الدولة الواجهة والدولة المستترة

2022.10.18 | 07:11 دمشق

سجن إيفين في إيران
+A
حجم الخط
-A

وأنت تتابع ما يجري في مدن إيران اليوم، ستجد نفسك من دون أن تتعمد ذلك، تستحضر ماجرى ويجري في سوريا. أيضاً، وأنت تتابع ما تتناقله وكالات الأنباء عن الرواية الرسمية الإيرانية لما يجري، ستتذكر على الفور الإعلام السوري، وكيف كان ينقل ما يجري في سوريا، لن تستحضر فقط، لكنك ستدهش لحجم التطابق في كلتا الحالتين، لكأنّه مشهد واحد يعاد بمكانين مختلفين، وزمنين مختلفين، ولغتين مختلفتين.

في مقلب آخر، لكن في السياق ذاته، وأنت تتابع الحرب الروسية على أوكرانيا ستعيش الحالة نفسها، وسترى مشاهد دمار حلب ومدن وقرى وبلدات سورية أخرى، تُعاد في معظم مدن ومواقع أوكرانيا التي هاجمها الجيش الروسي، ومرة أخرى سيصدمك أن مافعله بوتين بسوريا يشبه إلى حد التطابق مع ما يفعله اليوم في أوكرانيا، لكن بفارق أساسي هو أنه في أوكرانيا هناك دولة وجيش يقاومان الفاشية البوتينية، وهناك من يدعم الجيش الأوكراني، ويمده بالأسلحة، بينما وقفت الدولة السورية مع قتلة الشعب السوري، وترك الشعب السوري أعزلَ.

ليست هذه المقدمة للحديث عن المظاهرات والقمع في سوريا وإيران، وليست للحديث عن همجية بوتين ودمويته في حروبه، حيث لا حرمة لمدنيين، ولا لبنى تحتية، ولا حضور لأي معيار أخلاقي أو إنساني في حروبه التي يخوضها ببشاعة بالغة، فهذه المقدمة تريد القول إن ثمة جوهراً أساسياً لطبيعة الأنظمة التي تحكم هذه البلدان الثلاثة، والتي تدل على أن ثمة ما هو أعمق من تكتيك سياسي أو عسكري، تفرضه المواجهات التي تتعرض لها هذه الأنظمة في هذه البلدان.

في البلدان الثلاثة المذكورة سابقاً، ثمة مشتركات كثيرة، لكن ماهو بالغ الأهمية، هو ما يتعلق ببنية الدولة، وحقيقتها، وإمكاناتها وطريقة إدارتها، وأيضاً بعلاقة الدولة في هذه البلدان بالمجال العام لمجتمعاتها، ولماذا غاب هذا المجال العام فيها، وهل يمكن أساساً أن يوجد، وفي حال أريد له أن يوجد فعلاً، فما شروط وإمكانات صناعته؟

لايولد المجال العام من الإيديولوجيا، ولا من الشعارات الزائفة الكبرى التي يراد منها أن ترسخ سلطة لا أن تطور مجتمعاً، إنه في جوهره ومعناه ومؤدّاه نتاج التفاعلات الاجتماعية، وتعبير عن تناقض وتنافس وصراع قوى المجتمع، والأهم أنه تكثيف للجدل الطبقي، أو ما تفرضه صيرورة الإنتاج.

في الدول الثلاث لم يتم إنتاج اجتماع مدني حقيقي، ليس هذا فحسب، بل غالباً ما كان يتم وأد أي محاولة لتشكيل هذا الاجتماع، وبغياب الاجتماع المدني الحقيقي، يتعذر قيام الدولة بصيغتها الحديثة

في الدول الثلاث لم يتم إنتاج اجتماع مدني حقيقي، ليس هذا فحسب، بل غالباً ما كان يتم وأد أي محاولة لتشكيل هذا الاجتماع، وبغياب الاجتماع المدني الحقيقي، يتعذر قيام الدولة بصيغتها الحديثة، وعليه فإن ما نراه اليوم في البلدان المذكورة ليس دولة حقيقية، إنه محاكاة مشوهة لصيغة الدولة التي تحتاجها  العلاقة مع الدول الأخرى، محاكاة في ظاهرها فقط، أما في عمقها فهي ليست دولة.

يكمن جوهر اختلاف نموذج الدولة السائد في سوريا وروسيا وإيران - وغيرها طبعاً - عن نموذج الدولة الحقيقي في الحضور المهيمن والأساسي لقوة تتشكّل خارج الدولة، بحيث تصبح أقوى من الدولة، فتبتلعها وتُخضِعها لها، فتصبح الدولة في هذه الحالة دولتين، دولة شكلية لا قرار لها، يتم تصديرها ظاهرياً على أنها الدولة، وتقيم علاقات خارجية، وتتقمص كل أدوار الدولة على كل الصعد الداخلية والخارجية، ودولة أخرى لا تكاد تُعرف، ولا تظهر للعلن لكنها هي الدولة الحقيقية، وهي التي تستطيع أن تتحكم في كل مفاصل وقرارات الدولة المعلنة.

من أهم أدوار الدولة المستترة، والتي غالباً ماتتحكم بها عصبة (نظام)، طائفية أو قومية أو اقتصادية الخ، هو أنها تقمع أي محاولة لخلق مجال عام، أي أنها تجعل من المجتمع مفتتاً، وعاجزاً ومشلولاً، وهي من أجل ذلك لا تجد أمامها سوى طريقتين لهدفها هذا، هما إرهاب المجتمع، وإحباطه، ولضمان تحقق هذا واستمراره، لا بدّ من تفقير الناس، وتجويعهم، وتجهيلهم، وإغراقهم في معارك يومية مع متطلبات وجودهم، لأنه من الصعب جداً أن تسيطر على مجتمع متعلم، ومعافى، وواثق من قدرته على الفعل.

بتغييب المجال العام، وبإرهاب المجتمع وإحباطه، تصبح الدولة المستترة التي صنعها النظام خارج الدولة الواجهة، في أزمة هي الأخرى، إذ أن الدولة بكل الأحوال هي انعكاس واقع مجتمعها الاقتصادي، والثقافي، والسياسي الخ، فتبدأ الدولة الواجهة بالانهيار أولاً، ثم تلحقها الدولة المستترة لكن بعد أن تكون قد استنزفت كل إمكانات الدولة والمجتمع، وهكذا تصل هذه الدولة بوجهيها إلى مرحلة لا يمكن الاستمرار فيها، فتنكسر المعادلة، لكنها تنكسر غالباً مصحوبة بعنف شديد، وتنفتح البلاد على احتمالات متعددة، لكنها كارثية كلها.

لا يُمكن لأنظمة تربط وجودها بتغييب المجال العام، وبخلق دولة مستترة، تدير المجتمع بأدوات القمع والترهيب والتهميشن أن تستمر، وهي أيضاً لا تستطيع أن تتجاوز في تطورها حداً ما بحكم بنيتها، وبحكم تقييدها لمجتمعها، وهذا طبيعي، وبديهي، ونتيجة حتمية لتركيبة اجتماعية، وسياسية، واقتصادية قسرية، فُرضت على المجتمع.

في مثال بالغ الوضوح، حول أهم تمظهرات الدولة المستترة، يمكننا قراءة التصريح الذي قاله قائد الحرس الثوري الإيراني منذ أيام، وبعد تواصل المظاهرات في معظم مناطق إيران، مهدداً الشعب الإيراني الثائر ضد حكم الملالي: (لدينا 380 كتيبة جاهزة من الباسيج)، والباسيج هي منظمة إرهابية، قمعية متوحشة، أنشأها الحرس الثوري الإيراني لقمع الشعب الإيراني، وهو أيضاً – أي الحرس الثوري الإيراني - منظمة إرهابية تتحكم بكل مفاصل إيران، العسكرية، والاقتصادية، والسياسية والثقافية، وتخضع للولي الفقيه فقط، وهي الركن الأساس في الدولة المستترة، التي تحكم إيران. 

تفتح بنية "النظام/ الدولة" في الدول الثلاث، النقاش حول قضايا عديدة، لا بدّ من الغوص فيها، عند محاولة الخروج من صيغتها القائمة المنهارة حكماً، أول هذه القضايا وأهمها هو جدل الدولة / المجال العام، وجدل الدين / الدولة / المجتمع، وجدل الدولة/ المواطنة.

لايمكن التغاضي عن هذه القضايا، إذا ما أريد لهذه الدول – ولدول كثيرة غيرها، خصوصاً في عالمنا العربي – أن تخرج من دورانها داخل حلقة الانهيارات المتتالية في تاريخها، والتي لاتختلف، إلا بالمدة الزمنية الفاصلة بين انهيار وآخر.

في علاقة الدولة بالمجال العام لمجتمعها، تكمن معادلة قوة الدولة، ومدى قدرتها على الاستمرار والتطور، وبتغييب هذه المعادلة، يُصبح الانهيار نتيجة حتمية لا فكاك منها.