"الحرب الشفافة" والمصادر المفتوحة من سوريا إلى أوكرانيا

2022.03.12 | 05:15 دمشق

2022-03-11_23.41.45.jpg
+A
حجم الخط
-A

أضاف الإعلام الغربي إلى حرب أوكرانيا صفة "الشفافية"، ونقل وهو تغمره الدهشة تحركات الجيش الروسي التي ترصدها صور الأقمار الصناعية، وكاميرات هواتف المواطنين الأوكرانيين، حتى بدأ بوصفها أيضا بأنها أكثر الحروب توثيقا عبر التاريخ وهو وصف أطلقوه على الثورة السورية من قبل.

تأتي الدهشة مما قدمته استخبارات المصادر المفتوحةOSINT  التي اعتمد عليها بشكل كبير في الحشد الإعلامي الغربي ضد روسيا، حتى بتنا نرى أرتال الجيش الروسي كما لو كنا في غرفة عمليات عسكرية.

تقول مجلة إيكونوميست إن "حقبة جديدة من الحرب الشفافة تلوح في الأفق"، وتقصد بذلك أن تحركات الجيوش وانتهاكاتها باتت مرصودة بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، وأن الفضل في ذلك يعود للمصادر المفتوحة. وهذه الأخيرة لم تظهر فجأة في أوكرانيا، بل بدأ العمل بها كمصدر صحفي مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وعُززت أدواتها في سوريا.

"المعلومات المتاحة للجمهور هي أكبر وسيلة للتجسس يمكن أن تستخدمها سواء كنت مديرا تنفيذيا أو قائدا عسكريا. إذا لم يكن لديك منفذ إلى وسائل الإعلام الاجتماعية... فستفشل". هذا ما قاله عام 2012 مايكل فلين المدير السابق لوكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية (DIA).

فلين قال أيضاً إنه قبل ​​ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كانت 90 في المئة من المعلومات الاستخبارية المفيدة تأتي من مصادر سرية. الآن يحدث العكس تماماً، 90 في المئة من المعلومات الاستخبارية المفيدة تأتي من مصادر مفتوحة يمكن لأي شخص في أي مكان أن يستفيد منها.

مخابرات المصادر المفتوحة (OSINT) التي تفطّن لها فلين، ظهرت أول مرة في ثلاثينيات القرن الماضي، حين تم فصلها عن حرفة التجسس التقليدية خلال الحرب العالمية الثانية. وكان المحللون المتعاونون مع وكالة الاستخبارات الأميركية يعرفون عدد الإصابات في صفوف جيش هتلر من قسم النعوات في الصحف الألمانية المتوافرة في سويسرا المحايدة. مع نهاية الحرب كان المحللون يصنفون نحو 45000 صفحة من الدوريات الألمانية كل أسبوع.

أبعد أوباما فلين عن رئاسة الاستخبارات العسكرية في 2014، فالنظرة الثورية التي تمتع بها وحاول تطبيقها انقلبت ضده. تحويل عمل الاستخبارات ليعتمد بشكل أكبر على المصادر المفتوحة مثّل تحديا كبيرا لعقلية الجواسيس الأميركيين التقليدين. لكن تفكير فلين ساهم لاحقا في تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة وعينه مستشاره للأمن القومي. ومعظمنا يتذكر كيف استغلت حملة ترامب الأولى ثغرات فيس بوك للفوز بالانتخابات الرئاسية 2017 بما بات يعرف بفضيحة كامبريدج أناليتيكا.

استخدام المصادر المفتوحة في الصحافة بدأ في الظهور على شكل تجارب صغيرة قادها هواة، وقدمت سبقاً في الحصول على المعلومة، تجاوز مخابرات الدول.

البداية من سوريا

الاستخدام الأوضح لمصادر البيانات المفتوحة في صحافة الحروب ظهر مع نشر روسيا قواتها وطائراتها في سوريا لدعم بشار الأسد، وتم توثيق الفترة التمهيدية لتدخلها قبل أشهر من الإعلان الروسي الرسمي، وكان ذلك دليلا مبكرا على قوة استخبارات المصادر المفتوحة.

في 22 من آب 2015، نشرت مدونة تركية صورا لسفينة شحن روسية كانت قد عبرت مضيق البوسفور قبل يومين. وكانت على سطحها، المغطى بالأقمشة، حاملات جند مدرعة من طراز BTR الروسية. وبعد يوم واحد، ظهر شريط فيديو تضمن لقطات للمدرعة الروسية BTR-82 في سوريا.

مع استمرار التعزيز العسكري الروسي، ملأت الإنترنت أدلة المصادر المفتوحة التي تشير إلى تورط روسيا المباشر في سوريا. في أواخر آب وأوائل أيلول، نشر عنصر من القوات الروسية صورا شخصية على مواقع وسائل التواصل الاجتماعية، وقال إنهم متوجهون إلى القاعدة العسكرية الروسية البحرية في طرطوس. في الثاني من أيلول (سبتمبر)، نُشرت على تويتر صور الطائرات الروسية في سماء سوريا. خلال النصف الأول من شهر أيلول، بدأ الهواة تتبع رحلات الشحن الروسية إلى سوريا. وقالت موسكو إن الطائرات كانت تنقل مساعدات إنسانية، ولكن تم التقاطها في قاعدة عسكرية روسية محملة بمروحيات هجومية.

حالة ثانية تشبه التدخل الروسي في سوريا، استخدمت فيها استخبارات المصادر المفتوحة بشكل كبير.

خلال التدخل الروسي في أوكرانيا عام 2014، تم إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية MH 17 في شرق أوكرانيا، كانت المادة المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل قائد انفصالي واحدة من أفضل المؤشرات المبكرة بأن القوات الروسية العاملة هناك كانت متورطة. بعدها بأيام تم نشر مزيد من الصور، والفيديوهات، والتغريدات التي توثق وجود نظام صاروخي روسي من طراز بوك، الذي قال المحققون إنه تم استخدامه في تدمير الطائرة.

بدأ مجتمع الاستخبارات الأميركي بالتحرك متأخرا لتحسين دمج استخبارات المصادر المفتوحة في عمله. وذكر مدير سي آي إي السابق (2013 -2017) جون برينان إن تحسين قدرة وكالته على حصد الأفكار من هذه المصادر يعد جانبا محوريا في محاولته لإصلاح المنظمة.
علق برينان الأمر بالقول "في كل مكان نذهب إليه وكل ما نقوم به نترك بعض الغبار الرقمي ومن الصعب أن تعمل بالسر عندما تترك هذا الغبار خلفك (...) بعض الأشياء تنشر الآن على وسائل التواصل الاجتماعي عن خصومنا وهم لا يدرون".

لم يقتصر استخدام الاستخبارات المصادر المفتوحة على الاستخدام العسكري والصحفي. تقول دراسة إنه في عام 2015 اعتمد نحو 80٪ من سلطات تطبيق القانون في الولايات المتحدة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي كأدوات لجمع المعلومات الاستخبارية.

شركات المخابرات التجارية بدأت اكتشاف الخزانات الممتلئة للبيانات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحويلها إلى معلومات استخبارية تقدمها لعملائها. كما باشرت منظمات المجتمع المدني في تبني تحقيقات مبنية على المصادر مفتوحة وفي مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدمت لتتبع انتشار الأسلحة النووية والكيميائية، ورصد الصراعات، فضلاً عن  الإعلام والصحافة الاستقصائية.

وزاد من جدوى استخبارات المصادر المفتوحة، النمو الهائل في صناعة السواتل (أقمار صناعية) التجارية، التي تلقت في عام 2013 إيرادات بلغت 195 مليار دولار. تقدم شركات مثل DigitalGlobe وAirbus، أكبر شركتين في الميدان، لعملائها صورا ليست بعيدة عن قدرات الحكومة الأميركية، وشاهدنا نموذجا عنها خلال الغزو الروسي لأوكرانيا.

مؤشرات المصادر المفتوحة (OSI) 

أحدثت وكالة المخابرات الأميركية في العام 2015 مكتب الابتكار الرقمي لدمج المصادر المفتوحة في عملها، وأصبح أول مكتب جديد في المنظمة منذ العام 1968، وتم اعتباره أكبر تغيير في تاريخ التجسس الأميركي.

تولى المكتب نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية أندرو هالمان الذي اختاره مدير (CIA) السابق جون برينان رائد التغيير في منظمة التجسس الأميركية، وأوكلت إليه مهام عديدة؛ أهمها تحويل كميات هائلة من البيانات التي تجمعها الوكالة إلى رؤية مفيدة للمحللين، أي تحويل الثرثرة والغبار الرقمي اليومي في المصادر المفتوحة إلى رؤية مستقبلية.

قال هالمان: "لدينا القدرة على وضع رؤى تعطي المحللين قدرة حقيقية على التنبؤ" وأشار إلى أن التنبؤات التي تنتج عن فهم جيد للاحتمالات، تختلف اختلافا جوهريا عن التوقعات.

يضيف العسكري الأميركي "وسائل التواصل الاجتماعي تقدم ليس فقط معلومات استخبارية لعمليات محددة كاستهداف داعش في سوريا، ولكن معلومة عن درجة حرارة كامل السكان (الرأي العام). إنها تحليل للمشاعر على نطاق واسع جداً".

قصد هالمان في حديثه "مؤشرات المصادر المفتوحة" التي تقول إن العديد من الأحداث الاجتماعية المهمة تسبقها تغيرات على مستوى السكان في الاتصالات والاستهلاك والحركة، وبعض هذه التغييرات يمكن ملاحظتها بشكل غير مباشر من بيانات المصادر المفتوحة، مثل بحث الويب، المدونات والأسواق المالية وكاميرات المرور وتعديلات Wikipedia، ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث تعد مصادر البيانات المذكورة عاملا مهما في التنبؤ بالأزمات السياسية والأزمات الإنسانية وأعمال الشغب والهجرة الجماعية وتفشي الأمراض والأزمات الاقتصادية.

سبق (CIA) في ذلك مكتب مدير المخابرات الوطنية الأميركية (Director of National Intelligence) حيث تولى نشاط مشاريع أبحاث المخابرات المتقدمة (IARPA) التابع له عام 2011 تطوير آليات لـ لمؤشرات المصادر المفتوحة سماها مشروع (EMBERS).

بدأ المشروع  في أبريل 2012 بفحص مسارات البيانات المفتوحة المصدر في أميركا اللاتينية وتبين أن متوسط ​​80 إلى 90 في المئة من التوقعات التي يصدرها EMBERS كانت دقيقة، وأنها تصل إلى متوسط ​​سبعة أيام قبل الحدث المتوقع: لقد تنبأ بدقة بإقالة رئيس باراجواي في عام 2012، واحتجاجات كأس العالم في البرازيل عام 2013، واحتجاجات الطلاب في فنزويلا العام 2014. يراقب البرنامج الآن 20 دولة في أميركا اللاتينية، وانتقل إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأطلق في صيف 2018 منحة Mercury Challenge التي تسعى إلى إيجاد حلول وأساليب مبتكرة لإنتاج آلية للتنبؤات في ثمانية بلدان عربية، وتشمل الأحداث والنشاطات العسكرية في سوريا والعراق ومصر ولبنان والسعودية، والأردن وقطر والبحرين. بالإضافة لمرض معد في السعودية؛ وإحصاء يومي أو أسبوعي أو شهري للأحداث والاضطرابات المدنية غير العنيفة في الأردن ومصر.

أضافت فعلا المصادر المفتوحة إلى الحروب الحالية صفة الشفافية وباتت انتهاكاتها تسجل بأكثر من زاوية، لكن المجرم يطمس معالم جريمته عندما يخاف العقاب، فما نفع الشفافية إذا كانت لا تتبعها محاسبة، فقد تتحول الشفافية إلى أحد أدواته في إرهاب الضحايا والمتضامنين معهم.

كلمات مفتاحية