icon
التغطية الحية

استعراض الحرب الجذاب.. من الهزلي إلى الرهيب والإغراء المميت

2021.12.17 | 08:11 دمشق

dftr_alhrb-_tlfzywn_swrya1.jpg
+A
حجم الخط
-A

في مجموعته القصصية "دفتر الحرب" يقدم الكاتب ممدوح حمادة 11 قصة تتمحور حول مفهوم واحد: "هذه المجموعة تقدم مشاهدات من حروب مختلفة كان جيلنا إما شاهداً عليها وضحية لها، أو خاض غمارها، وتمتد من هزيمة حزيران مروراً بكل الحروب الأخرى التي لم تنته بالحرب الأخيرة الدائرة رحاها الآن".

احتمالات الكوميديا في دمار الحروب

لذا، فإن كتاب حمادة يقدم وعداً مثيراً للاهتمام، وهو بتقديم قصص عن حروب في مراحل تاريخية مختلفة، وبين قوى متنوعة بين القصة والأخرى، وهو بذلك يؤكد على أن الحروب في غالبيتها تمتلك عناصر متماثلة، مهما تفاوتت تواريخها أو اختلفت الأطراف المتنازعة ودوافعها. لكن خصوصية هذه المجموعة القصصية أيضاً هي طابعها الكوميدي، وهو الأسلوب الأدبي الذي برع فيه الكاتب ممدوح حمادة في أكثر من مجال تأليفي، إلا أن الكوميديا هنا تتلازم مع الحرب.

في سلسلته الوثائقية (عالم الكوميديا الخطير) يصنف المخرج والباحث (لاري تشارلز) كوميديا الحرب باعتبارها كوميديا خطرة لما تعرض منتجها من مخاطر وتهديدات، ولأنها تلعب على حدود حساسة في مشاعر وآلام المجتمع الذي يعيش الفقد والخسارة فيصعب تقبل الكوميديا في هذه الفترات الاجتماعية، وثالثاً لأن الكوميديا تتطلب سخرية من الذات، من المخاوف، من حقيقة علاقة الإنسان مع الحرب.

 

فيلم (آه، يا لها من حرب جميلة)

الأغاني التحريضية لحمل السلاح

في القصة الأولى بعنوان (الجبنة الهولندية) نتابع الأفكار الداخلية لطفل يضطر للنزوح مع عائلته من مدينة القنيطرة بسبب العدوان الإسرائيلي، لكن الحكاية كلها مروية انطلاقاً من شهوة الطفل إلى قطعة من الجبن الهولندي. وهكذا يعبر الحدث التاريخي والحرب القاسية وضرورة النجاة من الموت، بينما ترتبط أفكار الطفل في قطعة الجبنة التي خلفها في المنزل: "بالرغم من جميع مصاعب طريق النزوح المرير، لم تفارق علبة الجبنة مخيلته. لكن أكثر حقده بسبب حرمانه من تلك الجبنة في ذلك اليوم المشؤوم انصب على الناطق العسكري الذي صرح عبر أثير إذاعة دمشق بأن القنيطرة سقطت".

وهكذا يتجاور سقوط المدينة واجتياح جيش لها واحتلالها وهجرة الأهالي مع تلك الشهوة التي بقيت عالقة في ذهن الطفل حيال قطعة جبنة البيت الهولندية.

يحضر الراوي الطفل في القصة الثانية (أنت منذ اليوم لي يا وطني)، التي تركز على موضوعة هامة في الحروب وهو دور الإعلام والفن في الحروب الذي يلعب دوراً تحريضياً عبر الأغاني الحماسية وإغراءات البطولة:

"ومن بين ما كان ينبعث من ذلك الجهاز أغنية ربما لدالال الشمالي أو مغنية أخرى من ذلك الزمن، كانت تنطلق بعد كل تصريح للناطق العسكري تقريباً، وتقول كلماتها: "عبيلي الجعبة خرطوش وناولني هالبارودة بيكلفني خمسة قروش البيقرب صوب حدودي"، وأغنية أخرى يمكن القول إنه بدونها لا تكتمل المهزلة، وتقول كلماتها: "أنت منذ اليوم لي يا وطني، ولا داعي للقول بأني منذ ذلك اليوم لن أر وطني، ومنذ ذلك اليوم أيضاً أكره الأغاني الوطنية عندما تنطلق من المذياع، وأشعر فيها بنذير شؤم".

من لعب الشظايا إلى جمع الأشلاء

وفي (شظايا) يركض الأطفال تجاه مواقع قصف الطيران الحربي، ليس لإنقاذ الجرحى أو تفقد الخسائر، بل كان للحصول على أكبر كمية من الشظايا المتطايرة ومخلفات القصف لأنها تشكل مواد تدخل في ألعابهم. وبمزاوجة بين المفارقة والكوميديا يركض الأطفال بين الدخان والركام المتطاير للحصول على حصة أكبر من حديد القذائف، لكن رغبة الأطفال في الاحتفاظ بالقذيفة داخل المنزل، يؤدي إلى وقوع الكارثة: "ركضنا مسرعين إلى مكان الانفجار، ولكننا في هذه المرة لم نجمع الشظايا، كانت المرة الأولى في تلك الحرب التي جمعنا فيها الأشلاء".

 

*"لا أريد أن أكون جنديًا

لا أريد أن أكون جنديا..

لا أريد الذهاب للحرب

أفضل البقاء في المنزل

حول الشوارع للتجول

والعيش على نفقة سيدة مقتدرة

لا أريد حربة في بطني

لا أريد  إطلاق النار بعيدًا".

في قصة (أجمل مدينة) يروي لنا الكاتب الحوارات التي تجري بين المجندين في خيام الحرب، رفاق السلاح ومواجهة الموت يشرعون بأحاديث عبثية، لكنها مختارة لتبين الفراغ الذي يعيشونه وأيضاً الشوفينية والفخر المتعلق كل منهم بمدينته، فالحوار بين أيمن وإبراهيم يبدأ بالتنافس بين مدينة حمص وحلب في مجال الجمال، ثم الثقافة، ثم الفحولة، وهكذا ليتشكل الصراع الثقافي والجهوي في أحاديث مستمرة، تتخللها اعترافات عن الشهوة والشوق.

"عندما تنتهي هذه الحرب الرديئة

سأتخلص من ملابس الحرب للأبد

و أرتدي ملابسي المدنية

أوه، كم سأكون سعيدًا!

سوف أقبّل الرقيب

كم سأفتقده، كم سيحزن!

آمين".

 

العدم الطاغي على يوميات الحرب

عديد الأعمال الفنية الناقدة للحرب ركزت على شعور العدم والفراغ في يوميات المجندين، قدمها المخرج (سام مانديز) بصورة سينمائية في فيلمه (جارهيد Jarhead، 2005)، والذي يتناول الحياة النفسية لمجموعة من المجندين الشباب الأميركيين في حرب العراق. فيرصد التدهور النفسي والفكري من شعور البطولة والمهمة الوطنية التي يعتقدون أنهم سينجزونها في العراق، إلى مفاجأة الصدمة الثقافية لشعب بعيد ومختلف كلياً.. الصحراء الممتدة بلا حدث، ولا يجري يومياً إلا ممارسة "العادة السرية" والانتظار، حتى يقود الملل المجموعة في آخر الفيلم إلى إطلاق النار في الهواء، على الصحراء والريح، في إشارة إلى شعور العدم القابع في يوميات الحرب.

"لا أريد الذهاب في الخنادق بعد الآن

حيث أزيز وشظايا صفير وزئير.

خذني فوق البحر، حيث لا يستطيع الرجل الوصول إلي؛

يا إلهي، لا أريد أن أموت، أريد العودة إلى المنزل".

 

فيلم جارهيد

الموت المتأرجح بين الهزل والمصير:

في (الرصاصة التي كانت تلطخ الشرفة بالدم): "مع ان التدريب على الجاهزية القتالية كان أمراً مدرجاً في برنامج دورتنا، إلا أننا كنا نشعر عندما تنطلق صافرة الضابط المناوب معلنة حالة الاستنفار، أن الضابط الذي يشعر بالملل بسبب عدم ذهاب إلى البيت، لديه رغبة في التسلية من أجل طرد الملل، أكثر من رغبته في اختبار جاهزيتنا القتالية".

لكن القصة تداخل تالياً بين التسلية والواقع، فالتدريب الذي يبدأ بالرصاص الحي، ويعتقد المجندون أنه ليس إلا حدثاً ناتجاً عن رغبة الضابط بالتسلية، يصبح خطيراً، قاتلاً، ومدمراً، فتتداخل في القصة مسحة التسلية والمزاح، مع واقع الخوف أو واقع الإصابة أو الموت. هذا التجاور الخاص بالحرب، بين الهزلي وبين الرهيب، تركز عليه كلمات أغاني واحد من أبرز الأفلام التي تناولت موضوعة الحرب، وخصوصاً تحليل الأغاني التحريضية، والحماسية، والخطاب العسكري. يحمل الفيلم اسم (آه، يا لها من حرب جميلة،Oh What a lovely war، 1969).

التطوع أشبه بشجاعة الصعود على الخشبة

يحلل الفيلم الخطاب الفني الذي يحول الشبان من لاعبين في مدينة الملاهي والتصويب على الدلفين المتحرك، إلى مقاتلين وبعدها مقتولين في الحرب، ويتم إغراءهم بالبطولة والمجد والقيمة في نظر المجتمع وجاذبية الفتيات، يبين الفيلم في أحد المشاهد كيف استغلت العروض المسرحية والإستعراضية، لخلق العوالم النفسية، الفنية والجمعية التي تشجع الشبان على التجند، وبلقطة رمزية يصعد الشبان المنتشين بهتاف الجمهور ورقصات العارضات التي تدمج الإغراء بالإستلاب، يصعد الشاب إلى المسرح، لكنه في الحقيقة يكون قد صعد إلى الحرب. تلك الاحتفالات الاستعراضية كانت مصممة لتوحي للشبان أن التوجه إلى الحرب كما الصعود إلى خشبة المسرح، تتطلب بعضاً من الشجاعة والهزل.

كذلك في قصة (بروفا) يقود الملل ثلاثة مجندين للانخراط في مهمة وهمية، وبالأدق ابتكروها والتزموا بها لأجل التحدي والخروج من الرتابة، لكنها وكما في سابقتها، ينقلب اللعب أذىً وإصابات وموت: "نعت حركتنا الشهداء الثلاثة وأصدرت بياناً تبني فيه العملية، ذكرتا فيه أنهما دمرتا دورية استطلاع للعدو، أما أنا وبعد أن تمكن الأطباء من جعل جسدي يحتفظ بساقي التي كانت شبه مبتورة، فقد أرسلتني الحركة إلى هذه الدولة الأجنبية لمتابعة العلاج".

هذه المفارقة بين الإنجاز العسكري وبين خسارات الفرد تحضر دوماً في فنون نقد الحرب.

"إذا كنتم تريدون الكتيبة القديمة نعرف أين هم

إنهم معلقون على الأسلاك الشائكة القديمة

لقد رأيناهم وكذلك أنتم رأيتوهم

معلقون على الأسلاك الشائكة القديمة".

تتناول قصة (رصاصة واحدة فقط لا غير) البيروقراطية في الحياة العسكرية، فالمجند مصطفى الحجّال يطلق النار على قدمه لكي يحصل على إجازة، وينقل إلى المستشفى ويرسل إلى السجن بعدها، لكن التركيز الإدراي العسكري ينصب على الطلقة الوحيدة المفقودة، التي يرفض كل الإداريين تسلم الذخيرة ناقصة طقلة واحدة لتكتب الملفات والملفات على الطلقة الناقصة. أما القصة الأخيرة بعنوان (مازلت على قيد الحياة) فهي تدين حجم الموت والخسارة في الأرواح التي تمتد لتشمل مجتمعاً كاملاً. يصل إلى هاتف الراوي رسالة تقول: "مازلت على قيد الحياة"، وليبدأ الرواي في رحلة البحث عن المرسل: "اتصلت بأصدقائي واحداً بعد آخر دون نتيحة. بدأ ينبعث من الهاتف عواء ذئب جريح أخذ يتعالى حتى ملأ فضاء غرفتي، وفي المدينة التي تحولت إلى أطلال كان يخيم صمت رهيب يقطعه بين الحين والآخر رنين هواتف نقالة ليس هنالك أحد من أصحابها على قيد الحياة ليرد على المتصل البعيد".

"وعندما يسألوننا، وهم بالتأكيد سيسألوننا

سبب عدم فوزنا بميدالية الفرسان

أوه ، لن نخبرهم أبدًا، أوه، لن نخبرهم أبدًا

كانت هناك جبهة، لكنها ملعونه إذا عرفنا أين".


*- المقاطع الغنائية من فيلم "آه، يا لها من حرب جميلة"