الإجهاز على إرادة الشعوب.. أولويّة إستراتيجيّة لإيران

2020.01.23 | 23:06 دمشق

2020-01-22t145054z_532646487_rc22le96mkhe_rtrmadp_3_iraq-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعلّه بات من الواضح أن سعي إيران نحو استثمار مقتل سليماني ( 2 – 1 – 2020 )، لم يحمل النتائج التي كان ملالي طهران يتوخّونها، بل إن مآلات هذا المسعى ربما حملت النقيض مما كان مُتَوقعاً، إذْ إن الرغبة بإسكات الشارع الإيراني الملتهب، من خلال الدفع بلفت الانتباه نحو تداعيات العملية الأمريكية، مما قد يؤدي إلى استرجاع بعض الحاضنة الشعبية وإعادة اجترار خطاب مواجهة الشيطان الأكبر، ثم إعادة تصدير هذا الخطاب إلى كل من العراق ولبنان بهدف احتواء موجات الغضب الشعبي الرافضة للهيمنة الإيرانية، ولكنّ سيرورة الأحداث المتعاقبة أظهرت شيئاً آخر، إذ إن إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية، ومصرع جميع من كانوا على متنها ( 180 راكباً )، بفعل صاروخين ثبت أنهما انطلقا من قواعد إيرانية، قد حشر قيادة طهران في مأزق آخر، وأظهر لديها ارتباكاً شديداً أمام الرأي العام الدولي، إضافة إلى أن إسقاط الطائرة المدنية قد أسهم في تأجيج الرأي العام الشعبي الإيراني، والذي كان ناقماً في الأصل ضدّ حكومته، ولعل المهمّ أيضاً، أن مقتل سليماني وأبو مهدي المهندس لم يكن كابحاً لموجة الاحتجاجات في العراق، إذ إن رفض المتظاهرين المشاركة في تشييع المهندس قد أبرز إصراراً جماهيرياً على رفض الاستثمار السياسي لأتباع إيران في هذه المسألة. وكذلك لم يكن الردّ الإيراني باستهداف قاعدة عين الأسد الأمريكية غربي العراق إلّا عامل استنكار لدى الشارع العراقي الذي أدرك المسعى الإيراني من وراء هذه العملية، والمتمثل بجعل العراق ساحة مهاوشات من جديد بين طهران وواشنطن.

وموازاة مع تجدّد الحراك الشعبي في العراق، وازدياد سخونة الخطاب الجماهيري الرافض لنفوذ طهران، تتجدّد الرغبة الإيرانية بضرورة مواجهة المظاهرات في المدن الجنوبية

وموازاة مع تجدّد الحراك الشعبي في العراق، وازدياد سخونة الخطاب الجماهيري الرافض لنفوذ طهران، تتجدّد الرغبة الإيرانية بضرورة مواجهة المظاهرات في المدن الجنوبية، بل ثمة ما هو أبعد من ذلك، ويتمثل بالسعي إلى إيجاد مواجهة جديدة مع واشنطن، يمكن لإيران من خلال هذه المواجهة استخدام الحراك الشعبي أو استثماره لصالحها، إنْ هي تمكّنت من القبض على مفاصله، ومن ثم توجيهه بالاتجاه الذي يخدم مصالحها، وذلك من خلال مسارين متوازيين، الأول سياسي: ويتجسّد بتوجيه الأوامر للطبقة السياسية الحاكمة والمعروفة بولائها المطلق لطهران، نحو اعتماد قرار حكومي رسمي يتضمن طلباً عراقياً بخروج القوات الأمريكية من العراق، وهذا ما تم بالفعل، إذ اجتمع البرلمان العراقي في الخامس من الشهر الجاري، واتخذ قراراً – تحت تهديد ميليشيا الحشد لجميع النواب – يطالب واشنطن بسحب قواتها من العراق، ويدين مقتل سليماني والمهندس باعتبار مقتلهما اعتداء على سيادة العراق. والثاني: هو مسار ميداني، يتجسّد بتحرّك الميليشيات المسلحة العراقية التابعة لإيران بهدف الإجهاز على الحراك الشعبي، بغية تغيير وجهته، أو إفراغه من محتواه الحقيقي، وتوجيهه نحو وجهة أخرى، وبالفعل بدأت إرهاصات هذا المسعى الجديد منذ بداية الشهر الحالي، حين هدّد مقتدى الصدر بمظاهرة مليونية تجتاح شوارع النجف وكربلاء والبصرة، تطالب – من حيث الظاهر -  بخروج قوات واشنطن من العراق، ولكن من حيث المضمون، تريد الاستيلاء على الشارع الشيعي، بغية إبعاد أو إسكات الصوت الجماهيري المنتفِض في وجه السلطة.

ثمة معطيات عديدة، تحيل بقوّة، إلى أن مقتدى الصدر ربما يكون المرشّح الأقوى لتجسيد المبادرة الإيرانية الجديدة لاحتواء انتفاضة الشارع العراقي، وذلك لأسباب عدّة، لعلّ أبرزها، نزعته الشيعية التي قد تبدو معتدلة في نظر الكثيرين من الشيعة، إذ إن كتلته البرلمانية ( سائرون) تحتوي إلى جانب الأحزاب الدينية، الحزب الشيوعي، ومجموعات يسارية أخرى، وكذلك امتلاكه لأذرع عسكرية لها نفوذها في الوسط الشيعي، كجيش المهدي ولواء اليوم الموعود وسرايا السلام، وكذلك تأييده المعلن لمطالب الحراك الشعبي بمحاربة الفساد والمطالب المعيشية الأخرى، ولعلّ الأهم من ذلك كله أمران إثنان:

الأول: منذ احتلال العراق عام 2003 ، حاول مقتدى الصدر بلورة خطاب سياسي شعبوي مفعم بالعداء للولايات المتحدة الامريكية، في محاولة لتعزيز القناعة لدى العراقيين بأن نفوذه منبثق من إرادة شعبية، وليس من خلال ولائه لإرادات دولية، وهذا ما جعله يتباهى على الدوام، بأنه لم يأت محمولاً على الدبابة الأمريكية كما بقية أطراف السلطة الحاكمة، ولعلّ خطابه ذا النبرة المناهضة لواشنطن قد منحه الكثير من ثقة الشرائح الاجتماعية الفقيرة وغير المؤدلجة، بل خلع عليه مسحةً وطنية تتيح له الاصطفاف إلى جانب الشريحة الأوسع من شيعة العراق.

الثاني: سعيُه الدائم لعدم الكشف عن قنواته وجسوره الشخصية والحزبية مع إيران، الأمر الذي جعله – في نظر الكثيرين – يحافظ على مسافة ما ، مع طهران، دون أن يكون  أحد أذرعها المباشرة العاملة في العراق، مما قد يجعله أكثر قبولاً في الوسط الشيعي العراقي الرافض للسياسة الإيرانية.

قد تبدو شخصية مقتدى الصدر، بمظهرها الذي يحاول التوازن بين الدين والسياسة، هي الشخصية الأكثر مناسبة وقدرة على القيام بالدور المطلوب إيرانياً

قد تبدو شخصية مقتدى الصدر، بمظهرها الذي يحاول التوازن بين الدين والسياسة، هي الشخصية الأكثر مناسبة وقدرة على القيام بالدور المطلوب إيرانياً، قياساً إلى العديد من الشخصيات السياسية والأحزاب التي أضحت أوراقاً محروقة، ولم تعد صالحة لتجسيد دور إيراني (جديد قديم) في العراق.

لعلّ التهديد المشترك الذي أطلقته حركة النجباء وميليشيا الحشد الشعبي، للرئيس برهم صالح، بطرده من العراق، إنْ هو اجتمع بالرئيس ترمب ، في ملتقى دافوس الاقتصادي، في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، إنما يُفصح بوضوح عن تصوّر إيراني لا يرى في العراق سوى ولاية إيرانية تابعة لملكيته، كما يفصح أيضاً عن عزم طهران على الإجهاز بالقوة ، على الحراك الشعبي الذي ارتفع صوته، ولم يعد بالإمكان إسكاته إلّا بالقوة، ولو أدّى ذلك إلى مواجهات دامية تستنزف الأرواح، وتُدخِل البلاد في حرب خبيثة بين أبناء البلد الواحد، وليس سقوط عشرات القتلى والجرحى في كل يوم ، في أوساط التظاهر في المدن العراقية، برصاص القناصة والملثّمين، سوى مقدمات دالّة على ذلك.

لقد جرّب حكّام طهران مواجهة الثورة السورية من خلال الوسائل الأكثر عنفاً ودمويةً، وبات لهم سجلّ حافل بأقذر المجازر التي ارتكبوها بحق السوريين، في حمص وبانياس والريف الدمشقي ودير الزور، و حلب وسائر المدن والبلدات السورية، ووجدوا أن نجاعة إجرامهم قد أثمرت بالحفاظ على سلطة نظام الأسد، ومنْعها من السقوط، طيلة الفترة الممتدة من العام 2012 وحتى 2015 ، إلّا أن غصّتهم باتت واضحةً بسبب استحواذ شريكهم الروسي في الإجرام، على مساحة أكبر من النفوذ في سوريا، منذ انخراطه المباشر في العدوان على الشعب السوري في إيلول 2015 ، أمّا العراق، فيجب أن يكون خالصاً لهم، دون أي شريك، هكذا يرشح لسان حالهم.  

 

كلمات مفتاحية