icon
التغطية الحية

الباحث "جرجس الزكيمي" يبحث في علاقة الملحمة (الأفراميّة) بالإلياذة

2021.08.15 | 17:09 دمشق

sra_almlahm-_tlfzywn_swrya.png
محمد علاء الدين عبد المولى
+A
حجم الخط
-A

عندما يتمّ الحديث عن "التّراث" تلجأ بعض التّيارات إلى خلط الأوراق والوقوع في رؤية تجتزئ هذا التراث وتعزلُه عن شرط استمراريَّته واتّصال مراحله. من هنا قام بعض المفكرين والمثقفين بفَتْحِ زاوية الرؤية إلى التراث لتشمل المراحل البعيدة، لكنها الفاعلة بعمقٍ وتأثيرٍ في صياغة ثقافة أمّة ما ورؤياها.

وهكذا يصبح طبيعياً أن نقرأ عن جماعاتٍ وشعوبٍ عربيّةٍ عاشت في البلاد العربيَّة وكانت تنتجُ فكراً وشعراً وفلسفةً، قبل أن يحلَّ الإسلام كدينٍ عالميٍّ في هذه البلدان العربيّة. وقد قام بعض الباحثين بتسليط الضّوء بين الحين والآخر على ثقافة هذه الجماعات وتبيان ما لديها من آداب وأساطير وتفكير. وعلى قلّة هذه المحاولات يبقى الأمر مهمَّاً وقابلاً للإثارة والمساءلة.

وفي سياق هذه المحاولات المرموقة يأتي كتاب الأديب السوري جرجس موسى الزّكيمي المسمّى بـ "صراع القيم في الملاحم الكبرى– الملحمتان الأفراميّة والإلياذة نموذجاً" وهو ينطلق من فهمٍ واسع لمفهوم التراث، ليعتبر ثقافة السّريان وأدبهم جزءاً لا ينفصل عن الكيان الشّامل لتراثنا بما فيه من تنوّع وتعدّد في التَّجارب والثَّقافات والتَّصورات.

والأديب الزّكيمي يختار دراسة ملحمة سريانيّةٍ للرّاهب أفرام وعرفت الملحمة باسمه (الأفرامية)، وذلك فيما يشبه المقارنة بينها وبين ملحمة (الإلياذة)، على الرّغم من أن الباحث يعلن أنّ ما يقدّمه لا يدخل في مناهج المقارنة. وربما أراد أن يقول إنه لم يخضع دراسته لمصطلحات الأدب المقارن كنوعٍ من الدراسات النقدية المعاصرة.

ليس غريباً أن نعثر على ملحمة شعريّة بلغة سريانيَّة فهذه اللّغة قادرة على استيعاب الفكر والمفهوم الفلسفيّ والمصطلح العلمي

ولكن مع ذلك سنجده يعرض للأساسيّات في كلتا الملحمتين، باحثاً عن المشترك بينهما. وهذا، طبعاً، شكلٌ من المقارنة.

وليس غريباً أن نعثر على ملحمة شعريّة بلغة سريانيَّة. فهذه اللّغة قادرة على استيعاب الفكر والمفهوم الفلسفيّ والمصطلح العلمي. وما أنتج في هذه اللغة كان منتشراً في أصقاع البلاد، وله فاعليّته وحضوره. هذا أمرٌ مؤكَّد ٌ وهو يشكّلُ إغناءً لمجمل تراث المنطقة في مراحله المتنوّعة.

ذلك أمر مؤكّد على الرغم من إسقاط هذه الثقافة وذلك الشعر من حسابات بعض المفكرين، وعدم إدراجه في سياق تاريخ البلاد وآدابها.

ماذا عن أفرام وملحمته؟ ولد أفرام السرياني في نصيبين عام 300 للميلاد، ونشأ على التّقوى والقراءة والزُّهد. وعندما صار راهباً، مع كونه شاعراً مفطوراً – كما يرى الزّكيمي – لم يكتب شعراً ذا صلةٍ بالمعنى الدِّيني الكهنوتيّ المباشر، بل توجَّهَ بشعره منحى أوسع من ذلك "فجاء عمله بين إبداع ذاتيّ متنوع، وبين تأليف الكاتب المطلع، وفي شتّى الميادين المعرفية واللاهوتية والأدبيّة" كما يقول صاحب الكتاب ص 39.

وملحمته عن (يوسف) الشخصية المعروفة في النّصوص الدينية، تتّخذُ من هذا الرمز نموذجاً لكائنٍ تلتقي فيه مجموعة صفاتٍ وطباعٍ جعلتْ منه موضوعاً ملحميّاً. فيوسف تعرّض من خلال سرد تفاصيل حياته للغربة والظّلم والعزّة والمعرفة، ثم الصراع مع واقعٍ مناقضٍ له، وتغلّبه عليه، وسجنه ظُلْماً، ثم تدرّجه في مواقع الحياة الكثيرة.

هذه كلها صفات وسمات أغرت كثيراً من المبدعين ليصوغوا من يوسف أعمالاً شعرية وحكايات. وقد ظهر يوسف في الملحمة الأفرامية إنساناً ذا مبدأ، وطيّباً، "متفائلاً بمستقبل الإيمان المغلَّف بالحبّ" وهو مع كلّ التّناقضات التي عصفت به، ظلَّت عيناه تنظران للمستقبل نحو الهدف الأسمى. والشاعر في اختياره لهذا النَّموذج، إنما يريد تقديم منظومة أخلاقيَّةٍ صافية يدفع القارئ إلى تمثّلها والاقتداء بذلك البطل الملحمي الذي يمثّلها. إنه بطلٌ اتخذ منه الشاعر حقلاً يزرع فيه مقولاتٍ عن صراع القيم وتناقض الخير والشرّ والشهوة والتَّسامي، وأنه لا بدّ في النهاية من اكتمال روح الإنسان بأن يخرج من حربه مع شهواته ودنياه منتصراً في سبيل الوصول إلى ما يعتقد أنه مطلقُ الخير والسَّعادة والحبّ. إن يوسف هنا في ملحمة أفرام يذكّر بالمسيح من خلال كثير من النّقاط المشتركة وهي واضحة لا لبس فيها.

أمّا عن المشترك بين الأفرامية والإلياذة، فيراه الباحث في عددٍ من النّقاط. مثلاً وفي البداية هناك موضوع الحسد والغيرة اللذين كانا وراء تآمر إخوة يوسف عليه، وكانا وراء إشعال حرب طروادة. والنقطة الثانية تدخّل الآلهة في مسار الأحداث في قصة يوسف وفي الإلياذة. وارتباط مصائر الناس بهذه الإرادة والعناية الإلهيَّة. مع فرق يتجلى في أن إله يوسف واحدٌ، بينما في الإلياذة فالآلهة متعدّدة. "إله يوسف أزليّ، أبديّ، أحاديّ الجوهر، روحيّ، منزّه عن فعل الشرّ".. "أمّا آلهة الإلياذة فمتعدّدة الأهواء والنَّزوات ثنائية التكوين من مادة وروح".. الخ. ص  78- 79.

 

12400520_996601477042704_4116692858723348877_n.jpg

 

كما يشير الباحث الزّكيمي إلى موضوع الأحلام في قصَّة يوسف، فمن خلالها تجلَّتْ إرادة الإله، وأوجدت الحلول للمآزق التي مرَّ بها يوسف. حتّى توّج بطلاً. أما في الإلياذة "نجد العلاقة مشابهة تماماً بين البطولة والآلهة" ص 86. وكما تحقَّق واقعٌ جديدٌ بعد حلم يوسف بالبقرات العجاف تبتلع السمان، كذلك تحقَّق سلوكٌ جديد في الإلياذة بعد أن وقف أوديس يخاطب أغاممنون ذاكراً رموزاً كثيرة كانت تعبيراً عن رؤيا واسعة يتمّ فيها التّنبؤ بما سيجري من خلال تحليل الرموز الواردة في الحديث. إن الكلمة والرمز اللذين يشكّلان مضمون الحلم، والرؤيا، كانا بمثابة النّبوءة. وهذا الفعل غالباً ما يرد ذكره في الملاحم والتّراجيديّات الكبرى.

أمّا النقطة المشتركة في الملحمتين، وجود عنصر المرأة في قصة يوسف وحادثتها معه في محاولة إغوائه ونجاح يوسف في الاختبار لكنه يقع ضحيَّة شرّها، كذلك في الإلياذة "زوجة الملك إفريط الجميلة رأت بليرفون، فشغفها حبّاً أمّا هو فلم يلقِ إليها سمعه، إذ كان عفّاً حكيماً، ولكنّ أنتيا وشت به إلى الملك زوجها" ص 105. والتفاصيل كثيرة هنا في ذكر نهاية بليرفون وموجودة في نصّ الإلياذة.

وإذا كانت الملحمةُ تعتمد في تكوينها على البطولات، فإن الملحمة الأفرامية ذات بطولة فرديّة، على عكس الإلياذة المشبعة بالأصناف اللانهائية من البطولات، الفردية والجماعية، البشرية وما فوق بشريّة. لكن الفرد في ملحمة أفرام خضع لكثير من المواقف والامتحانات التي جعلت شخصيَّته مركّبةً ومتعددة ومتطورّة حسب الأحوال التي تعرّضت لها. لكن هذه الشخصية لم تصَبْ بالتَّشتت والتَّمزق. بل حافظت على ما يُدعى هويّتها المستمرة. بحيث كانت نظراتُها "إلى الكون والأرض والإنسان نظرات موحدة تتّسم بالشّمولية ، لا تتجزّأ ، ولا تؤثّر بها المواقف". ص 145

ويخصّص الباحث عدداً من صفحات كتابه الأخيرة لدراسة البناء الفنّيّ في الملحمة الأفرامية، عبر تحليلٍ نقديٍّ لأسلوب بناء الصّورة في الملحمة، ومستويات هذه الصورة ، وما أدّته من وظائف نفسية وفنية في رسم ملامح شخصية يوسف. كما يحلّل الباحث مهمّة الحوار في الملحمة، ودور التّخيّل والتَّصوير النفسي.. الخ.

إن هذا الكتاب يعتبر حقّاً إضافة مهمّةً إلى حقل الدراسات المتعلّقة بالملاحم الكبرى. وتأتي الطرافة والجديّة في الموضوع اختيار الزّكيمي لوضع ملحمتين مختلفتين في البناء والمضمون والظروف من أجل رصد حركة كل منهما واستخلاص المشترك فيما بينهما. وقد قام بأداء هذه المهمّة خير قيام.

ونقرأ هنا نموذجا شعريا من هذه الملحمة:

"اتشح يوسف بعطاف السيرة الصالحة

كالشمس أرسخ اللهُ يوسفَ في كبد السماء لترى البرية جمالَه

كان يوسف رائع الجمال، وكان تصرفه أجمل من وجهه

يترقرق في أعضائه ماء الحياة غير أن في سيرته لعجباً

وقد اشتهى البار يعقوب يوسف وأحبه لكلا الأمرين

وحيثما وجد العدل اقترن به الحب النقيّ.."