السوريون أمام خيار وحيد

2024.06.05 | 05:12 دمشق

56666666666666666666666666666666666666624
+A
حجم الخط
-A

لن تهدأ الحرب في منطقة الشرق الأوسط حتى تستكمل خلق المقدمات الضرورية للمرحلة التي تليها، والمقدمات الضرورية التي أقصدها لا تفرضها الوقائع والمجريات كما يتم التسويق المتواطئ وخصوصاً القول: إن الحرب جاءت رداً على ما فعلته حماس صبيحة السابع من أكتوبر العام الفائت، فالحرب على غزة ليست انتقاماً من حماس ولا هي استعادة لأسرى أو سجناء، وما يراد منها أبعد كثيراً من غزة، وقد يقال بأنني أبالغ حين أقول: إن الحرب على غزة ستؤسس لمرحلة جديدة في هذه المنطقة لن تكون فلسطين حدودها بل ستطول المنطقة كلها.

لم تدمر غزة بالكامل بحثاً عن مقاتلي حماس، أو لتصفية حماس سياسياً، بل دمرت بشكل منهجي متعمد كي تقوض إمكانات الحياة فيها، وكي يوضع الفلسطينيون أمام خيار القبول مرغمين على الرحيل من غزة، وهذا الخيار لا يمكن للقيادة الإسرائيلية أن تفكر فيه لولا أن هناك تفاهمات معلنة أو سرّية مع أطراف دولية عدّة ومنها دول إقليمية لا بد من موافقتها لتتم عملية الترحيل.

بين وجهتي نظر يمثل رابين إحداهما ويمثل نتنياهو أخراهما انتقلت المنهجية الإسرائيلية من فكرة قبول الدولتين وفكرة السلام مع دول الجوار الفلسطيني، وبالتالي إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي بمعاهدات سلام مع كل الأطراف، إلى فكرة أن لا دولة للفلسطينيين على أي جزء من مساحة فلسطين كلها، وحتى في منطقة الضفة الغربية التي تتمتع اليوم بسلطة يسيطر عليها الاحتلال، ويتحكم بتفاصيل كثيرة فيها إلى حد أن توصيف السلطة الفلسطينية القائمة بأنها سلطة حكم ذاتي تبدو أحياناً غير صحيحة، ما يسعى له اليمين الإسرائيلي المتطرف هو إنهاء فكرة الدولتين، وتمدد دولة إسرائيل لتشمل مساحة فلسطين كاملة بما فيها الضفة الغربية، وإنهاء جيب غزة وترحيل من فيه، أو إحداث تغيير عميق في تركيبته السكانية.

إن من يدّعي تمثيل هذه الشعوب ومن يقدّم نفسه على أنه المدافع عنها وعن مصالحها لا يراها أكثر من بيادق وجنود بدءاً من إيران ومروراً بكل من يدور في هذا الفلك كالنظام السوري وحزب الله وأتباع إيران في العراق واليمن.

لن يتوقف الأمر على غزة، ثمة معركة أخرى تُخاض الآن في الظل إلى حد ما، رغم أنها حامية، ورغم أنها مكلفة جداً، وهي معركة إسرائيل مع حزب الله، ولن يكون لبنان ممثلاً بحزب الله خارج الترتيبات التي أرادتها إسرائيل، وتواطأت معها أطراف دولية وإقليمية، فما يجري في لبنان منذ أن بدأت الحرب على غزة هو حرب حقيقية نتج عنها مئات القتلى، وتدمير قرى وبلدات بكاملها، لكنها لا تزال تجري ضمن قواعد يحرص الطرفان على احترامها إلى حد ما، ويحرص حزب الله على اللعب مع إسرائيل بشروط، وعدم الذهاب إلى جعلها حرباً مفتوحة، أي أنها لاتزال تجري وفق قواعد اشتباك متفق عليها بين الطرفين.

باختصار ما قبل غزة، لن يكون كما بعدها، وسوريا كما لبنان أيضاً، هي جزء من الترتيبات التي يراد ترسيخها في المنطقة، وهذه الحرب ستطول، وعلى وقعها ترسم الآن سياسات المنطقة، وما محاولات أطراف دولية وعربية تغيير خطابها حيال النظام السوري إلا جزء من هذه الترتيبات، فالأولوية الآن لهذه المعركة أما الشعب السوري والشعب الفلسطيني واللبناني فهم في ذيل هذه الأولويات، خصوصاً أن من يدّعي تمثيل هذه الشعوب ومن يقدّم نفسه على أنه المدافع عنها وعن مصالحها لا يراها أكثر من بيادق وجنود بدءاً من إيران ومروراً بكل من يدور في هذا الفلك كالنظام السوري وحزب الله وأتباع إيران في العراق واليمن.

ليس أمام السوريين إلا خيار إزاحة عائلة الأسد من واجهة سوريا، وهذا ليس تعنتاً في الموقف، ولا هو مجرد رغبة أو استجابة لشعار شعوبي يراد منه إرضاء مشاعر قسم كبير من السوريين، إنه ببساطة محاولة لرؤية سبل الخروج من كارثة يجمع السوريون جميعهم على ضرورة إنهائها، كارثة بدأت منذ ما يزيد على نصف قرن، وتفجرت في شكلها المدمر منذ عام 2011.

في ذروة قوة النظام السوري الذي يقوده بشار الأسد لم يتصرف هذا النظام ولا لحظة واحدة بدلالة سوريا الدولة، ولا بدلالة الشعب السوري ومصالحه الراهنة أو الاستراتيجية.

سيكون ثمن بقاء عائلة الأسد ولو لفترة قصيرة في حكم سوريا أكبر من الثمن الذي دُفع سابقاً، لأن المعركة اليوم ستعيد تشكيل المنطقة من جديد، وسوريا التي هي في أشد لحظات ضعفها، ويحكمها من هو مستعد لمقايضة كل مصالحها وصيغتها وحدودها مقابل كرسي السلطة، سيجعلها تدفع الثمن الأكبر في المعركة التي تخاض اليوم.

الكارثة التي تعصف في سوريا ليست متمثلة بمجريات سنوات ما بعد الثورة السورية فقط، ولا تقف عند انهيار اقتصادها وتدمير جيشها وتشتت مجتمعها وانقسامه فقط، إن الكارثة الأفدح تكمن في اقتران عاملين في لحظة بالغة الصعوبة، العامل الأول هو أنها في بؤرة معركة كبرى تعيد ترتيب المنطقة، والثاني أنها بالغة الضعف وليس فيها قوى سياسية أو اجتماعية تدافع عن مصالحها، أو توضح حجم الخطر الكبير لشعبها، ومن يحتكر قرارها ليس أكثر من مهووس بالسلطة يتم التلاعب به من أطراف كثيرة.

في ذروة قوة النظام السوري الذي يقوده بشار الأسد لم يتصرف هذا النظام ولا لحظة واحدة بدلالة سوريا الدولة، ولا بدلالة الشعب السوري ومصالحه الراهنة أو الاستراتيجية، بل كان دائما وبمنتهى الوضوح يتصرف بدلالة الكرسي فقط حتى لو دمرت سوريا وأبيدت عن بكرة أبيها، وإذا كان السوريون ينتظرون، ويظنون أنهم قادرون على إعادة بناء وترميم ما تهدم من سوريا واقتصادها بعد انتهاء الصراع الدائر فيها فإن ما يغيب عنهم هو أن ما يرتب بقوة السلاح في كامل المنطقة لن يترك لهم سوريا كما هي ليعيدوا ترميمها ومعالجتها، بل سيضعهم مرة أخرى أمام أمر واقع يشبه إلى حد كبير ما وضعته سايكس بيكو أمامهم في مطلع القرن الماضي.

الكارثة السورية بتكثيف شديد هي أن هناك إعادة صياغة للمنطقة كلها تتم بالقوة، وأن الطرف الأضعف بين كل الأطراف التي تضع هذه الصيغة هو الدولة السورية التي يتحكم بها رجل بالغ الضعف أهدر كل نقاط قوتها ونقطة قوتها الوحيدة هو أنه أقوى من المعارضة السورية.

ليس أمام السوريين سوى إزاحة عائلة الأسد كي يتاح لهم الدفاع عن سوريا وعن مصالحها في لحظة سترسم مستقبل المنطقة لفترة طويلة.