إيران وترجمة مصير الشيوعية والنازية

2020.05.21 | 00:05 دمشق

ayraaan.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا ترتكز معادلة الانتصار والخسارة بين الدول والأمم، على القدرة التسلحية وقوتها. تثبت التجارب التاريخية أن الصواريخ والرؤوس النووية، لا تنتج انتصارات للأمم والمجتمعات. ما يبقى من الانتصارات العسكرية، طوابع في الذاكرة حول معادلة القوة والتحفيز المجتمعي، وهي الحالة النفسانية التي تحتاجها الشعوب لاستشعار قوتها واستمراريتها المسنودة إلى هذه القوة. عاشت جموع العرب على الانتصارات العسكرية الوهمية. منهم من يستذكر أحمد سعيد وإسقاط المقاتلات الإسرائيلية، وآخرون يستذكرون محمد سعيد الصحاف بعبارة العلوج. واليوم تحضر عبارات من الحرس الثوري الإيراني حول السيطرة على 4 دول عربية، وسحق إسرائيل بسبع دقائق، ومقارعة الولايات المتحدة الأميركية وإسقاط نموذجها ونظامها الرأسمالي.

شعارات بمضمون تافه، أكثر ما تستهدفه زرع القوة الوهمية في نفوس الشعوب المتعطشة إلى "انتصار" بعد فراغ وغبن. فتنتشي بمثل هذه الانتصارات الوهمية لأنها لا تتعلق بغير هذا الوهم. وهنا تصبح العلاقة السياسية طردية بين الواهم والموهوم. ولدى العالم في الذاكرة مثالاً مماثلاً هو الكلمة الشهيرة لزعيم الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين، عندما سأل عن عدد الدبابات والصواريخ التي يمتلكها الفاتيكان. قال ستالين كلمته هازئاً من الدور الريادي الذي اضطلع به البابا يوحنا بولس الثاني.

ارتكز البابا على معركة الفكرة، الثقافة البعيدة عن الدوغمائيات الديماغوجية، بينما بقي ستالين أسير فكرة التعجرف وادعاء القوة. ولا داعي للخوض في الأدوار الهائلة التي لعبها الفاتيكان في فترة الثمانينيات وكان لها الأثر الكبير في هزيمة السوفييت وإسقاط الاتحاد السوفييتي من الناحية الثقافية على الأقل، بموازاة المعارك الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي خيضت ضد الاتحاد، من قبل المعسكر المضاد.

تشهد المجتمعات البشرية حالات تشابه تاريخية، فيندفعون إلى خلاصة "التاريخ يعيد نفسه"، كما تشهد المجتمعات السياسية حالات تشابه عابرة للحدود بين التنظيمات أو التوجهات السياسية التي تتغطى في مراحل معينة، وتصبح نموذجاً يتعمم في أكثر من دولة، ضمن سياق العدوى السياسية الاجتماعية. فمثلاً التشابه السائد حالياً على الساحة العالمية من خلال بروز رئاسيات متعصبة أو يمينية أو منغلقة، في دول كثيرة، كدونالد ترامب، في الولايات المتحدة الأميركية، وبوريس جونسون في المملكة المتحدة، وتنامي قوى اليمين في كل أوروبا وصولاً إلى آسيا، وحتى الشرق الأوسط، وهذه النماذج اليمينية غالباً ما تأتي كنتاج للتفاهة السياسية، وتسهم بإرسائها أكثر، إلى أن تأتي أحداث كبرى تفرض النهضة الاجتماعية والثقافية وتطيح بحالات الركود والانحطاط.

حالات التشابه الدولتية العالمية تجلت في أكثر أيامها بعيد ولادة الثنائية الريغنية التاتشرية، بعد ولادة ثنائية فاشية نازية بين هتلر وموسوليني

حالات التشابه الدولتية العالمية، تجلت في أكثر أيامها بعيد ولادة الثنائية الريغنية التاتشرية، بعد ولادة ثنائية فاشية نازية بين هتلر وموسوليني. أرست الثنائية الريغنية التاتشرية الانتصار الساحق على الشيوعية وكرست الحدّ من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، وتقليص النفقات الاجتماعية، والتخفيف من تأثير وفعالية النقابات. ولكنها أدت إلى إرساء نموذج من اللامبالاة الفكرية والثقافية والسياسية لدى الشرائح الاجتماعية، وهذا الفعل التراكمي أوصل إلى هذه التفاهة التي أصبحت راسخة اليوم.

تنتج هذه التفاهة، حالات شخصانية تنعكس في دول العالم الثالث بالتحديد، عبر التعلق بالأشخاص وتكريسهم كرسل أو أنبياء أو قادة مخلصين، وهذا أكثر ما ارتكزت عليه الثورة الإسلامية الإيرانية ولا تزال، من خلال صناعة الأيقونات الأسطورية. وهنا لا بد من العودة إلى سنة انتصار الثورة الإسلامية في إيران، والتي أدت إلى تأثيرات كثيرة، في دول متعددة أبرزها المملكة العربية السعودية عبر حادثة اقتحام الحرم من قبل جهيمان العتيبي، وما أدى ذلك إلى زيادة منسوب التطرف داخل السعودية من خلال قرارات اتخذتها قيادة المملكة.

تزامنت الثورة الإيرانية مع متغيرات دولية بتوجهات متناقضة. فقد كانت الصين تشهد ثورة محافظة أيضاً، في أواخر العام 1978، والتي قادها دينغ شياو بينغ، والذي سعى إلى الانقلاب على ما كرسه ماو تسي تونغ، والعودة إلى التقليد الصيني المحافظ. ولكن في المقابل، كانت روما تشهد حدثاً تاريخياً وهو مجي البابا يوحنا بولس الثاني إلى رأس الكنيسة الكاثوليكية، والذي كان ثورة مقابلة على ثورات الانغلاق والمحافظة، فدعا في رسالته إلى عدم الخوف، وفتح حدود الدول، وتحرير الأنظمة السياسية والاقتصادية والعبور إلى الرحاب الثقافية والحضارية والتنموية. كانت هذه انقلابات متقابلة شهدها العالم خلال أشهر قليلة. انقلابات محافظة في مكان، وأخرى متحررة في مكان آخر.

انتخاب البابا البولندي، في زمن كانت فيه بولندا خاضعة لسيطرة السوفييت، مثّل مفارقة لافتة على الصعيد العالمي، تزامنت مع بروز نجم مفكر بولندي أيضاً كمستشار للأمن القومي الأميركي وهو زبيغنيو بريجنسكي المناهض الشهير للشيوعية، فجاءت هزيمة الاتحاد السوفييتي بعد عشر سنوات على تناشيه بانتصارات متعددة، بدأت مع هزيمة الولايات المتحدة الأميركية في حرب فييتنام والتي عدّها السوفييت انتصاراً لهم، تلاها موجة اختراقات حققوها في عدد من الدول بجنوب أفريقيا. فظهر الاتحاد السوفييتي في حالة توسعية جديدة، واختراق حصون أميركية جديدة، ما بين العامين 1975 و1979. وما هي إلا عشر سنوات حتى انهار القطب الشيوعي.

اليوم تعيش إيران وحلفاؤها نشوة انتصارات مماثلة للانتصارات التي عاشها السوفييت في أواخر السبعينيات، وتتباهى طهران بإذابة الحدود وتصدير ثورتها إلى الدول العربية، بعد تدمير دولها وتشتيت مجتمعاتها وتهجيرها، ما يؤدي إلى خلق صراع هويات بين أبناء هذه الدول، فهل الإيرانيون ينتمون إلى الحضارة الفارسية أم إلى الثورة الإسلامية؟ وهل السوريون ينتمون إلى سوريا أم إلى آل الأسد، وهل العراقيون عرباً أم شيعة، وفرق أخرى من حولهم، وفي لبنان صراع الهوية مشهود بين اللبنانية واللبنانوية، بين المشرقية والعربية أو الغربية، بين المسيحيين والشيعة والسنة والدروز. كل ذلك يشكل تبريراً لمشروع صفقة القرن التهجيري والتقسيمي والتشتيتي والذي يقوم على مبدأ تغذية الغرائزيات.

كل ما حققته إيران لا يمكن له أن يكون انتصاراً، وصحيح أن التاريخ ليس قاضياً عادلاً إنما حكماً يحكم لمن كان أقوى، إلا أن دورته لا تتوقف، ولا يمكن معاكستها، لأنه عندما تتعارض الإيديولوجيا مع المصالح، ستغلب المصالح في النهاية، وأمام الإيرانيين تجربة تاريخية ماثلة، هي تقاطع المصالح بين البريطانيين والأميركيين والسيوفييت على هزيمة النازية، وبعدها بسنوات جاءت هزيمة السوفييت المدوية.

كلمات مفتاحية