احتجاجات السويداء وغياب الفعل السياسي

2024.02.06 | 07:03 دمشق

السويداء
+A
حجم الخط
-A

من الصعب أن نجد في السويداء كأقلية دينية أو مذهبية الاختلاف الحاصل في الإسلام بين ما يعرف بتيار معتدل أو متشدد، ويعود ذلك الى أن المذهب نفسه قد تأسّس على خلفية الاختلاف التاريخي العميق الذي ضرب الأمة الإسلامية بعيد وفاة الرسول العربي الكريم (صلى الله عليه وسلّم).

واستمر مداً وجزراً واعتدالاً وتطرفاً وغياباً وحضوراً طوال عقود وما يزال مستمراً يأخذ الاختلاف فيه كل مأخذ، ويؤجج بكل مرحلة لنوع من الصراع قد يكون سببه استلهام الدين نظرية لحزب أو طريقة لحكم، ومرات قد يلجأ الٱخر، مستعمراً كان أو متدخلاً، لاستغلال الدين أحياناً في حالة الاتفاق على أساسه أو العكس على اعتباره سببا للاحتراب.

وفي الراهن، كان للسياسة في الدين شأن عبر أحزاب متعددة وما زال، فالبعض يرى أن الدين هو حل ومن الثوابت، نظراً لسماويته، وبين مريد ورافض، كانت سجالات وصراعات تخللها العنف.

على هذا الوقع الغالب، عمل الفكر القومي المتأثر بالنظريات القومية والثورات القومية، وليس مهماً هنا أن أستعرض قضية نقد الفكر القومي والذي أنتج ظاهرة حكم العسكر، وعجز تماماً عن إنجاز أي خطوة نحو الأمة العربية..

وفي الوطن العربي، المسلم في الأغلبية، كانت السياسة لا تخرج من ملعب التراث والدين، ولم تجد الجهات أي صعوبة في إيجاد أسانيد داعمة لنظرياتها، وعلى تنوع وتعدد الطيف الإسلامي.

وعلى هذا الوقع الغالب، عمل الفكر القومي المتأثر بالنظريات القومية والثورات القومية، وليس مهماً هنا أن أستعرض قضية نقد الفكر القومي والذي أنتج ظاهرة حكم العسكر، وعجز تماماً عن إنجاز أي خطوة نحو الأمة العربية، بل حمّلته الأجيال، إلى جانب عدم أصالة النظرية، انكساراتها الكبرى في حروبها من أجل فلسطين، وفي عجزها عن تحقيق أي نصر متعلق بالوحدة كما كانت تروم.

ومن ثم حول هذا الفكر أحزابه إلى أداه لطغاة من نوع جديد أسسوا لحكم أمني وضربوا عرض الحائط أي محاولة لتطوير اقتصادي أو تعليمي أو سياسي، وتوالت النكبات مجتمعة من كل نوع وعلى كل صعيد، وما زلنا نعيش الانفجار الجماهيري الكبير ضد هذه المرحلة والتي لم تحط بعد أوزارها، وتستمر في تفاعلاتها وارتدادتها حتى باتت البلاد في حالة سيولة، إن صح التعبير، سيولة طوفانية تسد الأفق وتجعل الأرض زلقة بوحول المذهبية والإثنية، وتجلى هذا الوضع في سوريا كأوضح ما يكون، سوريا الممر التاريخي والممر الجغرافي لكل العبورات من تيارات فكرية واحتلالات ومستقرات لأقليات مهجرة على إثر حروب دينية أو عرقية.

وقد قدّمتُ كل ذلك لأصل إلى الأقلية الدرزية المستقرة في جنوبي سوريا وبعض مناطق العاصمة دمشق، الأقلية التي انحدرت كما أسلفت من رحم الشقاق بين الشيعة والسنة، والتي أتت مثقلة بتاريخ فيه كل ما للعرب من مجد وهزيمة وصعود ونكوص، وفي بعدها  القريب من الجذور بل في الجذر،  كانت العروبة قد تقدمت في أولوياتها حتى بدت تشبه حالة متطرفة.

مذهبياً هي طائفة لم تتطرف فهي تعي أنها أقلية وأنها ليست ذات استراتيجيات تخص السلطة والحكم، ولا تبشر بعقيدتها وليس دينها فرضاً، وهذا ما جعل التيارات والأحزاب المتنوعة نسبياً أكثر قبولاً ونظرياً، تكون التعددية دليل خصوبة وقد تكون عامل بعثرة وتشتت.

فالساحة التي شهدت وتشهد وقفات مستمرة منذ أشهر، ما زالت تتكىء على صناعة الاستمضاء عبر استحضار التاريخ مرات ومحاولة استيلاده، ومرات يذهب الأمر إلى حد اعتبار الانتماءات الضيقة خطوط البصمة الهوياتية.

ما زالت الساحة تفيض بالأهازيج والشكوك والتخوين، وبدأت تظهر بحالة استنفار مزدوج، استنفار داخلي بسبب تكاثر المبادرات غير الصحية والاختلاف على الخطوط العامة والخطة والهدف، واستنفار ضد أجهزة الأمن التي تسعى بكل قوتها للقيام بإجراءات تعسفية أقلها الفصل من العمل وليس ذروتها المنع من السفر والاستدعاءات الأمنية.

ومن الجدير بالذكر، أن المكوّن المسيحي في الجبل لم ينضم للساحة، ولا أستطيع التكهن بالأسباب، وبالرجوع إلى ممارسة النشاط المدني عبر المبادارات، أيضا كانت المشاركة شبه منعدمة  وقد يكون السبب شعور الأقلية المسيحية بغبن ما، أو تقصير معين اتجاهها من الأغلبية في المحافظة، رغم أن الكنيسة قامت بنشاطات متعلقة بالدعم المادي والمعنوي للفقراء في المحافظة، بينما شارك المكون العشائري وأكد حضوره عبر الإعلان عن وحدة الهدف والمصير.

ونافلة القول إنّ الفعل السياسي تأخّر جداً، واليوم التالي للهتافات والشعارات والبيانات لم يأت بشيء مختلف، وتتنازع اليوم الساحة قوة الشائعة مع حيرة في مقاربة ملف المخدرات وانتشار السلاح والانفلات الأمني، وما يزيد الأمر تفاقما دخول الأردن في المعترك السوري وبصورة مخالفة للأعراف الدولية وبتجاوز للاتفاقات الثنائية والتراتبية في التوجه والتعامل.

يأتي غياب الفعل السياسي ليشطر الساحة إلى ساحات، فلا جسم سياسي تبلور، ولا حتى طرح أولي لفكر جامع قد ظهر، والخوف كل الخوف أن يراهن الجميع على بعض الرؤى الشبحية التي تعد فيها الهتافات دون الحفر الدؤوب في أرض الواقع بمستقبل واعد..

وتذهب الأمور مع حرب غزة إلى توقعات مفتوحة على كل الاحتمالات، ولكن ليس من بينها أي احتمال للتقدم خطوة خارج زنزانة الخلاف العقائدي وتعقد المشهد المحلي والإقليمي والعالمي.

يأتي غياب الفعل السياسي ليشطر الساحة إلى ساحات، فلا جسم سياسي تبلور، ولا حتى طرح أولي لفكر جامع قد ظهر، والخوف كل الخوف أن يراهن الجميع على بعض الرؤى الشبحية التي تعد فيها الهتافات دون الحفر الدؤوب في أرض الواقع بمستقبل واعد، بينما تمضي المشاريع الإقليمية والعالمية والمحلية في تجاوز الثورة عبر السياسة، التي لم تدخل بعد كعلم في الفكر الجمعي الثائر وكأن التماس مع السياسة هو خيانة، بل فعلاً ينظر له كخيانة وتستمر الحالة الشعبوية معتقدة أن برغبتها المحضة ستحقق مشروعها السوري الحر.