الحجاب وصورة الآخر.. البعد الاجتماعي لحدث فردي

2021.04.30 | 06:36 دمشق

168281691_547396759994637_6881664493118007629_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

ثبات صورة فرد ما في أذهاننا، كما ثبات الصور الذهنية وثبات المفاهيم وأشكال السلوك المعتادة. قد يودي بنا إلى ظلم هذا الفرد، وإصدار حكم سلبي تجاهه، لو أجرى تغييرا في شكله أو سلوكه أو أفكاره التي عرفناه بها.
وثبات الصور الذهنية التي نكوّنها عن أفراد أو مجتمعات يحوّلها بفعل الزمن، كما بفعل الثبات وقلة الاهتمام والمتابعة إلى صورة نمطية راسخة وأبدية، لا ينفع معها أي تحول أو تغيير يقوم به الفرد أو المجتمع للتخلص من الصورة النمطية التي تكونت عند الآخرين عنه.
وثبات الصورة الذهنية كما ثبات الصورة النمطية أمر يتوافق مع تحبيذ الذهن البشري عموما لآلية الاستقرار والاعتياد والتكرار . فالدماغ صمّم وفقا لميكانزم توفير الطاقة التي يمكن أن تُصرف (يصرف الدماغ ربع الطاقة التي يحتاج إليها الجسم) فيميل إلى الاقتصاد في طرح الأسئلة التي تثير تفكيرا عميقا واسعا أو عميقا أو طويلا.. لأن هناك أسئلة سيطرحها اللإنسان ويحتاج لأجوبة عليها ربما أجوبة متعددة ينتج عنها أسئلة جديدة، وهذه كلها تحتاج إلى مزيد من الطاقة، التي تذهب بشكل أساسي لإدارة النظام الحيوي للجسم.

والخلل في توزيع الطاقة قد يؤدي إلى خلل في عمل النظام الحيوي وربما تعطيل أو تعثر عمل بعض الأعضاء مثل القلب الأمعاء ...إلخ لهذا يميل معظم البشر إلى التهوين والتسطيح واللامبالاة وليس للاهتمام وللتهويل.
فكل نشاط إضافي للدماغ هو نشاط غير محبّذ لدى العقل الباطن، ولأجل ذلك نشعر بالقلق أو التوتر أو الاستثارة العاطفية أو الانفعال عند كل حدث جديد غير نمطي، حتى لو كان من قبيل تغيير تسريحة شعر أو حلاقة لحية أو إطالتها أو ارتداء غطاء شعر أو التخلي عنه، مثلما نفعل عندما نسمع بجريمة قتل أو حادث اصطدام أو اختراع جديد.
والاستثارة الوجدانية أو ردة الفعل ستكون غالبا متوافقة مع حجم الفعل-الحدث. لكن الفعل أو السلوك أو الحدث إذا ما طرح في التداول العام كـ "سابقة"، فسرعان ما يتحول إلى قضية رأي عام رغم أنه قد يكون مكررا وحدث مرارا في الماضي.
هناك صور نمطية تتكون بحسب عادات المجتمع وأنماطه السلوكية وتفضيلاته الثقافية. من ذلك على سبيل المثال في المجتمع العربي
صورة نمطية: المرأة محجبة، الأنوثة ليونة وضعف، الرجولة قوة وشهامة، الرجل بلحية.
سلوك نمطي أو راسخ: مساعدة كبار السن. الدفاع عن النساء. طاعة الوالدين.
ماعرضناه سابقا ليس سوى مقدمة لتناول واقعتين تناولهما السوريون عبر وسائط التواصل الاجتماعي باهتمام بالغ:
امرأة محجبة طوال عمرها تظهر لنا فجأة دون حجاب!! هذا خرق لصورة نمطية اجتماعية ألا وهي "المرأة المسلمة محجبة"، وخرق لصورة هذه المرأة "س" بعينها.
من جهة مقابلة، امرأة مسلمة مثقفة لم ترتدِ الحجاب أبدا، تظهر لنا فجأة وهي ترتدي الحجاب!
هذا الفعل الثاني لا يعد خرقا للصورة النمطية إياها، لأن الصورة النمطية الاجتماعية هي أن المرأة المسلمة محجبة. لكنه خرق لصورة هذه المرأة بعينها كامرأة مثقفة غير محجبة أصلا أو امرأة متحررة، وهو خرق على مستوى الطبقة الاجتماعية النوعية التي تنتمي لها هذه المرأة، أي "طبقة المثقفين" التي يتعارف داخلها على أن المرأة المثقفة ليست محجبة وهي بدورها صورة نمطية عن المرأة داخل هذه الطبقة، مع وجود استثناءات قليلة ربما.
تحليل الحدثين والموقفين العامين:
بوضع الحدثين (خلع الحجاب، ارتداء الحجاب) بالتوازي في مقابل المجتمع الكبير والمجتمع الصغير أو الطبقة الاجتماعية النوعية (طبقة أو مجتمع المثقفين)؛ نرى أن قراءة كلا "المجتمعين" الكبير والصغير تختلفان وتتكاملان رغم أنهما تبدوان كما لو أن كلاً منهما تناقض الأخرى.
فما يراه المجتمع الكبير صحيحا وسليما يراه المجتمع الصغير خاطئا وسلبيا. والعكس بالعكس.
لكن لأول مرة في حدثين متعاكسين (ارتداء وترك الحجاب) مثل الذي قامت بهما مؤخرا سيدتان في سوريا، يجري تقدير عقلاني من كلا المجتمعين للحدث المعني به.

المجتمع الصغير أو طبقة المثقفين لم يكن موقفه واضحا ومعلنا من خلع السيدة "س" لحجابها، بل كان موقفا لا مباليا لأنه يعتبر عنده كتصرف أو كسلوك شخصي، بينما دان مثقفون عديدون بشدة ارتداء السيدة "م" للحجاب

فالمجتمع الكبير رغم أنه يقر الحجاب كنمط سلوكي لم يطلب من السيدة "م" أن ترتدي الحجاب بل إن نسوة محجبات طلبن منها خلعه خوفا من اتهامات المجتمع الصغير، وهذا المجتمع الكبير لن يرحب طبعا بخلع "س" لحجابها لكن الانتقادات لم تكن بمستوى وحجم ما عهدناه في حوادث سابقة.
ومن ناحيته فإن المجتمع الصغير أو طبقة المثقفين لم يكن موقفه واضحا ومعلنا من خلع السيدة "س" لحجابها، بل كان موقفا لا مباليا لأنه يعتبر عنده كتصرف أو كسلوك شخصي، بينما دان مثقفون عديدون بشدة ارتداء السيدة "م" للحجاب رغم إصدارها بيانا أوضحت فيه أنها إنما فعلت ذلك احتراما للسيدات الحاضرات المحجبات كلهن، ولم يجبرها أحد على ارتدائه، وهذا موقف جديد نسبيا وليس شائعا من مثقف أو مثقفة، يمكن اقتراحه للعبور إلى المجتمع الكبير، من باب التشابه الشكلي لإيصال رسالتين: الأولى هامة جدا وهي الاحترام والثانية قبول المجتمع كما هو في ظاهره وتجلياته الشكلية، وهما رسالتان ضروريتان لأي مثقف يريد العمل داخل المجتمع الكبير أو يريد إيصال رسائله الفكرية أو السياسية ... إلخ، إلى المجتمع الكبير بغاية التغيير أو إثارة الأسئلة داخل هذا المجتمع.
أقول إنه موقف جديد من السيدة "م"، لأن الموقف الراسخ الذي اعتدناه هو موقف النبذ والصدام بين المجتمعين الكبير والصغير ، ويتحمل المسؤولية عن هذا الموقف من يدعي أنه الأكثر معرفة والأكثر مسؤولية وصاحب الرسالة أو مدّعي ضرورة التغيير. فالمجتمع الكبير لا يتغير بنشر الكتب أو المقالات، بل بالذهاب إليه وفق ما يحبه المجتمع شكليا ووفق ما يرغب به المثقف خطابا هادئا ومضمونا عميقا، فمسألة التواصل الاجتماعي بين طبقتين لا تجري على نحو سليم إلا بالتفاهم والاحترام المتبادلين ومن ثم بالتداول السلمي للأفكار وطرح الأسئلة والإجابة عن الأسئلة المقابلة.

تغيير المجتمع يجري من داخله . وتغيير المجتمع من داخله بشكل عميق أو فعال ومُجدٍ يقتضي من المثقف تغيير شكل خطابه ونبرته دون التخلي عن مضمون الخطاب وجوهره

تغيير المجتمع يجري من داخله . وتغيير المجتمع من داخله بشكل عميق أو فعال ومُجدٍ يقتضي من المثقف تغيير شكل خطابه ونبرته دون التخلي عن مضمون الخطاب وجوهره، والأهم أن يشعر أفراد هذا المجتمع أن المثقف يحترم ويقبل وجودهم، وإلا كيف يمكن أن يتلقى أفراد المجتمع الكبير أفكار مثقف يُظهر لهم الاحتقار أو الامتعاض، أو يشعرون بأنه لا يتقبلهم ويعتبرهم متخلفين أو أقل منه مكانة؟!

 

الحدث الفردي كحدث شخصي:

في المجتمع الحديث المؤتمت لم تعد الرموز الاجتماعية تملك حريتها، ولم يعد بإمكان الرمز أن يكون هو الإنسان "ع" أو "و" الذي مثل بقية الناس مزيج من عواطف وتفضيلات وهواجس .. إلخ . بل أصبح الرمز الاجتماعي الفني السياسي ..إلخ عبارة عن إنسان آلي يديره مكتب ومدير أعمال وفقا لما يراه هذا المدير أفضل للرمز، من حيث الحفاظ على مكانته وشهرته وأمواله، ومن ناحية ثانية ربما يغفل عنها أغلب الرموز، أنهم مجرد أدوات وقطع صغيرة في فسيفساء كبيرة لجهاز الهندسة الاجتماعية الذي تديره حكومات وأجهزة وطنية أو أجهزة عابرة للحكومات والحدود والشعوب.
على خلاف ذلك في طبقة المثقفين السوريين وفيها رموز عدة من كتاب وصحفيين ورسّامين وممثلين ومطربين وحقوقيين وإغاثيين؛ قليلا ما وجدنا من يبرمج سلوكه وأقواله بحيث يحافظ على دوره كمثقف له دور في البناء الاجتماعي الذي لطالما تحدث عنه مفكرون عرب وغربيون تحت صيغ وتسميات وكيفيات مختلفة.
في العموم تميل الطبقة المثقفة السورية أو طبقة التغيير أو النخبة إلى أن تتصرف بشكل عشوائي صِدامي "لا جدوائي"، فتظهر أقرب ما تكون إلى طبقة من الأناركيين أو المغامرين بالكلمات والمواقف، أو مجموعات من الناقمين على المجتمع الكبير "المتخلف" "الرجعي" .
والحقيقة أن الفضيلة في هذه المسألة ليست بيعا للشخصية لمدير أعمال كما أنها ليست إطلاق عنان الأهواء وفوضى الكلمات والانتقاد، وإنما الفضيلة توازن وإدراك لدور الذات في المجتمع وفعل الأنا في الكل، لهذا إذا كان لا بد من وجود المثقف في مجتمع عاش حالة دمار ونكبة لا سابق لها في تاريخه، فإن المثقف -أياً كانت مهنته- هو الوحيد الذي يمكنه أن يأخذ دورا أساسيا وعميقا في إعادة بناء المجتمع فكريا وسياسيا وأخلاقيا.. ولأجل ذلك لا بد للمثقف أن يعي مكانته ومكانه فيتصرف بضمير شعبي وأن ويتحول إلى رمز إيجابي.

فلا يمكن لنخبة فوضوية أو مستثارة أو ضائعة أن تساعد في بناء مجتمع .