السعودية والحياد الإيجابي.. إيران ومخيال التمنيات

2023.06.22 | 06:35 دمشق

آخر تحديث: 22.06.2023 | 06:35 دمشق

السعودية والحياد الإيجابي.. إيران ومخيال التمنيات
+A
حجم الخط
-A

تتزايد التوقعات وفرضيات التسوية بما يدور في المنطقة قبل، وخلال، وبعد زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى الرياض، وكَثُر الحديث عن رسائل المسؤول الأميركي ومعها رسائل آتية من طهران بعد الانفراجات الأخيرة وموافقة واشنطن على تسديد العراق أثمان النفط والغاز والكهرباء لإيران بعد تجميدها لسنوات عدة بفعل العقوبات، وعن تطور العلاقات الاقتصادية والأمنية مع الرياض، وتمنِّيات وزير الخارجية الإيراني في صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية التي وصلت إلى حد التأكيد، بأن تطوير العلاقات الاقتصادية مع إيران، أصبحت أولوية للحكومة السعودية والقناعة صارت تامة بالوقوف إلى جانب طهران للحفاظ على أمن المنطقة، وتطور الأمر بما كشفه قائد البحرية الإيراني شهرام إيراني، بأن هناك دعوة لإنشاء تحالف بحري دولي، امتداداً لتحالف إيران الثلاثي مع روسيا والصين، والذي سيشمل السعودية وعمان والإمارات وقطر والبحرين والعراق وباكستان والهند، متوقعاً أن تخلو المنطقة قريباً من أية قوة غير مبرّرة بحسب تعبيره، في إشارة إلى إخراج القوات الأميركية من المنطقة.

تصريحات إيرانية متفائلة أبدتها قيادة طهران، هي تحاكي الظروف المأساوية والاقتصادية والمعيشية التي يئنّ تحتها الشعب الإيراني، وتحاكي رغبة الحصول على الدعم الخليجي العاجل. بينما توازن المملكة العربية السعودية تحركاتها استراتيجياً بشكل دقيق، وفي رسم سياساتها وفق منطق ما يسمى عدم الانحياز الإيجابي، وهو مصطلح ونهج جديد قديم في علم العلاقات الدولية، بغية تحقيق أهدافها بإنشاء اقتصادات متنوعة وحيوية خلال بضع سنوات، تنفيذاً لرؤيتها التي تتطلب استثمارات داخلية وخارجية تفوق ما يزيد 3 تريليونات دولار، وهو ما سينقل الرياض والمنطقة إلى مرحلة جديدة من التطور والتنمية والأمن والاستقرار والاستقلال والتكامل في علاقاتها الدولية.

الصين رحَّبت سريعاً بتشكيل التحالف البحري المشترك بمشاركة إيران والسعودية والإمارات، بينما الولايات المتحدة الأميركية، اعتبرته أمراً غير منطقي ويتحدَّى العقل، لأن إيران هي المسؤول الأول عن عدم الاستقرار الإقليمي، وتريد تشكيل تحالف أمني بحري لحماية المياه الإقليمية وهي من تقوم بتهديدها، بحسب رأيها. وبين هذين الموقفين تتأرجح المواقف الدولية والإقليمية، بانتظار ما ستُسفر عنه خريطة التحالفات ضمن ما يسمَّى بنظرية التعدديات القطبية في العالم، كون الرؤية السعودية الاقتصادية المترافقة مع جهودها السياسية ستشكل قفزة نوعية، تجاوزاً للماضي، ونبذاً لحال التوتر والاستقطاب والمواجهة، كمرحلة طبعت مسيرة هذه المنطقة التي تنزع اليوم صوب التحرر الاقتصادي والتكامل فيما بينها.

كل ما تقوم به السعودية اليوم، هو بناء هامش موسَّع لسياساتها الخارجية الإقليمية والدولية، للتقليل من الآثار السلبية لنفوذ أي قوة، سواء صينية أو روسية أو أميركية على اقتصادها واستقلالها وأمنها القومي

ولذلك بدت مراجعة العلاقات الأميركية السعودية مهمة من أجل طي صفحة الماضي، وهو ما حمله الوزير بلينكن في زيارته الرياض، وتقديمه عدة ملاحظات لما اعتراها من ضعف وتشكيك أصابها منذ الزيارة الأخيرة للرئيس بايدن إلى جدة العام الماضي، في قراءة سياسية وواقعية للعلاقة مع الرياض، بعد التوتر والشلل الذي حصل، عشية كل حملة انتخابات، لتعود واشنطن وتعترف بعمق علاقتها بالرياض وأهميتها للأمن القومي الأميركي من زواياه الأمنية والاقتصادية والتجارية، ولرؤية أميركا لمستقبل نفوذها في العالم.

فكل ما تقوم به السعودية اليوم، هو بناء هامش موسَّع لسياساتها الخارجية الإقليمية والدولية، للتقليل من الآثار السلبية لنفوذ أي قوة، سواء صينية أو روسية أو أميركية على اقتصادها واستقلالها وأمنها القومي، ولهذا أعلنت وزارة الاستثمار السعودية توقيع اتفاقات استثمارية بـ10 مليارات دولار مع شركات صينية خلال مؤتمر الأعمال العربي الصيني المنعقد في الرياض. وهذا ليس بالضرورة معناه خروج المملكة من دائرة الشراكة التاريخية والاستراتيجية العميقة مع واشنطن، كما يحلو أو يتمنَّى البعض، ليبني على تصوراته ومخياله وتمنِّياته الكثير من الأوهام، فكل ما تصنعه السعودية وتُعيد تدويره سياسياً، ما هو إلاَّ هيكلة علاقاتها وتحقيق مصالحها الوطنية. أما واشنطن، المهتمة بأولويات النفط، وحقوق الإنسان، والتطبيع مع إسرائيل، فتتحرك آليات صناعة القرار فيها بواقعية وذكاء في مقاربة مصالحها في المنطقة والعالم، وتأتي السعودية في صدارة هذه المقاربة.

لكن عملياً، وفق ما يُنظر إليه بأبعاد الصراع الجيوسياسي، باتت التحالفات واحدة من الأدوات التي تعطي النفوذ الأوسع والقوة الاقتصادية والسياسية، من دون استقطابات إيديولوجية وعسكرية، بل وفق تكامل مصلحي اقتصادي وتنموي، يوسِّع من مدى وحركة القوة الناعمة للدول الكبرى، ويعطيها مجالات متقدمة وأرْيَحِية في اختراق السياسات، وبناء خطوط وجبهات اقتصادية ومالية متقدمة، قادرة على البقاء فترات زمنية بحكم المصلحة الاقتصادية والبيئة السياسية.

إذ كشفت صحيفة الـ "واشنطن بوست"، بأن الزيارات المتزايدة للمسؤولين الأميركيين للرياض، عامل موازن للعلاقات بين الرياض وبكين، بعد تسريب وثيقة تحذر بأن الرياض تخطِّط لتوسيع علاقاتها التجارية مع الصين، لشراء طائرات مسيرة وصواريخ باليستية، وصواريخ كروز، وأنظمة مراقبة من بكين. إذ إن طمأنة وزير الخارجية السعودي، بأن علاقة بلاده بالصين، لا تمثل تهديداً للشراكة الأمنية طويلة الأمد بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، وبأن الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر شريك تجاري، تدلُّ بأنَّ هناك شراكة أمنية قوية مع الولايات المتحدة، وما زالت متينة.

في المقلب الآخر، تزايدت شراكات الولايات المتحدة الأميركية مع حلفائها في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، بإقامة تحالف "كواد" الذي يضم أميركا واليابان والهند وأستراليا، وتحالف "أوكوس" الأمني الذي يضم كلاً من بريطانيا وأستراليا مع الولايات المتحدة، وتمَّ الإعلان عن شراكة مع الإمارات والهند وإسرائيل ضمن تحالف أطلق عليه "إي تو_ يو تو"، مهمَّته متعلقة بفضاءات وبشراكات جيو_اقتصادية لضمان أمن الطاقة والغذاء والاتصالات البحرية والنقل والفضاء، وهذا يدل بأن الولايات المتحدة بدأت تتحوَّل في رؤيتها الاستراتيجية والأمنية التقليدية للعالم، وباتت تدرك التطور الحاصل في النظام الدولي، وتتعامل معه على هذا الأساس.

فأحد أهم أهداف تحالف (إي تو_يو تو) بناء إستراتيجية أميركية شاملة لمواجهة التأثير الجغرافي والاقتصادي العالمي للصين، بعد مبادرة الحزام والطريق في المشروع الصيني الضخم المتعلق بطريق بري وبحري يشمل 147 دولة ويشارك فيه نحو 70 % من سكان العالم، ولذلك قامت مجموعة السبع بزيادة جهودها للعمل وجذاب الاستثمارات والتكنولوجيا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وبإطلاق استراتيجية إعادة بناء شراكة عالمية للاستثمار بمئات مليارات الدولارات في البنية التحتية، لتلبية حاجات العالم النامي بمبلغ يقدر بــ 40 تريليون دولار.

ولذلك، يعطي تحالف (آي2_يو2) واشنطن مجالاً بتوسيع جهودها مع شركاء في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وربما تصل من خلال التركيز على قضايا البنية التحتية والصحة والغذاء والطاقة وتكثيف جهودها، لخلق التنافس مع مبادرة الحزام والطريق. فهذا يخفِّف نزْف الخلاف بين أعضاء التحالف على الصين، ويقدم لإسرائيل والإمارات، وبدرجة أقل الهند، بدائل للشراكة مع بكين، حيث لكلٍّ من الدول الثلاث دوافعها الاقتصادية والاستراتيجية.

فيما تبحث أميركا عن مراجعة الخلل وتعظيم الفوائد وتعزيز التحالف وإبقاء أميركا في قيادة الركْب العالمي، يروِّج إعلام المقاومة ومعه جبهات الممانعة لنهاية العصر الأميركي، والتمجيد بــ "الحلف الأمني البحري" بين إيران ودول الخليج

التحديات التي تواجهها بلدان العالم يوفر ربما، مجالات لفتح السُّبل وتقارب أكبر للمصالح بين البلدان، وبرغم هذه التحديات يوفر تحالف (إي تو_يو تو) الأمل في تعاون دولي أكثر فاعلية وتبادلاً للمنفعة، وفرصاً كبيرة للتعاون المربح للجانبين. وأهميته تكمن بتملك الولايات المتحدة للقدرات الكبيرة الاقتصادية والمالية والإعلامية والعسكرية وتوسُّع لمساحاتها الجيوسياسية حول العالم، وتمتلك الهند موارد بشرية ومواهب ضخمة، فيما إسرائيل لديها التكنولوجيا المتقدمة، والإمارات تطور سياسات مبتكرة لجذب الشركات الناشئة وترغب في استثمار موارد كبيرة.

ختاماً : فيما تبحث أميركا عن مراجعة الخلل وتعظيم الفوائد وتعزيز التحالف وإبقاء أميركا في قيادة الركْب العالمي، يروِّج إعلام المقاومة ومعه جبهات الممانعة لنهاية العصر الأميركي، والتمجيد بــ "الحلف الأمني البحري" بين إيران ودول الخليج، ضمن التحالف الدولي الجديد الروسي والصيني والإيراني، الذي سيُنهي بنظرهم وجود القواعد والأساطيل الأميركية في المنطقة. وأن محاولات أميركا لتحسين علاقاتها مع السعودية هي ضرب من الأوهام وتفاؤل بغير محلِّه، معتبرين أن خطوات الرياض المقبلة ستشلُّ تحركات وقدرات واشنطن، وأن بلدان الخليج تغادر مربع التحالف مع أميركا وأوروبا والغرب عموماً، للانضمام إلى حلف "بريكس"، ومعاهدة شنغهاي، والنظام الجديد المزمع تشكيله تحت قيادة الصين وروسيا. لكن الموقف الخليجي عامة، والسعودي على وجه الخصوص يعتبر أن كل منافسة متوفرة في الاقتصاد والتجارة هي ظاهرة مطلوبة وتساهم في تطور البشرية، لكن في إطار الشراكات الأمنية التي كانت وما زالت سبباً للاستقرار والرخاء فإنها لن تتغير، وهذا ما استفادت منه بلدان مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها السعودية، بعد الصراع النازف بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، ومحاولة حجز مقعد لها في التشكيل الجديد للنظام الدولي.