icon
التغطية الحية

"الديمقراطية والبندقية".. مقدمات مفاهيمية ونظرية للعلاقات المدنية – العسكرية

2022.06.08 | 18:35 دمشق

democracy-and-guns-ls.jpg
+A
حجم الخط
-A

يقدم أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإسكندرية، عبد الفتاح ماضي، في كتابه "البندقية والديمقراطية.. العلاقات المدنية – العسكرية وسياسات تحديث القوات المسلحة" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قراءة مفاهيمية ونظرية لواحدة من قضايا انتقال الحكم في الدول التي شهدت فترات من الحكم العسكري إلى الحكم المدني الديمقراطي، حيثُ يستعرض في هذا تجربة سبع دول كانت قد نجحت في تحقيق الحفاظ على وحدتها وأمنها، فضلًا عن بنائها لنظامها المدني الديمقراطي، وتحديثها للمؤسسة العسكرية على الرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمر بها.

مقدمات مفاهيمية ونظرية

يفتتح "ماضي" القسم الأول المقسم إلى ثلاثة فصول باسترجاع مجموعة من التعاريف التي تقارن الفروق بين تعريفي النظم السياسية والديمقراطية، وهو من هذه الناحية يحيلنا في تعريف المصطلح الأول إلى أن أكثر التعريفات التي لديها القدرة على فهم نظم الحكم المعاصرة، هي التعريفات التي "تربط بين المؤسسات السياسية الحاكمة وأيديولوجيات المجتمع"، وعلى الرغم من أنه من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف بين النظم السياسية باختلاف الحضارات والثقافات بين المجتمعات، فإنه يرى المؤسسات السياسية المنظمة تنظيمًا قانونيًا لا بد من أن تقوم على مبادئ "القيم والهياكل والقواعد والإجراءات المقننة التي وضعت من أجل إدارة الصراع".

وبما أن للديمقراطية تعريفات ومضامين كثيرة، فإن "ماضي" في تعريفه للديمقراطية لمقاربتها مع "النظم السياسية" يذهب إلى ربطها "بالقيم والقواعد والإجراءات المتصلة بعمل المؤسسات السياسية التي تنظم عمليات الحكم"، بمعنى اتخاذها القرارات ورسم السياسات العامة وتنفيذها، والتي تمكن أيضًا المواطنين من المشاركة بهذه العملية أولًا، وتنظم علاقات مؤسسات الحكم بالمواطنين، وهو يتطرق في نقاشه للديمقراطية إلى شكلين أساسيين هما الديمقراطية النيابية والديمقراطية الشعبية.

يشير "ماضي" في هذا الفصل إلى أن الخصائص المشتركة لأنظمة الحكم الديمقراطية الحالية، تقوم في المقدمة على حكم القانون الذي يكون فيه الحكام والمحكومون على قدم المساواة، ثم السيادة الشعبية التي تعمل بموجب إنشاء دولة المؤسسات بدلًا عن دولة الفرد والعائلة، ويليها الحقوق والحريات السياسية وتمكين المواطنين من المشاركة السياسية في صنع السياسات والقرارات التي تقرر مصيرهم، وأخيرًا المواطنة التي تقوم على مبدأ المساواة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين أفراد المجتمع أنفسهم، وهو ما يقود إلى خلاصة يصل فيها إلى أن المؤسسة العسكرية ليست مؤسسة سياسية، إنما هي مؤسسة فنية تتبع للسلطة التنفيذية وتخضع كذلك لرقابة المؤسسات السياسية المنتخبة.

المساهمات النظرية في حقل العلاقات المدنية – العسكرية

يربط "ماضي" ظهور هذا الحقل الدراسي الخاص بمفهوم العلاقات المدنية – العسكرية بالكتاب الذي أصدره عالم السياسة الأميركي صامويل هنتنجتون (1927 – 2008) "الجندي والدولة: نظريات وسياسات العلاقات المدنية – العسكرية"، والذي ركز فيه على تناول العلاقات المدنية – العسكرية في المجتمعات الغربية، وتحديدًا الولايات المتحدة، حيثُ يثير هذا المفهوم مجموعة من القضايا المرتبطة بالتفاعلات التي تجري بين قادة الجيش من جهة، والسياسيين المدنيين المنتخبين الذين يصنعون القرارات السياسية، ويرسمون السياسات العامة في الدولة من جهة أخرى، وهو في هذا الجانب – أي ماضي – يستعرض أهم المساهمات النظرية التي ناقشت العلاقات المدنية – العسكرية بدءًا من أسباب تدخل العسكريين في السياسة ووقوع الانقلابات العسكرية، ومرورًا بأشكال الحكومات العسكرية، وانتهاءً بخروج العسكريين من السلطة وإقامة الرقابة المدنية على المؤسسات العسكرية خلال مرحلة ترسيخ نظام الحكم المدني الديمقراطي.

ويمكن تلخيص القراءة التي توصّل إليها "ماضي" في سياق تدخل العسكريين في السلطة وخروجهم منها، والتي تبدأ بنقاش أسباب تدخل العسكريين في السياسة ومبرراتهم للانقلابات العسكرية، فضلًا عن سمات الحكومات العسكرية ودورها بظهور الأدبيات التي ناقشت معايير التمييز بين الحكومات العسكرية والمدنية، وصولًا إلى خروج العسكريين من السلطة، إلا أن الخروج لم يؤدِ إلى انتهاء دورهم حيثُ مارسوا أدوارًا مختلفة، من ضمنها على سبيل المثال لا الحصر حق الفيتو، ودور الحارس المراقب للنظام المدني، بينما اهتمت الرقابة المدنية على العسكريين من جهة أخرى، بمسائل المهنية العسكرية، وأهمية السياقات والثقافات المحلية التي ساهمت بخروج العسكريين من السلطة في الدول الغربية، فضلًا عن سياق اللحظات التاريخية الفارقة التي أدت إلى انسحاب العسكريين من السلطة، وتوسيع النقاد وعلماء السياسة لمفهوم المهنية.

بما أن للديمقراطية تعريفات ومضامين كثيرة، فإن "ماضي" في تعريفه للديمقراطية لمقاربتها مع "النظم السياسية" يذهب إلى ربطها "بالقيم والقواعد والإجراءات المتصلة بعمل المؤسسات السياسية التي تنظم عمليات الحكم

مع ظهور العديد من النقاشات التي تطرقت للعلاقات المدنية – العسكرية التي أثارها هنتنجتون في منتصف خمسينيات القرن الماضي، برز حقل معرفي جديد إلى حد ما – كما يشير ماضي – عرف بـ"إصلاح القطاع الأمني"، والذي "بموجبه اتسع حقل العلاقات المدنية – العسكرية ليشمل إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية"، وهو بدأ مع النظرية التي قدمها باحثو "مدرسة كوبنهاغن للدراسات الأمنية" المعروفة بـ"نظرية الأمننة"، والتي تهتم بدراسة "كيف يتم تحويل قضية معينة من فاعل ما، إلى مسألة أمنية من أجل السماح باستخدام تدابير استثنائية؟"، كما الحال إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الأميركي والسوفييتي (1947 – 1991).

ويشير مفهوم "إصلاح القطاع الأمني" في جوهره وفقًا لما يخبرنا "ماضي" إلى تقديم "خدمة الأمن على نحو فاعل وكفؤ، طبقًا لمبادئ الديمقراطية، وهذا يعني إصلاح، أو إعادة بناء القطاع الأمني الذي يشمل المؤسسات العسكرية وأجهزة الشرطة والاستخبارات" بهدف تحسين مستوى الخدمات الأمنية دون أي تمييز، والذي يقابله على أساسه تحسين للعلاقات الدولية، قبل أن يتوسع هذا المفهوم ليشمل مفهوم "حوكمة القطاع الأمني"، وهو من المفاهيم التي تقوم على معايير الفاعلية في تقديم خدمة الأمن، بالإضافة إلى الحياد السياسي، حماية حقوق الإنسان، المساءلة، الشرعية، تعزيز الاستجابة، الكفاءة، وحكم القانون.

وهو يعتبر في هذا الجانب، أي بالاستناد إلى مفهومي "إصلاح القطاع الأمني" و"حوكمة القطاع الأمني"، أنه صار ينظر إلى سياسة الأمن على أنها "عملية متعددة الأطراف"، بالنظر لاشتراكها في صياغة السياسة الأمنية، والتي تشمل "المؤسسات التي تحتكر العنف [أي المؤسسات الرسمية في الدولة التي لها صلاحيات الدفاع والأمن]" من طرف، و"المؤسسات الرسمية السياسية في الدولة" بما يشمل الرئيس والوزراء وغيرهم من المسؤولين السياسيين من طرف آخر، بالإضافة طبعًا إلى منظمات المجتمع المدني والإعلام والمنظمات غير الحكومية، وكذلك المنظمات العسكرية غير الرسمية وشركات الأمن الخاصة، وهناك أيضًا الفاعلون المانحون أو الجهات ذات الصلة بالقطاع الأمني.

في التحول من الحكم العسكري إلى الحكم الديمقراطي

يدرس "ماضي" في القسم الثاني أنظمة الحكم في دول البرازيل والأرجنتين وتشيلي وإسبانيا والبرتغال وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا، والتي يقدم فيها قراءة لكل دولة من ناحية طبيعة الحكم العسكري الذي كانت تقوم عليه قبل تحولها إلى النظام المدني الديمقراطي، فضلًا عن تأسيسها لمفهوم الرقابة المدنية الديمقراطية على المؤسسة العسكرية خلال مرحلتي التحول والترسيخ الديمقراطي، وهو – أي ماضي – في هذا الصدد يقف عند الخلفيات والسياقات التاريخية لكل دولة بمعزل عن الأخرى، ويستعرض مع كل دولة تطور المواقف والبرامج والسياسات، وكذلك التحديات والمشكلات.

بالتأكيد ما يهمنا الإشارة إليه من العرض السريع لهذا الفصل يكمن في معالجة النفوذ العسكري في السياسة لدى هذه الدول، فقد كان المشترك بينها في انتقالها من الحكم العسكري إلى المدني الديمقراطي عملها على تعزيز الممارسات السياسية التي ساهمت بتحقيق الرقابة المدنية السياسية الديمقراطية، وكذلك تعهد القادة السياسيين ببرامج انتخابية تقوم على ملاحقة منتهكي حقوق الإنسان، بالإضافة إلى تخصص المؤسسة العسكرية بمهام حفظ السلام الدولية، والحفاظ على الجيش بعيدًا عن مهام الأمن الداخلي، وكذا تعزيز دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية، والاستقرار السياسي والأداء الاقتصادي، لكن هذه المعالجة كان عليها في البداية الانتهاء من الإرث الديكتاتوري العسكري الذي كان مفروضًا بأدوات مختلفة.

نتائج وخلاصات مقارنة

يتطرق ماضي في القسم الأخير من كتابه إلى تقديم أطر نظرية وإجابات مركّزة عن السؤالين المحوريين اللذين استهل بهما كتابه، وهما كيف يخرج العسكريون من السلطة؟ وكيف تجري معالجة أدوارهم في السياسة بعد خروجهم من السلطة؟ حيثُ يُعد الانتقال من الحكم العسكري إلى المدني الديمقراطي شكلًا واحدًا من أشكال أو سيناريوهات عدة للانتقال من نظم حكم الفرد أو القلة، والتي يحددها بخمسة فاعلين رئيسيين هم: "النظام، الجيش، المعارضة المعتدلة، القوى الراديكالية، والفاعل الخارجي"، بالإضافة لمناقشته مجموعة من المتغيرات التي قد تؤدي إما إلى تغيير النظام أو استمراره، والتي يحصرها بخمسة سيناريوهات هي: "استمرار النظام، الانقلاب العسكري واستيلاء العسكريين على السلطة، الانتقال إلى الحكم المدني الديمقراطي، اندلاع ثورة واستيلاء قوة راديكالية على السلطة، وأخيرًا اندلاع صراع مسلح".

وبالاستناد إلى التجارب التي استعرضها ماضي في الكتاب، فإنه يحدد مجموعة من العوامل الفاعلة التي تساهم بالانتقال من الحكم العسكري إلى المدني، والتي يرى أنها ترتبط بإدراك العسكريين صعوبة استمرارهم في السلطة من خلال اتفاق قوى التغيير الديمقراطي على إخراجهم من الحكم، وهذا العامل مرتبط باتفاق قوى التغيير الديمقراطية على عقد وطني يؤسس لانتقال الحكم إلى القادة المدنيين، وكذلك العامل الاقتصادي المرتبط بالنجاح أو الفشل، إذ إنه مثلما يؤدي الفشل الاقتصادي إلى سقوط الحكومات العسكرية، فإن النجاح قد يكون عاملًا مساهمًا يدعم بقاءها في الحكم بغض النظر عن الشق السياسي، وأخيرًا الحصول على تأييد الدول الأخرى، كما الحال مع الدول التي تحولت من الحكم العسكري إلى المدني الديمقراطي في جنوب وشرق أوروبا وجنوب أفريقيا.

وهذا الانتقال يقودنا إلى الآلية التي تقوم عليها الرقابة المدنية الديمقراطية على المؤسسة العسكرية، حيثُ يلخص "ماضي" هذه الرقابة بخمسة أبعاد تتمثل بـ"حكم القانون وسيادة المؤسسات المدنية المنتخبة على القوات المسلحة، التمايز الوظيفي بين القطاعين العسكري والمدني ودعم مهنية الجيش، مأسسة العلاقات المدنية – العسكرية ووجود وزارة دفاع برئاسة وزير مدني، خضوع الجيش لرقابة المدنيين والقضاء ومساءلتهم، تعزيز الفهم المشترك بين العسكريين والمدنيين في المجتمع"، لكن هذه الرقابة محكومة بحدوث لحظة فارقة لتنفيذها، في حالات مشابهة للدول حديثة الاستقلال أو نشوء الدول الجديدة، أو حتى نشوب حروب عالمية أو أهلية على سبيل المثال لا الحصر، نظرًا لأن أهمية التوقيت ومدته مرتبطان بنجاح أو فشل التجربة.

وعند البدء بعملية الرقابة لا بد للأنظمة الساعية لإقامة رقابة مدنية على المؤسسة العسكرية أن تخضع هي نفسها للعملية الديمقراطية، بمعنى أنه لا توجد رقابة مدنية على المؤسسات العسكرية من دون مؤسسات مدنية ديمقراطية، وهو ما يفرض بالضرورة وجود حكم مدني ديمقراطي يقيّد الفاعلين السياسيين بقيم النظام المدني الديمقراطي ومؤسساته وضوابطه، لأنه يعد شرطًا من شروط الشروع في عملية معالجة العلاقات المدنية – العسكرية، وتحويل المؤسسة العسكرية إلى مؤسسة موالية للنظام الديمقراطي، ويرى "ماضي" في النهاية أن أمرين أساسيين يمكنهما المساعدة على تحقيق هذه الرقابة، أولهما "امتلاك المدنيين حدًا أدنى من المعرفة بالشؤون العسكرية الأمنية، وقدرًا مناسبًا من البراعة والحسم"، أما ثانيهما فهو: "وصول العسكريين أنفسهم إلى قناعة راسخة قوامها أن تحقيق مصالحهم المهنية غير ممكن إلا في ظل النظام الديمقراطي".

نهاية، ما يهمنا من هذه التجارب فعليًا هو ما خلص إليه عبد الفتاح ماضي في خاتمة كتابه، وذلك من خلال رؤيته أن الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني يتطلب أولًا وجود قوى ديمقراطية تقدم بديلًا عن الحكم العسكري، لكن هذا يشترط بقبول المؤسسة العسكرية الخروج من الحكم ما يعتبر من العوامل الحاسمة لنجاح هذا التحول في شكل النظام العسكري الحاكم، ومع ذلك فإن هذا التحول يحتاج إلى وجود قوى ديمقراطية متفقة على الانتقال من الحكم العسكري إلى المدني الديمقراطي، بالإضافة إلى النضال السلمي من أجل انتقال الحكم بطريقة سلمية، وظهور شخصيات إصلاحية داخل المؤسسة العسكرية أو دفع الجنرالات إلى التفاوض، وكذلك حصولهم على دعم الدول الخارجية بما يضمن عدم ممانعتها لهذا الانتقال.