الشباب وضياع الهوية

2023.05.10 | 06:58 دمشق

الشباب وضياع الهوية
+A
حجم الخط
-A

نظراً لما طرأ ويطرأ على حياة الشباب اليومية، من صراعات وتغيرات ومستجدات، بفعل الهجرة والثورات والنزاعات الدولية، نجد أن شبابنا متورطٌ في الوقوع في هوةٍ عميقةٍ تحفّها عدة هويات مقترحة، ومطالباتٌ مطروحة للتبنّي، مما جعل الشباب في حيرةٍ شديدةٍ وسط ضغوطات التوسع الثقافي الحاد.

وإن المتأمل في عمق تفكير الشباب الحالي فإنه يجده أحد هذين النموذجين:

1.إما أن يكون نموذج الشباب الطموح الباحث عن الذات، المتشعّب بين ضروب العلم وآفاق المعرفة، تراه على الدوام ينهل من كل علمٍ شربةً، ويتشرْذم بين المصادر والاختصاصات، وكم وكم وجدنا شبابا أضاعوا نصف شبابهم في دراسة اختصاص ما، أو احترفوا مهنة ما، ثم التفتوا إلى غيرها، إما لتعرضهم لتحبيطٍ، أو فشلٍ، أو خسارةِ مادة دراسية، وربما بدأ البعض علاقةً عاطفيةً أو زواجاً، ثم غير رأيه في منتصف الطريق، تاركا أحلام شريكه على قارعة الطريق، فقط لأنه لم يتعلم كيف يشكّل هويته بالشكل الصحيح، ولم يدرك نقاط قوته وضعفه، ولم يدرس ملامح شخصيته التي يريد أن يحيا بها على وجه كوكبنا الصغير.

2. النموذج الثاني: هو نموذج الشباب المتشبث بالموروث أياً كان، مقدّساً للآبائية، يمشي وسط القطيع مطأطئاً رأسه، مطيعاً خانعاً، مشغولاً بما يدور حوله مجلس العبودية ذاك، فيخرج من الدنيا كما دخل فيها لا تكاد تجد له بصمة لأي هوية تُعرّفه.

وإني لأجد أن أول حلّ لهذه المعضلة هو مساعدة الشباب على وضع خريطةٍ ذاتيةٍ سليمة، تعرّفهم إلى قدراتهم الحقيقية، ومنابع إبداعهم الشخصية، ومن ثم فهم مقدراتهم ومهاراتهم، والتركيز على شغفهم الحقيقي الذي يدفعهم وبقوة لتشكيل أفضل نسخة من أنفسهم، ابتداء من مرحلة الشباب الأولى (مرحلة الإعدادية والثانوية) وصولاً لمرحلة الجامعة والتخرج انتهاء بمرحلة الانخراط في سوق العمل.

إن تأهيل الشاب /ة نفسه ليكون مواطناً صالحاً حقاً لنفسه أولاً، ولأسرته ثانياً، ولأمته ثالثاً، يعتبر حجر الأساس لبناء مجتمعٍ حصينٍ رصينٍ

وفي دارسـة "أحمـد محمـد نـوري محمـود،2011م" يقول فيها: (إن الشـباب لـديهم أزمـة هويــة يمكــن تعليلهــا بســبب الظــروف الاجتماعيــة والسياســية غيــر المســتقرة ومــا يــنجم عنهــا مــن الشعور بالقلق والتوتر وما تحدثه من تأثيرات سلبية في نفوس الشباب).

إن تأهيل الشاب /ة نفسه ليكون مواطناً صالحاً حقاً لنفسه أولاً، ولأسرته ثانياً، ولأمته ثالثاً، يعتبر حجر الأساس لبناء مجتمعٍ حصينٍ رصينٍ، تُفرَز قدرات شبابه وفق ما يناسبها زماناً ومكاناً وموهبةً، وإلا بقينا ندور في فراغ الرغبات والغرائز وتفريغ شحنات الغضب والنقد ومحاربة طواحين الهواء.

التحدي الأعظم يكمن في تمكين الشباب من الأدوات السليمة للاستفادة من ماضيهم واستخلاص العبر منه،  ليتمكنوا من صناعة مستقبلهم بالشكل الأجدى والأجدر والأنفع لهم ولأمتهم

فأنا لم أرَ حتى الآن شاباً مجتهداً باحثاً عن الحق والحقيقة تائهاً، بل إني رأيت هذا النوع من الشباب الذين أرجو أن يكثر نموذجهم وينتشر، رأيتهم ناجحين فعلاً في أي مجال من مجالاتهم التي اختاروها بأنفسهم، وأنا أركز على كلمة (اختاروا)، لأني أجد أن الحرية هي الرأسمال الحقيقي لتحقيق الذات، وصناعة الهوية النقية، من دون أي تشويش اجتماعي أو سياسي، وعلى النقيض فإنا نجد أولئك الشباب -الذين سلّموا رقابهم وعقولهم لغيرهم- في حالة تيهٍ عجيبٍ فلا هم حصّلوا ذاتهم ولا استطاعوا تقليد غيرهم، وعليه: فإن التحدي الأعظم يكمن في تمكين الشباب من الأدوات السليمة للاستفادة من ماضيهم واستخلاص العبر منه،  ليتمكنوا من صناعة مستقبلهم بالشكل الأجدى والأجدر والأنفع لهم ولأمتهم.

كل ذلك يبدأ من الأسرة ودعم أفرادها بعضهم لبعض وتخفيف حدة الخلافات العائلية واحتواء فئة الشباب واختلافهم الجذري عن جيل الآباء والأجداد، فما صلح لذلك الجيل لن يصلح بحالٍ لجيلهم، أضف إلى ذلك ضرورة منحهم الحرية الفكرية اللازمة لإطلاق العنان لأفكارهم والبحث عن إجابات لأسئلتهم خارج نطاق العادات والموروثات.

وأما تحديات الهجرة إلى بلاد المغترب وصعوبة الاندماج والانتماء إلى أي مجتمعٍ جديدٍ فإن استطعنا أن نغرس في عقول شبابنا فكرة ضرورة اغتنام كل الفرص لإيجاد الهوية الصالحة في أي مجتمع كان، فإنا نكون قد حققنا نصف الهدف، ويتكفل الشباب بالبحث عن الفرص في الطريقة التي تناسبهم بعد ذلك، مع الحفاظ على القيم العليا والمبادئ السامية لمساعدتهم في رسم طريقهم المستقيم نحو التفوق.

وأخيرا: فإني أجد أن التفريغ الوجداني للشباب، ووضع منهجيةٍ واضحةٍ لهم قبل البلوغ قدر الإمكان، والعمل على معرفة نقاط قوتهم أطفالا، يساعدهم أشد مساعدة في متابعة طريقهم حين يغدون شباباً، فإن فقدوا البوصلة تحت أي ظرف كان، فإن إدراكهم الواعي لمقدراتهم وإيمانهم بمبادئهم سيعيدهم إلى سكة الرشاد. ويبقى السؤال المطروح دوما: ترى متى سيتخذ شبابنا السبل الحقيقية لتشكيل هوياتهم الحقيقية؟