الخطاب السياسي العراقي

2022.12.26 | 05:54 دمشق

الخطاب السياسي العراقي
+A
حجم الخط
-A

"العقل العربي عقلان: عقل بياني عنايته الأساسية باللغة وما يصدر عنها من علوم كالنحو والبلاغة والفقه، وعقل عرفاني يهتم بالخرافات والأساطير والغيبيات". محمد عابد الجابري.

يبدو العراق اليوم تكثيفا لكل التغيرات التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط في العقود الأخيرة على المستويات كلها. فعلى الرغم من كل التحولات التي شهدتها دول المنطقة في العقود السابقة، وعلى الرغم من التبدلات والتغيرات السياسية التي انعكست على العقل السياسي ولغة الخطاب، فإن الأنظمة العربية على اختلاف توجهاتها، وعلى اختلاف درجات التغير في سياساتها، ما زالت تحافظ على حد أدنى من التواصل اللغوي مع سياساتها السابقة، وذلك عبر الاستمرار باستعمال التعبيرات والمصطلحات اللغوية ذاتها، ولم تجر قطيعة كلية مع تلك البلاغة، مع أن المصطلحات فقدت معناها أو دلالتها المعهودة. والنظام السوري مثال صارخ على هذا، فقد وصل به الانكشاف الإيديولوجي إلى حد الاستعانة بالميليشيات الطائفية والاحتلال الأجنبي، ولكنه ما زال يستقي من خطاب قومي كفر به على الصعيد العملي منذ عام 2011م.

تركت الهويات الحديثة المشترك الديني جانبا، ولهذا كان معيار اللغة حاسما في تشكيل الدول القومية المعاصرة. يعتمد النظام القومي بطبيعته على اللغة بوصفها المحدد الأول في تعيين الأنا في مواجهة الآخر، وبوصفها العنصر الأهم في تشكيل الهوية الوطنية. ولهذا فإن العناية باللغة في الأنظمة القومية تبدو عناية مرضية في كثير من الأحيان، لا من ناحية الاهتمام بتدريسها وتعليمها بل من زاوية حضورها في المجال العام، فكيف إذا كان النظام القومي عربيا، لغته العربية كانت محل اعتزاز قبل ظهور القوميات على مسرح التاريخ الحديث؟

يتضح هذا من خلال ملاحظة سلوك صدام حسين نفسه، فلم يكن الرجل يتصرف كرئيس دولة، فلغته ومنظومته القيمية هي صورة طبق الأصل عن قيم أي شيخ عشيرة

العراق حالة مثالية حتى من ناحية استعمال اللغة في الخطاب السياسي وتأثيراتها في تكوين الوعي السياسي والتوجهات أو الخيارات السياسية، فالمتابع لتحولات الخطاب السياسي العراقي عبر العقود الماضية سيلاحظ أن النظام السياسي السابق استمد لغته الاستعلائية من تراث يقوم على الفخر. ولما كان الفخر موضوعا قبليا فقد تسربت قيم القبيلة وعالمها ومنظومتها الأخلاقية إلى قلب الخطاب السياسي العراقي، فصارت الدولة قبيلة كبيرة، وأصبح رئيسها شيخ قبيلة. ويتضح هذا من خلال ملاحظة سلوك صدام حسين نفسه، فلم يكن الرجل يتصرف كرئيس دولة، فلغته ومنظومته القيمية هي صورة طبق الأصل عن قيم أي شيخ عشيرة عراقي.

هذه اللغة المشبعة بالفخر -اللغة العنترية إن جاز التعبير- هيمنت على الخطاب السياسي وسببت له مجموعة من المشكلات، أولها أنها منعته من التعامل بواقعية مع الأحداث السياسية، أي من خلال المبدأ الميكافيللي القائم على الربح والخسارة ، فقد أقام الفخر اللغوي حاجزا بين العقل السياسي وبين المعطيات أو الواقع، ولم يعد قادرا على التعامل معها، لأنها تتعارض مع رؤيته البلاغية للعالم، والمشكلة الثانية أن هذه اللغة قادت إلى تضخم الذات، وليس المقصود هنا الذات الفردية بل الذات الجمعية ممثلة بالدولة ورؤيتها لدورها السياسي، هكذا أصبح العراق "حامي البوابة الشرقية للأمة العربية"، و"وطنا مد على الأفق جناحا" كما يقول النشيد الوطني في عهد النظام السابق. باختصار، اتبع النظام خطابا عنتريا يعلي من قيم العروبة والقومية العربية، مستفيدا في ذلك من إرث بلاغي يظهر الذات العراقية أقوى منها على أرض الواقع.

تضخم الذات نتجت عنه خسارات كبرى ومغامرات غير محسوبة النتائج، كالحرب العراقية الإيرانية وغزو الكويت، وكان انتفاخ الذات وعدم إدراك حجمها ووزنها الفعلي في مسرح السياسة الإقليمي والدولي سببا مباشرا وراء سقوط النظام السابق، حين وقف الخطاب السياسي الذي يتبناه عائقا أمام قدرته على رؤية مسار الأحداث وقراءة التحولات الدولية.

هكذا كان تأثير "الثقافي" و"الفكري" حاسما في تشكيل الخطاب السياسي، وفي تسرب عوالم سابقة وقيم قبلية ورؤى لا تنتمي إلى العالم المعاصر إلى ذلك العقل السياسي والتحكم بتوجهاته وخياراته. لهذا ليس من المستغرب سماع عبارة مثل: "تأدب، فأنت في حضرة العراق" بكل ألقها البلاغي، فالعراق هنا ليس العراق المنكوب بالحروب والخسارات، ولكنه تاريخ عريق، ولغة منمقة تعبر عن هذا العمق التاريخي، حتى لو كان حاضره بائسا.

إسهام التاريخ في تشكيل العقل السياسي، ومن ثم الخيارات السياسية ولغة الخطاب، لم يقتصر على النظام السابق الذي كان الإطناب والمحسنات البلاغية وفائض الدلالة سمات مميزة في كلام مسؤوليه وفي وسائل الإعلام لديه، فالنظام الحالي الذي جاء بعد عام 2003م، عاد إلى التاريخ من زاوية مغايرة للزاوية السابقة التي كان ينظر من خلالها نظام البعث، فقد اختفت لغة العنتريات والبيان والرصانة اللغوية، وحلت بدلا منها لغة الغيبيات والأساطير التي احتلت مكانة الصدارة في المشهد العراقي بكامله. فما حدث هو نهاية نخبة سياسية تشكل علوم اللغة العربية والتاريخ الرسمي مخزونها المعرفي الذي تنهل منه، نخبة كان عقلها السياسي والفكري عقلا بيانيا في رؤيته للعالم، في مقابل هذه النخبة السابقة صعدت نخبة سياسية جديدة تعيش وتتغذى على معين ديني يعتاش على الهامش التاريخي وصراعاته المخفقة أمام السلطات الحاكمة عبر التاريخ العربي الإسلامي، ولهذا جاء خطابها مشحونا بمفردات واصطلاحات وشخصيات لا تحظى بأي حيز في الذاكرة الجمعية سواء في ذلك الذاكرة السياسية أم الفكرية، بل إن الشخصيات التي تشكل رموزا لدى النخبة الصاعدة تقع ضمن إطار الهامش الذي يجوز إهماله من دون أن يؤدي ذلك الإهمال إلى أي خلل في رسم صورة ما للتاريخ داخل إطار العقل الرسمي المهمين، أعني هنا العقل البياني.

اقترح الجابري طريقا آخر للخلاص من الصراع الذي وسم العقل العربي بين مرجعية بيانية عربية، وأخرى عرفانية قادمة من الحضارات الشرقية

قد يأتي من يجادل بأن لغة التخوين والعمالة التي تطفو على الخطاب السياسي العراقي هي السمة المميزة للخطاب السياسي العراقي، ولكن هذا غير دقيق، فالتخوين والاتهام بالعمالة والتبعية للخارج والانخراط في مشاريع القوى الإقليمية والدولية هي تهم لا يخلو منها أي بلد منقسم سياسيا، ولكن الانقسام في الحالة العراقية يتخذ صيغا فكرية لا مجال للقاء بينها، فالملاحظ وجود طرفين متنازعين ينتميان إلى حقلين فكريين مختلفين يستمدان منهما مفاهيم وقيما تكاد تكون مناقضة كليا لمفاهيم الطرف الآخر ، وهذا يحكم على أي حلول وسطى بالإخفاق قبل أن تبدأ، نظرا لاحتكام كل طرف إلى قواعد وحجج مغايرة كليا لحجج الطرف الآخر ومنطقه.

اقترح الجابري طريقا آخر للخلاص من الصراع الذي وسم العقل العربي بين مرجعية بيانية عربية، وأخرى عرفانية قادمة من الحضارات الشرقية، هو طريق البرهان اليوناني الذي لم يتمكن من التجذر داخل الثقافة العربية.

مشكلة العقل السياسي، والخطاب السياسي العراقي، اليوم، أنه يكرر الخطأ نفسه الذي كررته ثقافتنا، لأنه يعيد اجترار عوالم الماضي البيانية والعرفانية، في حين أن خروجه من هذا المأزق يكمن في تبني الخيار الديمقراطي الغربي، أو باصطلاح الجابري: البرهان المعاصر.