الدكتور سعد رستم.. ترجمات المترجم قطعةٌ من عقله وروحه

2020.02.20 | 18:43 دمشق

87110682_2504803676402910_2447188905456304128_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان الشاب الحلبي سعد رستم طالب طبٍّ بشري في السنة الرابعة بجامعة حلب سنة 1979 عندما غادرها مضطراً لسبب سياسي إلى فرنسا، ومنها غادر إلى إيران، وتحوّل عن دراسة الطب إلى دراسة العلوم الإسلامية، فالتحق بالحوزات العلمية، ودرس فيها من سنة 1981 حتى 1985، ثم انتقل إلى باكستان، ودرس في جامعاتها الحكومية من سنة 1985 حتى 1992، وحصل على ماجستير في التفسير والحديث، وماجستير فلسفة في الدراسات الإسلامية وطرق البحث، ثم عاد إلى سوريا ليتنقّل بينها وبين دول الخليج مدرّساً للشريعة واللغة الفارسية في مدارسها وجامعاتها.

لم تكن تنقلاته مجرد تنقلات جغرافية، بل كانت انعكاساً لأطواره الفكرية والروحية. سيطر عليه حلم الدولة الإسلامية القائمة للتوّ على مفهوم مدهش جديد هو ولاية الفقيه، فانتقل من فرنسا إلى إيران، ثم مرَّ بمرحلة تدبّر ومساءلة ومراجعة ومحاكمة وانهيار حلم، فانتقل من إيران إلى باكستان، وفي باكستان خرج من الإسلام المذهبي المتعصب إلى إسلام قرآني ‏ذي نزعة إنسانية ‏تؤمن بوحدة المسلمين، ووجوب التحاور والتعاون مع سائر الأديان، وتؤمن بوجوب رسم حد فاصل بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية، وتوّج ذلك بحصوله على الدكتوراة في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي ببيروت عام 2010، عن أطروحته: (موقف الإسلام من العنف في العمل السياسي. التأصيل الشرعي والتحليل التاريخي والاجتماعي). التي تمحورت حول إثبات أصالة السلم واللاعنف في تعاليم الإسلام واقتصار الجهاد القتالي في الإسلام على الدفاع، وإثبات عدم مشروعية ما سُمِّي بجهاد الطلب أو الفتح، وعدم مشروعية حد الردَّة، وإثبات حرمة العنف والاغتيالات والقتال بحجة نشر الإسلام، أو بهدف تغيير الواقع السياسي الفاسد والمستبد الجائر، وأن السعي إلى تغيير الواقع الفاسد أو الظالم لا يكون إلا بالوسائل السلمية.

ترجمان الإصلاح الشيعي:

في جميع هذه التنقلات التي أشرنا إليها رافقه أملٌ في إزالة الاحتقان والتوتر بين العالمين السني والشيعي، ورغبةٌ في تقريب معرفتهما ببعضهما بعضاً، ومن أجل ذلك ترجم أعمال أهم العلماء الإصلاحيين الإيرانيين الذين شكّلوا تياراً أُطلق عليه اسم (تيار التجديد الديني)، و(التيار المطالب بإعادة النظر في عقائد الشيعة)، وقدّم مادةً معرفية تخدم العرب سنةً وشيعة على حدٍّ سواء. فترجم للسيد مصطفى الحسيني الطباطبائي كتاب (نقد كتب الحديث الإمامية)، وكتاب (حل الاختلاف بين الشيعة والسنَّة في مسألة الإمامة)، وكتاب (المذاهب الإسلامية طريق إلى الوحدة)، وكتاب (الإسلام وقضية العنف: من الخوارج إلى داعش)، وترجم لآية الله السيد أبي الفضل البرقعي كتاب (الخرافات الوافرة في زيارات القبور)، وكتاب (عرض أخبار الأصول على القرآن والعقول)، وهو دراسة نقدية شاملة لأحاديث أصول الكافي في مجلدين، وكتاب (دراسة علمية لأحاديث المهدي)، وكتاب (تعارض مفاتيح الجنان مع القرآن)، وكتاب مفاتيح الجنان من أهم كتب الدعاء والأعمال لدى الشيعة، وترجم لآية الله محمد حسن شريعت سنكلجي كتاب (توحيد العبادة) وكتاب (مفتاح فهم القرآن)، وترجم للأستاذ الشيخ عبد الوهاب فريد تنكابني تلميذ سنكلجي كتاب (الإسلام والرجعة)، وترجم لعلي أكبر حكمي زاده كتاب (أسرار ألف عام)، وهو الكتاب الشهير الذي ردّ عليه الإمام الخميني رداً متشنّجاً في كتابه (كشف الأسرار)، وترجم لحجت الله نيكوئي كتاب (نظرية الإمامة في ميزان النقد)، وترجم للأستاذ حيدر علي قلمداران القمي كتاب (طريق النجاة من شر الغلاة)، وكتاب (بحث عميق في مسألة الخمس في الكتاب والسنة وفتاوى علماء الشيعة)، وكتاب (طريق الاتحاد أو دراسة وتمحيص روايات النص على الإمامة)، وكتاب (بحث حول الزكاة أهم المسائل الواجبة بعد الصلاة في الإسلام)، وترجم لآية الله الشيخ نعمت الله صالحي نجف آبادي كتاب (الشهيد الخالد الحسين بن علي)، وهو أول كتاب في تاريخ التشيع يتناول نهضة الإمام الحسين بشكل عقلاني، وترجم للدكتور الشيخ محسن كديوار كتاب (القراءة المنسية. إعادة قراءة نظرية: الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار، وأربع مقالات أخرى).

هذه الكتب تبيّن لنا مدى خطأ من يتصور أن الفكر الشيعي نسيج واحد، وفكر ثابت وجامد، ونحن مدينون للدكتور سعد في معرفة التراث الإصلاحي الفارسي

وهذه الكتب تبيّن لنا مدى خطأ من يتصور أن الفكر الشيعي نسيج واحد، وفكر ثابت وجامد، ونحن مدينون للدكتور سعد في معرفة التراث الإصلاحي الفارسي في العالم الشيعي المعاصر، فهو صاحب الجهد الأكبر، والإنتاج الأغزر في ترجمة هذا التراث من الفارسية إلى العربية، ومن خلال هذه الترجمات استطعنا أن نطلع على هموم المصلح الشيعي ومسائله وقضاياه، وآفاق تفكيره ورؤاه، وبدونها كانت ستظل معرفتنا ناقصة، وكان سيغيب عنّا تراث كامل من العمل والاشتغال الحديثي والفقهي والكلامي في إطار الإصلاح المرقوم باللغة الفارسية، ولكن ما نلاحظه على اختيارات المترجم ههنا أنه اقتصر على انتقاء كتب الإصلاحيين الشيعة، وأحجم عن كتب التيار الذي يمكننا أن نطلق عليه لقب (التنويريين الشيعة)، وهم الذين قاموا بنقد الفكر الديني السائد بالاعتماد على العلوم الإنسانية المعاصرة وعلى رأسها الهرمونيطيقا، وبالاستهداء بمقولات الحداثة ومنجزاتها، ككتب عبد الكريم شروس ومحمد مجتهد شبستري ومصطفى ملكيان، ولا عجب من هذا الإحجام فكثير من الإصلاحيين هم على خلاف مع التنويريين، وسوف نتناول هذين العالمين، عالم الإصلاحيين وعالم التنويريين في مقال مستقل قادم بإذن الله.

ومع الأسف فإنّ هذه الكتب التي ترجمها الدكتور سعد لم تُشتهر إلا في الأوساط السلفية التي فرحتْ بها وتناولتها على غير وجهها بوصفها دفاعاً عن التسنّن، ومهاجمةً للتشيع من داخل البيت الشيعي، وواقع الحال أن أولئك المصلحين لم يكن هدفهم نصرة مذهب على مذهب بل كان همهم تخليص المذهب الشيعي من أوضاره التي تشظّيه، وتحريره من شرانق الغلو والجهل والتعصب التي تخنقه وتكتم أنفاسه، وبعضهم (كالبرقعي و مصطفى الطباطبائي و قلمداران) خرجوا من المذهبية كليّةً إلى فضاء إسلام لا مذهبي رحب يجعل القرآن مرجعه الأساس وميزانه في الأخذ بالموروث الحديثي والفقهي و ردّ ما تناقض معه لدى جميع المذاهب السنية والشيعية على حد سواء.

الترجمة في سبيل فهم سائر الأديان والتحاور معها:

اختار الدكتور سعد أن يترجم عملين أساسيين لمفكر ديني أمريكي فائق الأهمية لم يكن معروفاً، رغم شهرته، في الأوساط العربية وهو هوستن سميث (1919 ــ 2016).

أما الكتاب الأول فـهو (أديان العالم)، وبإمكاننا أن نشبّه سميث في هذا الكتاب بـوول ديورانت في كتابه (قصة الفلسفة)، فكما أنّ هذا الكتاب كان من أهم الكتب التي عرضت الفلسفة عرضاً محقَّقاً موفَّقاً شيقاً، وكان من أكثر الكتب مبيعاً وشهرة في العالم، فإنّ كتاب سميث (أديان العالم) كان كذلك. وقد استند المؤلف إلى عمق التجربة الدينية والفكرية التي خاض غمارها في حياته، فهو من دون أن يتخلى عن مسيحيته مارس ممارسةً ملتزمة الفيدنتا عشر سنوات من حياته، ثم الزن، عشر سنوات ثانية، ثم الإسلام والتصوف وفق طريقة الفيلسوف الفرنسي المسلم رينيه غينون ومدرسته التقليدية عشر سنوات ثالثة، وكتب عن هذه الأديان بالإضافة إلى الأديان الأخرى كتابة العارف بها، المعايش لها، الذي ينهل من مصادرها الأصلية ومن علمائها الثقات بتدقيق وتحقيق.

لم يقتصر الكتاب، في معالجة كل دين، على مجرد العرض الأكاديمي لأهم تعاليمه وكتبه وفرقه وأماكن انتشاره ونحو ذلك من معلومات وأرقام، بل دخل بالقارئ إلى لبّه وجوهره، وفنّد أحياناً بعض الشبهات وسوء الفهم لبعض مبادئه، وقد فعل ذلك كأنه من أخلص أتباع كل دين من الأديان العالمية اليوم.

لم يقتصر الكتاب، في معالجة كل دين، على مجرد العرض الأكاديمي لأهم تعاليمه وكتبه وفرقه وأماكن انتشاره ونحو ذلك من معلومات وأرقام، بل دخل بالقارئ إلى لبّه وجوهره

أما الكتاب الثاني فهو (لماذا الدين ضرورة حتمية؟ مصير الروح الإنسانية في عصر الإلحاد)، وهو كتاب مخصص للحديث عن أهمية البعد الديني في الحياة الإنسانية، سواء على صعيد الأفراد أو المجتمعات أو الحضارات، وكأني بالمترجم اختار هذا الكتاب ليضرب أنموذجاً راقياً للمحاجّة الدينية مع اللادينيين، إن على مستوى غزارة المعلومة العلمية والفلسفية، أو على حسن توظيفها وألمعية استثمارها، أو على مستوى رقي الإيراد وتطامن الإصدار في المناقشات والجدالات، وربما كنّا نحن أيضاً بحاجة إلى هذه الحالة المتطامنة الهادئة في المحاورة والمناظرة وحتى في النِّزال.

يعيش الدكتور سعد رستم اليوم في تركيا هرباً من جحيم النظام السوري، ويعمل مع منظمة سويسرية إنسانية تروم نشر القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وما زالت مسيرته العلمية مستمرة، وقائمة كتبه التي تضم قرابة الأربعين عنواناً ما بين تأليف وترجمة في ازدياد.