الرموز وانتفاضة السويداء

2023.09.20 | 06:43 دمشق

الرموز وانتفاضة السويداء
+A
حجم الخط
-A

أثارت الانتفاضة المستمرة في السويداء منذ قرابة شهر مجموعة من الأسئلة التي تتصل بالخطاب المستعمل والرموز الظاهرة في التسجيلات والصور التي ترد تباعا من هناك، وهي رموز فسرت تفسيرا خاطئا لا من قبل النظام الذي نعرف موقفه من أي حراك، ولكن من قبل عدد لا بأس به من جمهور الثورة الذي يسمع ربما للمرة الأولى خطابا مغايرا لما اعتاده طوال السنوات الماضية.

الرمز الأول الذي أثار الكثير من علامات الاستفهام كان علم الحدود الخمسة الذي رفعه المتظاهرون، وهو علم ذو طابع مذهبي من جهة، وموغل في محليته من جهة ثانية، إذ ربما لا يعرفه أحد خارج حدود السويداء أو من له معرفة أو اطلاع على المذهب الدرزي، ولكن بسبب هذا الطابع المحلي، فإن علم الحدود الخمسة أحدث قطيعة نهائية مع النظام، لأن السويداء بهذا العلم تكون قد ابتعدت عن رمز أساسي من رموز النظام، واقتربت من خصوصيتها المحلية بعيدا عن السردية التي يحاول النظام ترسيخها. ويجب ألا نخجل من الإقرار بحقيقة أن تصحر الحياة السياسية في سوريا أبقى التنظيمات الأهلية كالطائفة والعشيرة والمنطقة بوصفها البنى الوحيدة التي يمكن أن يجد الفرد السوري من خلالها التعبير عن صوته. نقول هذا على الرغم من إدراكنا أن المرور إلى الوطن لا ينبغي أن يمر بالطائفة أو العشيرة أو المذهب، ولكن الالتجاء إلى هذه البنى الأهلية يعني قطع شعرة معاوية مع النظام الذي يصر دائما على خطاب يماهي بينه وبين الوطن أو بينه وبين الرموز الوطنية كالعلم والنشيد واسم الدولة وغيرها.

وعلى الرغم من رفع علم الثورة في المظاهرات مؤخرا، فإن حضوره ليس واسعا لأسباب مفهومة، من بينها أن الممارسات التي جرت تحته من قبل بعض الفصائل صعبت على المتظاهرين رفعه في مظاهرات تحاول أن تجد مساحة لمخاطبة الطرف الآخر الذي ما يزال يقف في صف النظام.

عادت المظاهرات لترفع صور سلطان باشا الأطرش، وإبراهيم هنانو وصالح العلي إلخ، فالشخصيات السابقة على خلاف الساروت وأبو فرات وغيرهما رموز جامعة لكل السوريين، ولا يمكن أن تثير حفيظة مناصري النظام

في إطار هذا الطريق الثالث- إن جاز التعبير- عادت المظاهرات لترفع صور سلطان باشا الأطرش، وإبراهيم هنانو وصالح العلي إلخ، فالشخصيات السابقة على خلاف الساروت وأبو فرات وغيرهما رموز جامعة لكل السوريين، ولا يمكن أن تثير حفيظة مناصري النظام، لأن المسكوت عنه في تلك الرموز هو الإبقاء على مساحة ما مع بيئة النظام الحاضنة لا مع النظام نفسه، وحتى علم الثورة حين رفع مؤخرا فإنه رفع في هذا السياق، سياق العودة إلى الرموز التي أنشأت الدولة السورية التي كان سلطان الأطرش أحد آبائها المؤسسين.

في سياق الرمزيات المشار إليها تحضر لدينا رمزية أخرى، هي الإصرار على اسم "بني معروف"، وهذه التسمية تستحق الوقوف عندها مطولا لا لخصوصيتها المذهبية، وإنما لجملة الرموز التي تستعمل في إطار هذا العنوان العريض.

ليس الدروز قبيلة، فهم كأي مذهب أو دين ينتمون إلى قبائل أو بيوت أو عشائر مختلفة، ولكن "الخطاب الدرزي" يقدم الدروز بوصفهم قبيلة، وهذا أمر له دلالته المهمة، فالانتساب إلى قبيلة ما يفرض على الفرد القبلي مجموعة من القيم ينبغي أن يتحلى بها أو على الأقل يستعملها في خطابه، بوصفها مثلا عليا يفترض به تمثلها أو محاكاتها. لكن الإصرار على تسمية "بني معروف" له دلالات أعمق في السياق السوري، فهو محاولة لمواراة الطابع المذهبي وسعي لإيجاد مساحة مع جزء واسع من السوريين الذين ينتمون إلى قبائل وعشائر تشكل طيفا كبيرا من الأكثرية المجتمعية، بمعنى أن رفع تسمية "بني معروف" هدفه إشعار الأكثرية بأنه جزء منها، جزء ينتمي إلى قبيلة لا إلى مذهب.

هذا الإصرار على الطابع القبلي عامل ضروري لا لتوحيد أبناء "قبيلة بني معروف"، ولكن لأنه نابع من الممارسات والقيم التي تتحلى بها الجماعة. إن "رجل الدين الدرزي" على الرغم من عمامته ولحيته لا يبدو في نظرنا رجل دين، لا لأننا لا نعرف دوره الديني بسبب طبيعة المذهب، وإنما لأن دوره في الحياة العامة أقرب إلى دور شيخ العشيرة التقليدي: يستقبل جموع الناس ويوجههم ويتحدث فيهم خطيبا في شؤون اجتماعيه لا دينية، ويشرف بنفسه على إنهاء الخلاف بين العائلات...إلخ. وثمة ملاحظة يجب أن نذكرها هنا، وهي أن المذهب الدرزي مذهب لا تبشيري بمعنى أنه لا يحاول استقطاب أتباع جدد، فهو في هذه الناحية مثل العشيرة التي لا يمكن أن ينتمي إليها الشخص إلا من خلال رابطة الدم.

في سياق هذا الخطاب القبلي يبرز الشعر بوصفه أحد الأدوات الأساسية في هذا الخطاب. فالشعر جزء لا غنى عنه في القبيلة، فالقبيلة التي لا شاعر لها ليس لها حضور بين القبائل، لأن الشاعر يدافع عنها ويعدد مفاخرها ويثني على جليل أعمالها، ولهذا رأينا أحد الشعراء يقف بصوته الجهوري ولحيته وشاربيه مدافعا عن القيم الوطنية، مذكرا بأمجاد "القبيلة" في المسيفرة، وكأنه في سوق عكاظ المعروف.

تعيد السويداء الحياة لقيم غطت عليها في السنوات السابقة عناوين دينية مختلفة، قيم من الأجدى لنا الوقوف عندها والدفاع عنها، لأنها القيم الوحيدة التي يمكن أن تجمع السوريين في إطار واحد

لنعد الآن إلى الخطاب المستعمل، وهو الخطاب الذي تحضر فيه مجموعة القيم التقليدية. قد يعيب بعضهم على الخطاب أنه يمتح من قيم أبوية لا تشكل قطيعة، كما يطالبون، مع القيم القارة في المجتمع، ولا سيما مفردات مثل الكرامة والنخوة والعزة والشرف، وهي الكلمات التي نراها في كل الخطب والكلمات القادمة من هناك، والتي أثير حولها لغط بوصفها قيما أبوية. طبعا لا يمكن أن نغفل لتلك الفئة القليلة التي تحاول أن تنقلنا إلى عالم وقيم احتاجت المجتمعات التي تريد تلك المجموعة منا أن نتمثل قيمها إلى مئات السنين لتعبر طريقا ربما لا يرغب معظم مجتمعنا في السير فيه، لأنه ليس الطريق المناسب لنا، غير أن الجوهري في هذا الخطاب الأبوي أنه يعيد التوكيد على مفاهيم بعيدة كليا من المفاهيم الأبوية التي يطرحها النظام، والتي تجعل من رأس النظام أبا ومن سوريا النظام أما ينبغي على الأولاد إطاعتهما.

تعيد السويداء الحياة لقيم غطت عليها في السنوات السابقة عناوين دينية مختلفة، قيم من الأجدى لنا الوقوف عندها والدفاع عنها، لأنها القيم الوحيدة التي يمكن أن تجمع السوريين في إطار واحد. باختصار تعيد السويداء التوكيد على العروبة بوصفها أساسا صالحا لنعيد رتق الجرح الوطني.