الاقتصاد السياسي لدمشق خلال القرن التاسع عشر

2021.02.01 | 00:02 دمشق

thumbnail_political_economy_of_damascus_-_swrt.jpg
+A
حجم الخط
-A

في 1986 نال زهير غزال، الأكاديمي الأميركي من أصل سوري، شهادة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة السوربون على أساس أطروحته هذه التي ظهرت في كتاب بالفرنسية عام 1993، وبالعربية عام 2008.

أخذ الكتاب اسمه من قناعة المؤلف بأنه في الإمبراطورية العثمانية ليس هناك اقتصاد غير سياسي. بمعنى أن الاقتصاد والسياسة ليسا مستويين مستقلين، لأن اقتصاد المجتمعات العثمانية من شأن الدولة قبل كل شيء، وإن كانت تديره بطريقة غير مباشرة، باستخدام نظام تلزيم الضرائب لتنظيم حركات التدفق النقدي. أما الباقي فتؤديه عبر «الوسطاء»؛ أي الأعيان وملتزمي الضرائب (وهما فئتان تتداخلان في الغالب) والقضاة والعلماء وفئات أخرى من الطراز نفسه. ولا تتماسك هذه الفئات في جماعات بقدر ما تنتظم في شبكات. فتحوي «شبكة الأعيان» النموذجية جماعة من الأعيان تعتمد على طرائق صوفية، وميليشيا مدنية، ومشايخ أحياء، بالإضافة إلى الملتزمين المدنيين والريفيين.

شكّلت السلطات مجالس إدارية من الأعيان في المدن الرئيسية للإمبراطورية، مهمتها التأكد من تنفيذ الإصلاحات التي أعلنها الفرمان، ودراسة قوانين التجديد التي استمرت بالصدور حتى عام 1876

استند الكتاب إلى مجموعة من أنواع الوثائق؛ كسجلات المحاكم الشرعية في دمشق، فمن خلال وثائق التركات، مثلاً، تظهر الشبكات المالية على هيئة ديون متبادلة. وكذلك رجع إلى وثائق المحكمة التجارية، ومحاضر المجلس الإداري لولاية دمشق لعامين متاحين فقط، والمراسلات القنصلية الفرنسية والبريطانية، والتقارير السنوية التي أعدّت لتقديمها للمجالس النيابية البريطانية.

في عام 1839، عندما أصدر السلطان عبد المجيد الأول فرمان الكلخانة، مفتتحاً به الإصلاح العثماني المعروف باسم «التنظيمات»؛ شكّلت السلطات مجالس إدارية من الأعيان في المدن الرئيسية للإمبراطورية، مهمتها التأكد من تنفيذ الإصلاحات التي أعلنها الفرمان، ودراسة قوانين التجديد التي استمرت بالصدور حتى عام 1876. وقد شكّل أعيان دمشق، من الذين كان معظم دخلهم من الريع العقاري للريف المجاور، أغلبية أعضاء مجلس ولايتها، وكانوا يحرزون حوالي نصف التزام القرى والمقاطعات الضريبية حولها، بالنظر إلى هامشية الملكية الخاصة، وقتها، بالمقارنة مع ملكية الدولة.

أما الجماعة الاقتصادية الثانية، حسب المؤلف، فتشكلت من كبار التجار، والذين أتاح لهم قانون السندات، الصادر في ثمانينات القرن، القيام بتوظيفات جديدة بالقروض التي تعطى للفلاحين. وكانت هناك جماعة ثالثة من الأعيان مرتبطة بالتزام أصحاب الحرف والجمارك الداخلية. ومن مراقبة هذه المجموعات الثلاث يرى الكتاب أن الرأسمالية القادمة عبر التنظيمات لم تتطور في دمشق إلا بشكل متأخر وبطيء، ملاحظاً أن التجانس العالمي الذي تفرضه الرأسمالية يخلق، في الوقت نفسه، بؤر مقاومة تدمج النظام الوافد في بناها الخاصة.

فقد ظل مجموع الإنتاج الزراعي يدار بواسطة الدولة والأعيان المدينيين، دون أن يستطيع الفلاحون الانتفاع بمحاصيلهم. إذ كان الغرض هو توفير التموين للمدينة، وتحقيق التوازن لمجموع العملية الاقتصادية. وتمثل دور أعيان المدن في أنهم «وسطاء» بين الدولة وبين الملتزمين الرئيسيين المدينيين والريفيين، أكثر منهم مفوضين عن مجموع سكان المدينة. وبالمقابل كانت الدولة تؤمّن للأعيان الدخل الذي يحتاجونه للمحافظة على مكانتهم الاجتماعية عن طريق «الريع». وكان الدمشقيون، إجمالاً، يستثمرون أموالهم في القطاع العقاري، بالشراء غالباً. والملاحظ أن نسبة لافتة من العقود تمت بين أفراد من الأسرة نفسها بغرض تجميع الإرث العائلي. كما كانت إحدى أبرز وظائف المؤسسة القضائية هي المحافظة على الممتلكات والسهر على انتقالها وتوثيقه.

تراوح عدد سكان مدينة دمشق حينها بين 112500 نسمة في 1842 وحوالي 222600 في 1911. ويرجع اضطراب الأعداد بين هذين التاريخين إلى أن كل إجراء إحصائي كان يخفي وراء الأرقام الهدف الذي قصدته السلطة، سواء بتحصيل الضرائب أو عند فرض التجنيد على الذكور المسلمين وتقاضي بدل على القادرين على حمل السلاح من الأقليات. بالإضافة إلى الزيادة العالية الحاصلة نتيجة هجرة الريف إلى المدينة عند حدوث اضطرابات هناك، وبالمقابل تسارع هجرة المسيحيين إلى مصر في النصف الثاني للقرن. إذ يلاحظ المؤلف عدم وجود عضو مسيحي أو يهودي في عموم المجالس التي شكّلها العثمانيون لدمشق بعد انسحاب الجيش المصري، إذ اختير الأعضاء من فئتَي العلماء والأشراف بالدرجة الأولى، ثم من العائلات المسلمة التي فرضت نفسها في المستوى الأعلى من التراتبية الاجتماعية بفضل وزنها الاقتصادي على الرغم من أنها ليست من الشريحتين السابقتين، كآل العظم والعظمة ومردم بك والمهايني. وقد تصلب الأعيان المسلمون تجاه الأقليات، سواء من جهة التمثيل أو في الجور عند توزيع ضريبة الإعانة، مما عنى إعاقة تنفيذ خط كلخانة نفسه.

من الشائع القول إن الإصلاحات أدت إلى تراجع مكانة العلماء في الدولة والمجتمع بعد أن اقتُبست القوانين من مصادر غربية وتجاوزهم الوضع الجديد. وإذا كان غزال لا يجادل في اهتزاز المكانة التقليدية للعلماء، إلا أنه ينبّه إلى الدور غير المسبوق لجماعة الأعيان التي جمعها مجلس فاعل شغل العلماء والأشراف أكثريته، واتسم بمركزية السلطة وتعميم الأحكام القضائية. حتى يمكن القول إن الأعيان استطاعوا، خلال مدة الإصلاح العثماني، تقوية سلطتهم السياسية والاقتصادية، قبل أن يتحولوا إلى «القومية العربية» مع حكومة الملك فيصل عام 1918. كما حافظت العائلات الدمشقية الكبرى على سيطرتها خلال الانتداب الفرنسي، إلى أن انهارت سياساتها بعد الاستقلال.

كان الفارق كبيراً بين ما هدف إليه الإصلاحيون العثمانيون وبين حدود سلطتهم التي قاومتها البنى التقليدية المتمثلة في الأعيان

لكن مجتمع بلاد الشام خلال العهد العثماني تكوّن، في غالبيته، من الفلاحين سكان الأرياف، حيث كانت الأسرة كلها تشارك في زراعة الأرض وجني المحاصيل وتربية المواشي، مقابل مردود يسمح بتلبية الحاجات الأساسية. وفي عام 1845 تحتفظ محاضر مجلس دمشق بقرار توزيع التزام العُشر لمقاطعات خمس مجاورة للمدينة، يشمل كل منها حوالي 20 قرية ومزرعة. ومن قائمة من فازوا بالمزاد العلني يتبين أنهم كانوا أشرافاً وعلماء وآغوات. أي أن المزاد لم يُفتح إلا لعشرين شخصاً، جميعهم من أعضاء المجلس أو ممن يدور في فلكهم.

ومن هنا كان الفارق كبيراً بين ما هدف إليه الإصلاحيون العثمانيون وبين حدود سلطتهم التي قاومتها البنى التقليدية المتمثلة في الأعيان الذين كانوا وسطاء لم تكن الدولة قادرة على إنجاز إصلاحاتها دون مساندتهم في تحصيل عائد الالتزام في بداية السنة قبل الحصاد، لتستطيع إدارة ميزانيتها السنوية ودفع رواتب موظفيها. ومن جهة أخرى كان البيع المسبق للمحاصيل شائعاً بين الفلاحين. ولم يكونوا قادرين على تسديد ديونهم إلا بعد تسليم «الموسم» بأسعار يفرضها الدائنون الذين كانوا يتمتعون بحماية الدولة. فقد كانوا أعياناً وأعضاء مجلس حكومي ونظّار أوقاف معتبرة في الوقت نفسه، في كثير من الأحيان.

وبالمقابل لم يكن الحرفيون في المدينة أفضل حالاً. فقد كان لجماعات الحرف رئيس أعلى ذو منصب رمزي يلقب «شيخ المشايخ». وخلال مدة طويلة كان هذا الرئيس من أسرة العجلاني، وهي من العائلات الكبرى. أما شيخ كل حرفة فكان من المشهود لهم بإتقانها وأهلية التحكيم في خلافاتها. في حين أن المبتدئ لم يكن يحصل على أي مقابل حتى يجتاز مرحلة «الأجير». ورغم ذلك كان قبوله في سلك جماعة حرفية امتيازاً في حد ذاته، إذ كان معلمو المهنة لا يرون من المصلحة زيادة كبيرة في أعداد المتدربين، وتكتموا على «سر المصلحة»، بالنظر إلى أن الأرباح لا تتجاوز عتبة المحافظة على الحياة. وللسبب نفسه لم يكن «الصانع» يستطيع افتتاح مشغله الخاص دون إذن من معلمه. وكثيراً ما جرى تأخير ذلك، أو تأجيل حفلة «الشد» التي ترسّمه كمتخصص، حرصاً على تضييق دائرة المنافسة التي دخل إليها وافد مؤثر هو المصنوعات الأوروبية التي وردت مع انفتاح السوق بفعل الرأسمالية. ولذلك عجز الكثير من مشايخ الحرف، الذين كانوا يلتزمون جباية الضرائب من أبناء حرفتهم تقليدياً، عن الوفاء بديونهم وفق الالتزام.

أما من الناحية التجارية فقد لعبت قافلة الحج، صعوداً وهبوطاً، دوراً كبيراً في فاعلية تجار دمشق الذين كانوا يحملون معهم منتجاتهم ويعودون من مكة ببضائع أخرى يبيعونها في السوق المحلية. كانت هذه القافلة مركزية في الدورة السنوية للمدينة منذ 1807، وهو التاريخ الذي حوّل فيه الباب العالي إمارة الحج إلى ولاة دمشق، حتى 1869، عند افتتاح قناة السويس واجتذابها الحجاج. في حين لعب افتتاح طريق دمشق – بيروت، مطلع 1862، دوره الإيجابي في زيادة عدد العربات المحملة بالسلع بين دمشق وما عُدّ «ميناءها» في ذلك الوقت.