icon
التغطية الحية

الاتحاد الإسلامي.. طموح زعيم تركي صعب المنال

2022.03.23 | 05:26 دمشق

d0anxiywwaavx4x.jpg
إسطنبول - صالح عكيدي
+A
حجم الخط
-A

مع انهيار الدولة العثمانية، وتوزع من عاش في كنفها على عشرات الدول الحديثة، عانت شعوب ومجتمعات المنطقة من أزمة انتماء. وجد العرب ضالتهم في القومية العربية التي توفر عمقاً جغرافياً واسعاً، أما الأتراك فتوجهت جمهوريتهم المؤسسة حديثاً بروحها القومية نحو الغرب، لتثبت السنين أن قروناً من الثقافة الشرقية ستمنع تغريب البلاد بمستوى ينهي أزمة الهوية. لن تسكت الأصوات المطالبة بالعودة إلى العمق الشرقي؛ في تركيا. وحين تسمح الظروف السياسية في البلاد، سيظهر أواخر الستينيات زعيم تركي يؤمن بالشرق وفق هوية إسلامية جامعة، ويسعى إليه.

شكّل الواقع الجديد صدمة يصعب التعامل معها، إذ ولأول مرة منذ مئات السنين، لم يعد هناك هيئة مركزية تنسق التعامل بين ملايين المسلمين. وعلى إثره ظهرت جماعات في مختلف البقاع الجغرافية الإسلامية تطالب بتأسيس "اتحاد إسلامي" أو "اتحاد مسلمين". لاحقاً سترتبط هذه الجماعات، ورغم التباين فيما بينها بالرؤية السياسية، بمصطلح "الإسلاموية".

تعود جذور "الإسلاموية" في تركيا إلى العقود التي سبقت انهيار الدولة العثمانية، وجاء ظهورها كمنهج في تلك الفترة بالتحديد كرد على رواج الأفكار القومية بين المتنوّرين الشرقيين من شعوب الدولة، ومنهم الأتراك. ويعدّ السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، والصدر الأعظم سعيد حليم (1863-1921) من أبرز رجالات الدولة في تلك الفترة ممن آمنوا بـ "الإسلاموية" وسعوا إليها، ووضعوا نظريات تغنيها.

رفضت الجمهورية المؤسسة حديثاً (1923) جزءاً يسيراً من إرث الدولة العثمانية الثقافي والإيديولوجي، واستغلت سلطتها لوضع أساسات المنهج الغربي في الدولة والمجتمع. لكن رغم الضغوط، لم تخمد الأفكار التي تنادي بالالتفات شرقاً بعيون إسلامية، عبر نظريات لمفكرين أتراك بارزين عاصروا العقود الأولى للجمهورية. أهمهم: السياسي والشاعر كاتب النشيد الوطني لتركيا "محمد عاكف آرصوي" (1873-1936)، والكاتب والشاعر والمنظر التركي "نجيب فاضل قيصاكورك" (1904-1983)، والعالم والمصلح الديني "سعيد نورسي" (1876-1960).

بقيت توجهات هؤلاء المفكرين مقيدة في النطاقين المجتمعي والثقافي، حتى أواخر الستينيات. حينئذ سيظهر على الساحة السياسية التركية اسم مثير للاهتمام، "نجم الدين أربكان" (1926-2011)؛ الذي سيضع هدف توحيد الدول الإسلامية في مواجهة القوى الغربية في نواة رؤيته طوال عقود من الكفاح السياسي.

مؤسس الإسلام السياسي في البلاد

بعد تعيينه كـ "بروفسور" في جامعة "إسطنبول التقنية"، دخل "أربكان" الحاصل على درجة الدكتوراه في هندسة الميكانيك من الجامعة "الراينية الفستفالية العليا بآخن" الألمانية -إحدى أهم جامعات العالم في المجال- ميدان السياسة رسمياً عام 1967، باختياره سكرتيراً عاماً لـ "اتحاد غرف التجارة والبورصات التركية".

ومثّل فوز "أربكان"، المدرك لفروقات البلاد الثقافية والطبقية منذ طفولةٍ قضاها يتنقل بين المدن التركية مع كل تعيين جديد لوالده موظف الدولة، علامةً لظهور نفوذ رأس المال الأناضولي المحافظ على حساب البرجوازية الإسطنبولية التقليدية في البلاد.

بعدها بعامين، ترشح "أربكان" لانتخابات مجلس الشعب التركي كمستقل عن مدينة قونية بوسط الأناضول، وفاز بأصوات تكفي لثلاثة مرشحين. لينكبّ مباشرة مع مجموعة من أصدقائه على تأسيس حركة فكرية تضع الاتحاد الإسلامي نصب أعينها، ولتبدأ معها مسيرة الإسلام السياسي في الجمهورية التركية الحديثة.

"يبدأ الربيع بزهرة"

سمّيت حركته الفكرية "Milli Görüş - الحركة الوطنية"، لكن يشرح منظروها أن كلمة وطني هنا (المستمدة من كلمة ملّة العربية) لا تشير لتركيا فقط، بل تشمل كل "الملّة الإسلامية" الجامعة. وفي سبيل الوصول إلى هذه الرؤية، لم يمانع أربكان من استخدام الخطابات التي تثير مشاعر الكتل المحافظة، لكنه دعمها ببرامج وخطوات عملية تشدد على مبادئ الإنتاج الصناعي، والرفاه الاقتصادي والمجتمعي.

وفق المرويات التي يتداولها أتباعه اليوم، بعد فوزه بانتخابات مجلس الشعب وفي أثناء حشده لتأسيس حركته الفكرية، قال المشككون لـ "أربكان" وبعد تهنئته بفوزه إن "الربيع غير ممكن بزهرة واحدة" (ويُقصد بالزهرة أربكان)، ليكون رد أربكان: "لكن كل ربيع يبدأ بزهرة".

يلخص هذا الحوار أمل أربكان برؤيته، رغم صعوبة حاله ومن سعى لجمع شتاتهم من كتل إسلامية محافظة، المهمشين من قبل بيروقراطية الدولة، خلال الفترة التأسيسية للحركة.

اتسمت أفكار أربكان صاحب المقولة الشهيرة "قضيتنا الإسلام. طريقنا الجهاد" بالثورية على النظام العالمي ومعه منهج الدولة التركية، واعتبر السياسةَ وسيلة للوصول إلى طموحه، لا غاية. مع ذلك استمد أربكان شرعيته طوال عمله السياسي من الدولة وتشريعاتها، ونبذ كل أشكال العنف ودعا للالتزام الدائم بالقوانين حتى في أصعب الظروف.

لن ينفع المنهج السلمي الذي اتبعه أربكان بتطبيع وجود حركته في عيون البيروقراطية التركية المبنية على اللائكية (العلمانية)، لما تراه تهديداً وجودياً في أفكارهم. لذا وخلال سنوات عمله السياسي، التي امتدت لـ 42 سنة حتى وفاته عام 2011، أمضى أربكان 25 سنة محظوراً عن ممارسة السياسة بشكل رسمي، وأُغلقت أربعة أحزاب سياسية أسسها تباعاً، وحوكم مرات عديدة بتهمة "الممارسات الرجعية".

بالمقابل، لم تنجح الضغوط بإنهاء وجود أربكان وأتباعه، فوصل إلى منصب معاون رئيس الوزراء ثلاث مرات (1974-1978)، ولمنصب رئيس الوزراء لعام واحد (1996-1997)، سيستغله لتمرير ما أمكن من طموحاته ومنها نواة الاتحاد الإسلامي. قبل أن تجبره قوات الجيش على الاستقالة بداية "إجراءات 28 شباط" المعروفة بـ "انقلاب ما بعد الحداثة".

نواة الاتحاد الإسلامي

على عكس "منظمة التعاون الإسلامي" التي اعتمدت على الحميّة دافعاً لتأسيسها بعد حريق الأقصى (1969)، أراد الزعيم التركي نجم الدين أربكان، الذي حصّل جزءاً يسيراً من تعليمه العالي في أوروبا، أن يعتمد على المنطق في مشروعه، لذا استلهم من المثال الأوروبي ووضع الاقتصاد أساساً لتعاون الدول الإسلامية الذي يسعى إليه.

وفق رؤيته، سيسهم التعاون الاقتصادي والتجارة المتبادلة بتوطيد العلاقات بين الدول الأعضاء مع السنوات، ما ينتج عنه تمتين للعلاقات السياسية. سيبدأ المشروع بنواة مؤلفة من ثماني دول اختيرت بعناية لتضم أكبر عدد من السكان، وتمثل التنوع الجغرافي والثقافي التي تضمه "الملة الإسلامية".

مدركاً للضغوط التي تلاحقه داخلياً، ومسابقاً للزمن، نجح رئيس الوزراء حينئذ أربكان، آخر التسعينيات وقبل أشهر من أن يطيح به "انقلاب ما بعد الحداثة"، في تأسيس نواة الاتحاد الإسلامي من مدينة إسطنبول تحت عنوان " مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية" أو اختصاراً "D-8". ويضم الاتحاد كلاً من: تركيا، مصر، بنغلادش، إندونيسيا، إيران، ماليزيا، نيجيريا، باكستان. يتجاوز سكان الدول الأعضاء الثمانية حالياً المليار نسمة، بمجموع اقتصاد يقدر بـ 3.8 ترليونات دولار، وحجم تجارة بـ 1.6 ترليون دولار.

 

Developing_8_countries.png
خريطة تظهر الموقع الجغرافي لدول مجموعة "D-8"

 

 

 

اعتبر أربكان نجاح مجموعة "D-8" التي ستركز على التعاون الاقتصادي مبدئياً، خصوصاً في مجالات الصحة والبيئة والصناعة والتنمية الريفية والخدمات المصرفية والتكنولوجيا والزراعة، الخطوة الأولى في الطريق الوعرة وصولاً لـ "الاتحاد الإسلامي". يتبعها تأسيس منظمة "D-60" التي تضم كل الدول الإسلامية، ثم منظمة "D-160" التي تضم كل دول العالم "المظلومة".

 

12331.jpg

 

 إذ لا تنحصر أفكار الزعيم بتحقيق التعاون بين الدول الإسلامية، بل يعدّ أربكان هذا التعاون شرطاً أساسياً لتحقيق الهدف الأسمى لـ "الملة الإسلامية"، وهو إحلال العدل والسلام في كل أرجاء المعمورة، طبعاً على حساب الدول الغربية التي لطالما اعتبرها مستمرةً في سياساتها "الاستعمارية".

غياب مؤشرات النجاح

بعد مرور 25 عاماً على تأسيس مجموعة التعاون "D-8"، لا يمكن القول إن المنظمة نجحت في تحقيق أدنى المعايير التي طمح إليها أبو الفكرة على مستوى التعاون الاقتصادي أو السياسي. ويعود ذلك -بالإضافة إلى خسارة أربكان للسلطة بعيد التأسيس- للأزمات السياسية التي عاشتها الدول الأعضاء، وبُعدها بعضها عن بعض جغرافياً، والخلافات السياسية بينها. كما أثرت أحداث 11 أيلول سلباً على المشروع بسبب عودة القوى العالمية لاستقطاب الدول النامية، بحسب مختصين من جماعة "الحركة الوطنية".

لكن خصوصاً في الأعوام الأخيرة، ظهرت علامات تدل على نيّة الدولة التركية العودةَ إلى العمل على المشروع. مثلاً حملت أجندة القمة العاشرة للمجموعة التي أقيمت العام الماضي، أهدافاً عملية غير مسبوقة لتعزيز التعاون، وفق إطار زمني محدد.

لم يُكتب للزعيم التركي المثير للجدل "نجم الدين أربكان" أن يصل إلى طموحه قبل وفاته عام 2011، لكن يكفي مشهد جنازته المهيب، لأن يدرك المتابع بأن الرجل ترك ميراثاً استثنائياً. يومئذ شهد محيط جامع الفاتح في إسطنبول ازدحاماً غير مسبوق، شكّله ما يقارب المليون مواطن تركي، ومئات المسؤولين وقادة الحركات والعلماء والمفكرين من الدول الإسلامية. بالإضافة إلى تلاميذه رجب طيب أردوغان بصفة رئيس الوزراء وعبد الله غل بصفة رئيس الجمهورية، الذين حملوا نعشه على أكتافهم، رغم فراقهم عنه قبل سنوات في الآلية والمنهج.

ويبقى أربكان حتى اليوم "مجاهداً" وقائداً بالنسبة لملايين الأتراك، و"معلماً" بالنسبة لأبرز الأسماء السياسية في البلاد.