدة من جلسات كثيرة اجتمعت فيها شلّتنا تناقش الثورة السورية، حيث ضمّت الشلة آنذاك بعض المؤمنين بكونها مؤامرة تستهدف البلاد، فيما كان آخرون يلتزمون موقفاً محايداً منها، أما أكثرنا فكانوا يرون الثورة ضرورة مع اختلاف الأهداف، بين من يريد إصلاحات وبين أمثال أنس الذين يرون النظام شراً مطلقاً لا ينفع معه إلا إسقاطه بكل رموزه ومؤسساته.

لذلك وعندما بدأنا نحاول مع عدد من المجموعات الأخرى الترتيب لمظاهرات في المدينة، لم يتوان أنس عن المشاركة، وفي أول مظاهرة شهدها جامع آمنة الشهير في حي سيف الدولة في حلب أواسط أبريل \ نيسان عام 2011، والتي شكل طلاب العمارة سوادها الأعظم، قدِم\ أنس من حي الصاخور ليكون بيننا، ورغم أنه لم يستطع اللحاق بالمظاهرة لسرعة تحوّلها إلى مواجهة مع الشبيحة، فإنّه أبى إلا أن تكون تلك مظاهرته الأولى عندما انخرط في المواجهة في أول مظاهرة تُعرَض على شاشات التلفاز من عاصمة الشمال السوري.

 

اقرأ أيضاً مقال آخر للكاتب "الانتصار الأول (جامع آمنة في حلب)"

 

كان موقف أنس الحدي والصادق كثيراً من الثورة واضحاً منذ يومها الأول، فبعد أن كان يقضي أوقاته في الدراسة غالباً، سواء ضمن مقررات الكلية أو حتى من مصادر خارجية لشغفه بالعمارة، أصبحت أيامه جدولاً للمظاهرات المتلاحقة، من حيِّه الذي كان يشكل مع إخوته وجوهاً بارزة في احتجاجاته، إلى الجامعة التي باتت مظاهراتها خلال عام 2012 شبه يومية، وحتى مظاهرات المدينة الكبرى التي لم يتغيّب عن أي منها، مهملاً دراسته في الكلية إلى حد ما، وهو ما يمكن أن يكون طبيعياً بالنسبة لكثير من الطلبة الجامعيين، إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لأنس! فهو أحد طلبة الدفعة القلائل الذين كانوا يحظون بإشادة شيخ المهندسين في كليتنا "د. عبد الغني شهابي"، والذي أخبره مرة خلال إحدى مراجعات المشاريع: "خطوطك خطوط معماري"، وهذا أقصى ما كان يمدح به الطلبة.

لذلك كان إهمال أنس لدراسته تضحية حقيقية بأكثر ما تعنيه الكلمة، تضحية تجلَّت في اليوم التالي لاقتحام الشبيحة والأمن مدينة حلب الجامعية إثر مظاهرة فيها بدايات عام 2012، حين بدأ أنس يحرض طلبة دفعتنا للتغيب عن امتحان عملي في إحدى المواد، احتجاجاً على اقتحام المدينة الجامعية، ورغم أن معظم الطلبة تجاوبوا مع فكرة أنس، فإنهم وبعد تهديد دكتور المادة (أحد رموز التشبيح في كلية العمارة) بأن كل من سيتغيّب عن الامتحان سيرسب في مادته، بدؤوا يدخلون قاعة الامتحان تباعاً متراجعين عن موقفهم.

حاولت يومها إقناع أنس بحضور الامتحان بعد أن دخل الجميع القاعة، وفشل فكرة الاحتجاج، إلا أنه رفض بحزم، وأصرّ أن يمتنع عن دخوله محتجاً ولو كان وحده.. وقد فعل.

في حلب المحررة

بعد دخول الجيش الحر إلى حلب في يوليو \ تموز عام 2012، وسيطرته على ثلثي المدينة في أحيائها الشرقية وبعض أحيائها الشمالية، والتي ضمّت حي الصاخور، توقف أنس عن ارتياد الكلية بشكل نهائي في عامه الدراسي الرابع، واختار أن يبقى في المناطق المحررة مساهماً مع أبناء حيه في معركة التحرير، وانقطعَت منذ ذاك الحين أخباره عني إلى حين.

في أواسط عام 2013 قمنا بتأسيس (الجمعية السورية لحفظ الآثار والتراث) في القسم المحرر من المدينة، وذلك لمحاولة حفظ ما نستطيع من آثار المدينة التي بدأ نظام آل الأسد يدكّها بالبراميل المتفجرة، مُهَدِّدَاً بمسح أقدم مدن العالم التي ما تزال مأهولة بالسكان، وهو ما دفعَنا لبدء التواصل مع كل من نعرف من طلبة العمارة في المناطق المحررة للتطوع معنا.

 

اقرأ أيضاً مقال آخر للكاتب "حماية آثار حلب القديمة المحررة.. 2013"

 

في أحد أحياء حلب القديمة قريباً من باب الحديد قابلت أنس للمرة الأولى بعد انقطاع، حيث قادنا -أنا وزميلنا الثالث أحمد مصري- ضمن الحارات القديمة إلى منزل عربي كان الثوار قد اتّخذوه مقرّاً عسكرياً لهم، وهناك علِمنا أنّ أنس ومنذ مدة قد تطوّع في إحدى مجموعات الجيش الحر التي ترابط على إحدى جبهات أحياء حلب القديمة.

قبل أنس بحماس التطوع في الجمعية، وعلى مدار الشهور اللاحقة كان ينهي نوبة رباطه، ليسارع إلى جولته اليومية في أحياء حلب القديمة، يوثّق آثار القصف على المباني الأثرية، إضافة إلى مشاركته في معظم المشاريع التي نفذتها الجمعية لحماية بعض معالم المدينة التاريخية.

 

اقرأ أيضاً مقال آخر للكاتب "حماية آثار حلب القديمة المحررة.. 2013 (الجزء الثاني)"

 

الشهيد

في أحد أيام ديسمبر \ كانون الأول عام 2013 استفاق أنس من حلم غريب أخبر به والدته، فقد رأى نفسه في الجنة برفقة فتاة جميلة قالت له: "بشوفك بعد يومين"!

وهكذا.. وبعد يومين تماماً من ذاك المنام، وبين أحياء حلب القديمة التي أحبَّ، فاضت روحه إلى بارئها بعد انفجار قذيفة مدفعية قربه، ليرحل أبو رضوان عن دنيانا، وينضم إلى قافلة شهداء أعظم ثورات عصرنا الحديث.

 

مرفق 2 - الشهيد أنس رضوان.jpg

 

قبل فترة من استشهاده سألته عن سبب حمله السلاح، خاصة وأنا أعرف بغضه له، قال لي يومها:
"نحن السبب أنو الثورة انحرفت.. لأنه تركنا السلاح لغيرنا اللي ما يعرف شو يعني جهاد..
أنا رح سد مكاني"

وقد فعل..
غطّى مكانه.. ووفّى ذمّته.. وقُتِل -تقبله الله- ثائراً.