الباحثون السوريون والصورة الجديدة عن سوريا

2023.05.06 | 08:07 دمشق

الباحثون السوريون والصورة الجديدة عن سوريا
+A
حجم الخط
-A

"يمارس الرجال في منطقة وادي أودو طقساً جماعياً حربياً يدعى دونغا، حيث يتصارع فيه رجال القبائل عبر عصيٍ خشبيةٍ طويلة، حفاة عراة بشكلٍ كامل، ويعود بعض المشاركين من هذا الطقس أحيانا بإصابةٍ خطيرة، هدف هذا الطقس الوحيد هو بروزهم كمقاتلين أشداء والبحث عن شريكة للحياة"، بهذا الوصف السطحي قدم الممثل البريطاني الشهير من أصول أفريقية إدريس ألبا الطقس السنوي لقبائل الأودو، ضمن السلسلة الوثائقية التي تعرض على منصة نيتفليكس تحت عنوان (Human Playground) والذي تتحدث بمجملها عن الطقوس والألعاب القتالية والرياضية التي يمارسها البشر في مختلف الثقافات العالمية، ولكن طرح السلسلة الوثائقية للقبائل الأفريقية والآسيوية والعديد من الشعوب الأخرى لم يخرج عن إطار النظرة النمطية التي لا يستطيع الغرب النظر إلا من خلالها.

على العكس من المتسابقين العراة في وادي الأودو الذين يريدون إظهار فحولتهم فقط بشكل سطحي، إيمي لديها هدف ذاتي وإنساني ذو أهمية لا يجوز الاستخفاف به

في حلقة أخرى من هذا العمل يتم تسليط الضوء على مسابقة أخرى من خلال الرياضية الأميركية (أيمي) والتي تزور دولة المغرب بشكل سنوي لتشارك في سباق اجتياز الصحراء مشياً على الأقدام، إيمي صاحبة القدم المبتورة والتي تشكل هذه المسابقة خطراً نفسياً وجسدياً عليها ليس بأقل خطورة من طقس قبائل الأودو، لديها شيء خاص وهدف وغاية سامية، فهي تريد أن تثبت لنفسها وللعالم وبعد أن أخبرها الأطباء بأنها لن تستطيع المشي مرةً أخرى، تريد أن تثبت لهم أنها استطاعت المشي واجتازت الآلاف من الكيلومترات رغم إصابتها.

هنا نستطيع أن نلاحظ الاختلال في رؤية الآخر فعلى العكس من المتسابقين العراة في وادي الأودو الذين يريدون إظهار فحولتهم فقط بشكل سطحي، إيمي لديها هدف ذاتي وإنساني ذو أهمية لا يجوز الاستخفاف به.

يقول إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق "إن هذه الاتجاهات الاستشراقية المعاصرة تملأ الصحافة والعقلية الغربية وإن هنالك افتراضاً خفياً دائماً مواده أن الإنسان الغربي يحق له ورغم أنه أقلية عددية أن يملك العالم لأنه خلاف للإنسان الآخر هو إنسان حقيقي، الغربي الأبيض يؤمن بأن من حقه الإنساني لا أن يدير العالم غير الأبيض فقط، بل أن يملكه أيضاً لا لشيء إلا لأن هذا العالم غير الأبيض ليس إنسانياً بالقدر الذي هو عليه".

هذا الاختلال في المحاكمة والطرح على المجتمعات الأخرى والطريقة التي تفرضها العقلية الغربية في رسم رؤاها عن الآخر لم تكن مجرد تراكمٍ لمفاهيم شعبية فقط، بل إنها مفاهيم أكاديمية ممنهجة ومرسومة ضمن مناهج وأطر بحثية استمرت لعقود طويلة وكانت واحدة من أدوات رسم السياسات الغربية منذ بداية القرن الثامن عشر وحتى اليوم.

هنا يبرز العامل الآخر في ظل سطوة المؤسسات الأكاديمية الغربية ألا وهو غياب الآخر وسرديته وعدم قدرته على إيصال صورة دقيقة موضوعية عن نفسه ومجتمعه، ولو أخذنا المسألة السورية على سبيل المثال فسنجد أنها مشابهة لقصة قبائل الأودو، دولة مشرقية هامشية غير محورية حكمها ديكتاتور عسكري ولا يعرفُ عن شعبها ومجتمعاتها أي شيء سوى الصراعات الطائفية والطبقية والتطرف.

يصف الدكتور الباحث حيان دخان سوريا بالثقب الأسود، ويقول “إن قراءة المشهد السوري تحده صعوبات وتحديات عديدة فهي دولة عاشت لفترة طويلة تحت نظامٍ مستبد، فلا يوجد معلوماتٌ أو دراساتٌ واضحة منذ عام 1970 وأي قارئ أو باحث للتاريخ السوري سيفاجأ بعدم وجود أي شي لذلك سيضطر للبحث عن معلومات قديمة، وعندما قمت بكتابة مادة بحثية عن القبيلة والدولة، أغلب المصادر التي كتبت عن سوريا كانت مصادر غربية مكتوبة بأيادي مستشرقين، فيها وجهة نظر أحادية من دون وجود وجهة نظر موضوعية، لا يوجد كتاب سورين كتبوا عن هذا الموضوع”.

الدكتور حيان دخان هو أحد المشاركين في مؤتمر الباحثين السورين في العلوم الاجتماعية المنعقد في إسطنبول في دورته الثالثة والذي هدفه الرئيسي هو إنتاج الجماعة العلمية السورية كما عبر عنه سمير سعيفان رئيس مركز حرمون للدراسات المعاصرة المنظم الرسمي للمؤتمر، حيث يجتمع في هذا المؤتمر العاملون السورون في المجالات الأكاديمية التي تغطي العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويُقدَّم لهم فسحة ومجال لطرح الأبحاث العاملين عليها ومشاركة الآراء والحوار المفتوح.

تقول الدكتورة رهف الدغلي في حديثها عن المؤتمر "تأتي أهمية اجتماع الباحثين السورين كثروة إضافية تغني إنتاج المعرفة عن سوريا، وأنا اعتقد أن اليوم دور الفاعلين السورين مهم جداً في إنتاج ذات معرفية من خلال أبحاث رصينة علمية بعيدة عن الاستقطاب متجاوزة الثنائيات وموضوعية في الطرح".

من شأن هذه الأبحاث والدراسات في المستقبل أن تقدم صورة مختلفة عن سوريا أكثر واقعية وموضوعية وخصوصاً للباحثين والقارئين وصناع القرار على المستوى الإقليمي والدولي

يعقب الدكتور حيان بقوله “إن هذه الذات المعرفية يتم إنتاجها من السورين أنفسهم من دون نظرة أخرى، من دون نظرة استشراقية، من دون نظرة فوقية، أبناء سوريا نفسهم يعطون رسالة إلى العالم لا شيء سيكتب عن سوريا من دوننا نحن، أي شيء سيتم تقريره من ناحية الخطوات السياسية أو دراسة السياسات في المستقبل يجب أن يعود إلى هذه الدراسات إلى الأدب الذي تم إنتاجه من الأكاديميين السورين أنفسهم".

إن من شأن هذه الأبحاث والدراسات في المستقبل أن تقدم صورة مختلفة عن سوريا أكثر واقعية وموضوعية وخصوصاً للباحثين والقارئين وصناع القرار على المستوى الإقليمي والدولي، ولكن على المستوى المحلي الموضوع مختلف ويوجه البعض الانتقاد إلى المؤتمر وأن هذه الدراسات والأبحاث ستبقى حبيسة الرفوف والنخب مع عدم وجود أي فاعلية لها على أرض الواقع، وللإجابة عن هذا الانتقاد يقول وائل حلاق في كتابه الدولة المستحيلة "بأن الأكاديمية هي عقل الدولة والموجه له بل إنها وصلت إلى مرحلة أصبحت الآلة التي تحل مشكلات الدولة التي من خلالها تقوم بدراسة المعطيات وتحليل الواقع وتقديم المقترحات"، وبعيداً عن معرض نقده السلبي للدولة والحداثة في الكتاب إلا أن ما ذكره يشير إلى أهمية النتاج المعرفي الأكاديمي في حال قامت الدولة بتبنيه والاتكاء عليه في تحديد سياستها، ولذلك وإلى حين قيام الدولة السورية الديمقراطية ستكون هذه الأبحاث قد أسست وبشكلٍ تراكمي أرضيةً معرفيةً صلبة تستطيع الدولة المستقبلية الاستناد عليها في تحديد خطا حاضرها ومستقبلها.