icon
التغطية الحية

إيران تستغل حرب غزة في شرقي سوريا

2024.05.14 | 15:04 دمشق

دبابتان أميركيتان في أحد الشوارع بشمال شرقي سوريا
دبابتان أميركيتان في أحد الشوارع بشمال شرقي سوريا
International Crisis Group - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

قالت مجموعة الأزمات الدولية إن إيران تدفع الميليشيات التابعة لها لإضعاف "قوات سوريا الديمقراطية - قسد" المتحالفة مع واشنطن، من خلال تصويرها كقوة احتلال في المناطق ذات الأغلبية العربية، ضمن استراتيجية تهدف إلى حشد الجماعات المحلية ضد قسد وتنفيذ هجمات ضدها.

في 18 أكتوبر 2023، تعرضت القواعد الأميركية في التنف وحقل كونكو للغاز لهجمات بالطائرات المسيرة والصواريخ. حينها أعلنت "المقاومة الإسلامية في العراق"، وهي تحالف لجماعات مسلحة متحالفة مع إيران، مسؤوليتها عن هذه الهجمات. تأتي هذه الهجمات في سياق التصعيد المستمر منذ حرب غزة، حيث استهدفت الولايات المتحدة الجماعات المسلحة المدعومة من إيران في سوريا والعراق.

تحول في التركيز

تعتبر الهجمات على قاعدة البرج 22 في الأردن نقطة تحول. فضلّت إيران وحلفاؤها تقليل حدة الهجمات المباشرة على القوات الأميركية لتجنب تصعيد أكبر قد يهدد مصالحهم طويلة الأمد. وبدلاً من ذلك، ركزت الجماعات المدعومة من إيران على حشد الميليشيات العربية ضد "قسد" في شرقي سوريا، مما يعزز نفوذها في هذه المناطق.

وكشفت مصادر أمنية مطلعة يوم أمس لموقع تلفزيون سوريا أن إيران بدأت تطبيق استراتيجية جديدة منذ مطلع العام الحالي للحفاظ على نفوذها في العراق وسوريا، إذ تقوم على المزاوجة بين التفاوض والتصعيد ضد القوات الأميركية في المنطقة.

وعلم موقع تلفزيون سوريا من مصادر أمنية مطلعة أن طهران اتجهت للنهج الجديد تحاشياً للإمعان في استفزاز واشنطن، بعد أن وصل التوتر إلى ذروته عقب استهداف فصائل تتبع للحشد الشعبي المدعوم إيرانياً لقاعدة أميركية تدعى بالبرج 22 داخل الأراضي الأردنية في كانون الثاني/ يناير من العام الجاري.

النهج الإيراني الجديد في العراق وسوريا

بحسب ما علمه موقع تلفزيون سوريا من مصادر دبلوماسية عراقية، فإن طهران تدعم خيار التهدئة في العراق وإفساح المجال أمام مسار تفاوضي تخوضه الحكومة العراقية مع الجانب الأميركي.

وترى طهران أنه يمكن للحكومة العراقية الحالية الحصول على تعهد من الجانب الأميركي بالانسحاب من الأراضي العراقية خلال فترة محددة، وتعتقد أن المباحثات الدبلوماسية هي الحل الأنسب، وأفضل من التصعيد العسكري الذي قد يدفع واشنطن لردود فعل تضر بالنفوذ الإيراني على الأراضي العراقية.

أفادت مصادر ضمن العشائر السورية الموجودة شمال شرقي سوريا، بأن إيران تعمل أيضا على اللعب بورقة العشائر ضد قوات قسد والقوات الأميركية المنتشرة في المنطقة.

وتعتمد إيران بشكل أساسي على لواء الباقر المؤلف من أفراد منتمين لقبيلة البقارة، إلى جانب جيش العشائر الذي تأسس مؤخراً بقيادة إبراهيم الهفل المنتمي لعشيرة العكيدات، بالإضافة إلى فصيل أسود العكيدات، وحركة أبناء الجزيرة والفرات، وسرايا البوشعبان.

الأهداف الاستراتيجية الإيرانية

وبحسب مجموعة الأزمات الدولية، تسعى إيران لتحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية رئيسية من خلال هجماتها:

  1. رفع التكلفة السياسية والاستراتيجية على واشنطن: تهدف إيران إلى تقليص الوجود الأميركي في العراق وسوريا عن طريق إنهاك القوات الأميركية ودفع السياسيين الأميركيين للمطالبة بسحبها.

  2. توسيع نفوذها في شرقي سوريا: تستخدم إيران هذه المنطقة كبوابة لنقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان. الانسحاب الأميركي من قاعدة التنف سيزيل عقبة كبيرة أمام توسع النفوذ الإيراني.

  3. إعادة تأهيل حكومة النظام السوري: من خلال تقويض استقرار قسد، تسعى إيران إلى تعزيز قدرة النظام السوري على استعادة المناطق الغنية بالموارد في شرقي سوريا.

تحديات قسد والتوترات الإقليمية

تواجه قسد ضغوطاً متزايدة من الميليشيات المدعومة من إيران، بالإضافة إلى تهديد تركيا التي تعتبر "قسد" جناحاً مسلحاً لحزب العمال الكردستاني. استهدفت تركيا البنية التحتية في مناطق سيطرة "قسد"، مما أدى إلى تدمير شبكات المياه والكهرباء وتعطيل إنتاج النفط والغاز.

التوترات المستقبلية وآفاق الحل

قد يسهم وقف إطلاق النار في غزة في تهدئة التوترات في شرقي سوريا، ويخفف من الزخم المعادي للولايات المتحدة. يمكن لهدنة في غزة تحسين مناخ المفاوضات بشأن الوجود الأميركي في العراق وسوريا. لكن يجب على واشنطن التركيز على تحسين علاقة قسد مع المجتمعات العربية المحلية لتقليل التوترات.

التصعيد المستمر بين الولايات المتحدة وإيران في سوريا والعراق يعكس تعقيدات الصراع الإقليمي وتأثيراته المتعددة. التوترات بين القوات الأميركية والجماعات المسلحة المدعومة من إيران تهدد بزيادة التصعيد. لذلك تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية شاملة للتعامل مع هذه التحديات، بما في ذلك تعزيز علاقاتها مع الحلفاء المحليين وتحسين الظروف المعيشية للمجتمعات المتضررة لتجنب المزيد من التصعيد.

فيما يلي ترجمة الورقة المنشورة في مجموعات الأزمات الدولية بدون تحرير:

في ظل الحرب القائمة في غزة، صعدت الجماعات المسلحة التابعة لإيران من حملتها الساعية لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق وسوريا، وبعد تصعيد سلسلة من الهجمات المباشرة على قواعد أميركية في جنوب شرقي سوريا، شنت الولايات المتحدة غارات جوية انتقامية، وهذا ما جعل إيران تركز انتباهها على إضعاف القبضة المهلهلة بالأصل لقوات سوريا الديمقراطية ذات الإدارة الكردية والتي تحالفت مع واشنطن على الأراضي الواقعة حول نهر الفرات، إذ عبر تصوير قسد على أنها جيش احتلال تحالف مع جهة أجنبية في منطقة أغلب سكانها مع العشائر العربية، تمكنت إيران من حشد الجماعات المحلية ودفعها لتنفيذ هجمات بحق تلك القوات المدعومة أميركياً. وفي الوقت الذي تبدو فيه كل من إيران والولايات المتحدة راغبتين بتجنب تصعيد أكبر للنزاع الإقليمي، من المرجح للوضع في شرقي سوريا أن يبقى متقلباً، إلى أن تصل إسرائيل وحماس إلى هدنة لوقف إطلاق النار في غزة على أقل تقدير. وفي هذه الأثناء، يدفع الضغط لإنهاء هذا النزاع قسد إلى بناء جسور مع المجتمعات السورية المنبوذة، باعتبار ذلك طريقة تفتح أمام واشنطن الباب لنزع فتيل التوتر في المنطقة.

توقف دوامة التصعيد

في 18 تشرين الأول 2023، بعد مرور يوم واحد على مقتل مئات الناس في المشفى العربي الأهلي بغزة في انفجار عزا فيه معظم الإعلام العربي باللائمة على إسرائيل، لتنكر الأخيرة مسؤوليتها عن ذلك، استهدفت قواعد عسكرية أميركية في التنف وحقل كونكو للغاز بمسيرات وصواريخ، وتلك القواعد تقع في شرقي سوريا. ثم أعلنت المقاومة الإسلامية في العراق وهي عبارة عن تحالف لتشكيلات متحالفة مع إيران تضم كتائب حزب الله وحركة النجباء وكتائب سيد الشهداء مسؤوليتها عن تلك الهجمات التي وصفتها بأنها بمنزلة "انتقام لأجل غزة".

في عام 2014، احتشد قسم من الحشد الشعبي، وهو تجمع يضم ميليشيات عراقية، لمحاربة تنظيم الدولة، ثم جرى دمجهم ضمن جهاز الأمن العراقي في عام 2016، وأصبحت تلك الجماعات المسلحة تعمل في سوريا اليوم. وبالعمل خارج هيكلية الدولة العراقية بدعم من الحرس الثوري الإيراني، تمركز هؤلاء في المناطق التي يسيطر عليها النظام غربي نهر الفرات إلى جانب غيرهم من الجماعات المتحالفة مع إيران. ولمدة عام تقريباً، وحتى بداية الحرب على غزة في 18 تشرين الأول الماضي، لم تضرب تلك الميليشيات الجنود الأميركيين، بل التزمت من جانبها بوقف إطلاق النار الذي أعلنت عنه تأييداً لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني التي تشكلت حديثاً. وكانت الغارات التي شنت في تشرين الأول أولى الغارات من بين 150 غارة استهدفت بها تلك الجماعات الأصول الأميركية في سوريا والعراق بنهاية شهر كانون الثاني من هذا العام.

تصدت نظم الدفاع الجوي في القواعد الأميركية لكل الغارات تقريباً، والتي أسفرت عن إصابات لم تصل حد الوفاة بين القوات الأميركية. ثم أتى الانتقام بطيئاً، ولكن في شهر تشرين الثاني وكانون الأول، بدأت الولايات المتحدة باستهداف تلك الجماعات المسلحة في مدن عراقية بالقرب من المرافق الحكومية. ومما زاد حدة التوتر الغارات التي استهدفت الجماعات المدعومة إيرانياً في شرقي سوريا، ومقتل قائد رفيع لدى الحرس الثوري في دمشق في أواخر شهر تشرين الأول الماضي، والتي لم تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنها على الرغم من أنها نسبت إليها.

ثم حدث ما هو أسوأ بالنسبة للقوات الأميركية في المنطقة، وذلك عندما أسفر هجوم بمسيرة عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين وجرح 40 آخرين في 28 كانون الأول من عام 2024 وذلك على قاعدة البرج 22 في الأردن بالقرب من منطقة الركبان التي توفر الدعم للعمليات العسكرية الأميركية عبر الحدود مع سوريا، ولقد أعلنت المقاومة الإسلامية في العراق مسؤوليتها عن الهجوم، في حين صرح مسؤولون أميركيون بأن نظام الدفاع الجوي في القاعدة اعتقد بأن المسيرة الآتية ما هي إلا مسيرة أميركية قفلت عائدة بعد مهمة، ولهذا لم يعترضها. وبما أن هذا الهجوم كان الأول من نوعه لجماعات مدعومة إيرانياً على القوات الأميركية في الأردن التي لم تتعرض طوال فترة طويلة للعنف الدائر على الساحتين السورية والعراقية بسبب النزاع هناك، تحولت الغارة بحد ذاتها إلى استفزاز صريح. وزعمت مصادر لدى الجماعة بأنها لم تتوقع مقتل جنود أميركيين في قاعدة البرج 22، لأنها توقعت للدفاعات الجوية فيها أن تسقط المسيرة، كما حدث في المرات السابقة. ولكن بعد حصد أرواح جنود أميركيين، حتى لو لم تكن تلك هي النتيجة المتوقعة، كان الهجوم قد اجتاز عتبة جعلت من الرد الأميركي القاسي مجرد نتيجة مفروغ منها.

كانت الجماعات المسلحة التابعة لإيران تعرف تماماً بأنها تجاوزت حدودها، ولهذا أخلت على الفور قواعدها في شرقي سوريا وغربي العراق. كما وردت أنباء عن وصول إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري إلى بغداد في غضون ساعات ليطلب من الجماعات العراقية خفض التصعيد، بعدما أقلقه احتمال الرد الأميركي على إيران مباشرة. وفي الثلاثين من كانون الثاني، أصدرت كتائب حزب الله بياناً أعلنت من خلاله عن تعليق هجماتها على القوات الأميركية. في حين تعهدت جماعات أخرى مثل حركة النجباء بمواصلة حملتها، لكنها حدت من هجماتها بنسبة كبيرة.

في أول رد ظهر في 3 شباط، هاجمت الولايات المتحدة 85 موقعاً في سوريا والعراق، أي كان أمام قادة الحرس الثوري وقوات الميليشيات المتحالفة معها أسبوعاً تقريباً حتى تخلي مقارها، لذا فإن معظم مستودعات الذخائر والأسلحة التي ضربتها الولايات المتحدة كانت خاوية، بيد أن عدد من قتلوا في تلك الغارات وصل إلى 51، ومن بين القتلى الـ34 في سوريا، هنالك جنود سوريون ولبنانيون وعراقيون وأفغان وباكستانيون تابعون لجماعات مرتبطة بإيران. وقد أسفرت الغارات في العراق عن مقتل 16 مقاتلاً من الحشد الشعبي، إلى جانب مقتل مدني واحد. وفي الرد الأميركي الثاني في السابع من شباط، ضربت مسيرة أميركية بغداد فقتلت قائداً رفيعاً لدى كتائب حزب الله، وهو أبو باقر الساعدي. وعقب هاتين الغارتين الانتقاميتين، واصلت الجماعات المسلحة العراقية مضايقتها للنقاط الأميركية في سوريا، على الرغم من ضعف تواتر تلك المضايقات بما أن أنظار الميليشيات أصبحت تتوجه نحو القواعد القريبة من حقول النفط والغاز في الشرق. وفي 25 شباط، أعلنت حركة النجباء عن تعليق مؤقت للأعمال العدائية ضد القوات الأميركية، وتعهدت بمواصلة الهجمات على الولايات المتحدة "حتى نهاية حرب غزة". وبعد توقف دام لثلاثين يوماً، استأنفت الجماعات العراقية غاراتها على القواعد الأميركية في شرقي سوريا ولكن بصورة متقطعة.

تحول في التركيز

يعتبر الهجوم على قاعدة البرج 22 نقطة تحول، إذ فضلت كل من إيران وحلفائها من العراقيين تخفيف شدة ونطاق الهجمات المباشرة على الجنود الأميركيين عقب ذلك الهجوم لتجنب تصعيد أكبر يهدد مصالحهم على المدى البعيد. في حين استمرت شحنات الأسلحة وتدفق المقاتلين على شرقي سوريا، ومنذ نهاية شهر كانون الثاني، غيرت الجماعات المدعومة إيرانياً تركيزها، فبدلاً من أن تهاجم الجيش الأميركي بمفرده، صارت تحشد ميليشيات العشائر العربية ضد قسد حتى تضعف تمسكها بالسلطة المحلية مع دعم مواقعها في شرقي سوريا. وقد انطوت تلك الاستراتيجية على تقسيم كبير للعمل، إذ صارت تلك الجماعات المدعومة إيرانياً والمؤلفة من مقاتلين من خارج سوريا تستهدف القواعد الأميركية، في حين صعدت ميليشيات العشائر العربية المتمركزة في مناطق سيطرة النظام والتي يدعمها الحرس الثوري وحكومة النظام السوري من هجماتها على قسد. وخلال شهري شباط وآذار، أطلقت تلك الميليشيات العشائرية قذائف صاروخية على مواقع لقسد على نهر الفرات، وحاولت أن تشن غارات على المناطق التي تسيطر عليها تلك الجماعة بوتيرة شبه يومية.

ولاستهداف قسد منطق استراتيجي جلي ألا وهو إبقاء النزاع ضمن حدوده المحلية، بما يشكل خطراً محدوداً يتمثل بالانتقام الأميركي (بعد هجوم بمسيرة نفذته جماعات عراقية بالقرب من قاعدة عسكرية قريبة من حقل العمر النفطي في الخامس من شباط، وقد أسفر هذا الهجوم عن مقتل سبعة جنود من قسد، بيد أن الولايات المتحدة أحجمت عن التصعيد). هذا وتعارض الميليشيات العربية حكم قسد الكردي على مساحات شاسعة من شرقي سوريا، كما لها فروع تمتد في عمق المناطق التي تسيطر عليها قسد، حيث يقول أقاربهم بأنهم يعانون تحت الحكم الكردي، ثم إن التشكيك في حكم قسد وعدم الوثوق به أمر شائع بين المجتمعات العربية في تلك المناطق، والتي تعتقد بأن تلك الجماعة تفضل الكرد في أي تعامل سياسي أو اقتصادي، كما يبدي العرب سخطهم على أساليب التجنيد الإجباري التي تمارسها قسد، وما زاد الطين بلة سماح قسد لحكومة النظام وإيران بترك أثر بالغ على تلك المجتمعات.

تصف الجماعات المدعومة إيرانياً وحكومة النظام قسد بجيش احتلال متحالف من قوة أجنبية، في محاولة لتعزيز عملية تجنيد المقاتلين بين العشائر، وقد أضاف الدعم الأميركي لإسرائيل في حرب غزة حافزاً آخر لحملة التجنيد، كما أن معظم العرب يقلقهم وضع إيران غير العربية، إذ يشكون بأن لديها نوايا لتغيير معتقد الأهالي، ومعظمهم من السنة، إلى المذهب الشيعي. ولكن في الوقت الراهن، حل الإحساس المشترك بالغضب بالتعاضد الإسلامي حيال ما يجري في غزة محل تلك الشكوك.

ركزت إيران في عمليات التجنيد على ناحية خشام الواقعة شرقي دير الزور، وهي المنطقة الوحيدة التي يسيطر عليها النظام في الضفة الشرقية لنهر الفرات. وعبر حشد ميليشيا موالية، يبدو بأن طهران تأمل بتأمين معبر للنهر لتسهيل عمليات التهريب والتسلل المربحة إلى مناطق سيطرة قسد بالقرب من حقل كونكو للغاز والقاعدة الأميركية الموجودة هناك. إذ في شهر تشرين الثاني، فتحت جماعات مدعومة إيرانياً مكاتب للتجنيد في هذه المنطقة، وقدمت رواتب شهرية تعادل 1.5 مليون ليرة سورية (ما يعادل 107 دولارات بسعر الصرف في السوق السوداء)، أي ما يعادل ضعفي المبلغ الذي تدفعه لمقاتلي الميليشيات المدعومة إيرانياً في مناطق أخرى بسوريا، وما يقترب من مبلغ مليوني ليرة (ما يعادل 143 دولاراً) والذي تعطيه قسد لمجنديها. هذا ويتلقى مقاتلو العشائر تدريبهم في قواعد الحرس الثوري في البوكمال والميادين، ويزودون بأسلحة خفيفة ومتوسطة بينها قاذفات القنابل الصاروخية والمدافع الرشاشة من نوع  DShK.

وثمة شيء آخر يزيد من معضلة قسد وهو وجود قوة إقليمية أخرى، وهي تركيا، التي عزمت على تدمير قسد، كونها تعتبرها الجناح المسلح لحزب العمال الكردستاني الذي صنفته تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأخرى على أنه تنظيم إرهابي، ولهذا استهدفت تركيا البنية التحتية الحساسة في مناطق سيطرة قسد بشمالي سوريا وشمال شرقي سوريا من خلال ثلاث حملات من القصف المكثف في شهر تشرين الأول وكانون الأول وكانون الثاني رداً على هجمات حزب العمال على الجيش التركي في شمالي العراق، فدمر القصف العنيف شبكات المياه والكهرباء وعطل إنتاج النفط والغاز، والذي يعتبر المصدر الرئيسي للدخل بالنسبة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والتي تسيطر عليها قسد. ويرجح كثير من الناس أن يتسبب أي غزو تركي شامل هدفه القضاء على قسد بموجة نزوح جماعي بين المدنيين، وخاصة بين الكرد السوريين.

الأهداف الاستراتيجية الإيرانية

في الوقت الذي اعتبرت فيه موجة هجمات الميليشيات المدعومة إيرانياً على القواعد الأميركية منذ تشرين الأول بمنزلة رد على حرب إسرائيل على غزة، يبدو بأن تلك الهجمات كان هدفها تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية يكمل بعضها الآخر لصالح طهران، أولها، رفع التكلفة السياسية والاستراتيجية التي تتكبدها واشنطن من جراء إبقائها لجنود أميركيين في العراق وسوريا، بما أن هذا الأمر يبرر رسمياً على أنه جزء من الحملة المستمرة على تنظيم الدولة، وبالتالي، فإن تلك الهجمات تخدم هدف إيران على المدى البعيد المتمثل في تقليص الوجود الأميركي في كلا البلدين، ولهذا تسعى إيران لتحقيق هذا الهدف عبر إنهاك القوات الأميركية، بما يدفع السياسيين الأميركيين للمطالبة بسحب القوات ورسم شكل الجدل الذي يحتدم داخل العراق.

لا شك أن تلك الهجمات بعيد وقوعها مباشرة كان لها أثر عكسي، إذ في أواسط شهر كانون الثاني، أرسلت الولايات المتحدة 1500 جندي إضافي إلى كلا البلدين لتعزيز الجنود البالغ عددهم 2500 والموجودين أصلاً في العراق والجنود الذين وصل عددهم إلى 900 والذين تمركزوا في سوريا. ولكن بمرور الوقت، يمكن لدورة العين بالعين التي تتسم بها الساحة العراقية والسورية أن تقوض الدعم الأميركي لأي عملية نشر جنود مستقبلية، حتى في الوقت الذي تمارس إيران حملتها بطريقة لا تعرضها أو تعرض حلفائها العراقيين لأي انتقام جدي. ويمكن للجدل السياسي في واشنطن أن يلعب دوراً مهماً في هذه الناحية، وذلك لأن أي ضرر آخر قد يلحق بالجنود الأميركيين في العراق وسوريا يمكن أن يتسبب بتفحص الكونغرس للسلطة القانونية المحلية والأساس المنطقي لاستمرار فرز هؤلاء الجنود، وهذا هو السيناريو الذي يرغب البيت الأبيض بتجنبه بكل وضوح، لا سيما خلال العام الذي ستجري فيه الانتخابات. إذ خلال فترة حكم دونالد ترامب، الذي أصبح اليوم المنافس الجمهوري لبايدن، أمر هذا الرجل بسحب الجنود الأميركيين من سوريا، ثم تراجع بصورة جزئية عن هذا القرار، ولذلك قد يستغل ترامب أي حادثة لمقتل جنود في سوريا حتى يوجه انتقاداته لسياسات إدارة بايدن في الشرق الأوسط، على الرغم من احتمال ظهور من يقف ضد موقفه هذا حتى من حزبه نفسه.

لكن الوسيلة الأساسية التي تستخدمها طهران لإجبار القوات الأميركية على الانسحاب تتمثل برسم شكل الجدل السياسي في العراق، فقد أحرجت الغارات المضادة الأميركية التي استهدفت الحشد الشعبي المتحالف مع إيران حكومة السوداني، بما أن تلك الميليشيا تحضع لقيادته اسمياً منذ أن أصبحت جزءاً من الهيكل الأمني العراقي. كما هددت بإفساد حالة التوازن الدقيقة التي خلقها رئيس الوزراء العراقي والذي حاول أن يسترضي الجماعات المسلحة عبر الدفع نحو جلاء أميركي سريع عن البلد في الوقت الذي أخذ فيه يعمل على تهدئة ناخبين آخرين، مثل الكرد والعرب السنة وبعض الشيعة الذين يخشون من تعاظم الوجود الإيراني في البلد في حال رحيل القوات الأميركية عنها فجأة.

وتحت ضغط الأحزاب المتحالفة مع إيران والتي تعتمد حكومة السوداني على دعمها وتأييدها، مضت الحكومة قدماً بمحاولاتها لإنهاء تفويض التحالف الذي تترأسه الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة في العراق، وتكثفت تلك الجهود عقب الهجمات الأميركية الانتقامية وتوسعها خارج نطاق الغارات التي تستهدف الجماعات المسلحة الموالية لإيران، إذ أصبحت تستهدف عناصر مقربة من الحكومة، فقد ضربت مسيرات أميركية مدينة الحلة في 26 كانون الأول وبغداد في 4 كانون الثاني، ما أسفر عن ضحايا ليس فقط بين عناصر تلك الجماعات، بل أيضاً ضمن قوات الحشد الشعبي وجهاز الشرطة. وهكذا دانت الحكومة التي بقيت حتى ذلك الحين تدافع عن الشراكة مع الولايات المتحدة، تلك الغارات لانتهاكها السيادة العراقية، وأطلقت محادثات مع إدارة بايدن لتتخلص تدريجياً من التحالف الدولي، ومن خلال تلك الجهود التي تسير ببطء، والتي لا يبدو بأن أي طرف يرغب بتسريعها أو إنجاحها، يمكن لها أن تقوض أيضاً الأساس القانوني الدولي لوجود القوات الأميركية في سوريا، بما أن التبرير الأساسي الأميركي للعمليات العسكرية هناك هو الدفاع عن العراق وحمايته من خطر تنظيم الدولة.

يتمثل الهدف الاستراتيجي الثاني لإيران بتوسيع نفوذها في شرقي سوريا، بما أنها تستخدم تلك المنطقة كبوابة على بلاد الشام، وتمرر عبرها السلاح إلى حزب الله في لبنان والذي تستخدمه كوسيلة لردع إسرائيل. وهدفها الرئيسي في هذا السياق هو الانسحاب الأميركي من التنف التي تقع على طريق دولي سريع رئيسي يربط بين العراق وسوريا، بما أن هذه القاعدة تمثل عقبة كبيرة أمام استعراض القوة الإيرانية. وفي الوقت الذي لم تعترض فيه قاعدة التنف تحركات الجنود والمعدات الإيرانية عبر سوريا، تحظر تلك القاعدة والـ55 كيلومتراً المحيطة بها في منطقة خفض التصعيد دخول أي عناصر مناوئة للولايات المتحدة، ولذلك تعيق قدرة إيران على إقامة وجود دائم يربط محاورها الاستراتيجية في شرقي سوريا بتلك المراكز الموجودة في جنوبي البلد.

أما الهدف الاستراتيجي الثالث لإيران فهو إعادة تأهيل حكومة النظام السوري، ولتحقيق تلك الغاية، تسعى إيران لتقويض استقرار حكم قسد في شمالي سوريا وشرقيها، كما أن استمالة العشائر العربية، وخاصة في المناطق التي تحتوي على أكبر احتياطيات النفط والغاز، قد يتيح لإيران إقامة قاعدة للدعم تمكن قوات النظام من استعادة تلك المنطقة في شرقي سوريا والتي تعتبر من أهم المناطق وأكبرها قيمة من دون أي قتال، وذلك في حال انسحاب أميركا منها.

وفي الوقت ذاته، كشفت آخر جولة للعنف في شرقي سوريا عن حدود ما يمكن لإيران فعله هناك، فقد سلطت الضوء على غياب قوة وكيلة محلية تتمتع بالقدرة تشبه حلفاء إيران في العراق ولبنان واليمن، وللتعويض عن هذا القصور، اعتمدت إيران على تقسيم العمل بين الجماعات الأجنبية والمحلية لتنفيذ أوامرها، بيد أن هذه المقاربة لم تحقق سوى نجاحاً جزئياً، فقد تمكنت إيران من حشد الميليشيات العربية في سوريا ضد قسد، بحيث عملت تلك الجماعات على تقويض سيطرة الإدارة الكردية وشرعيتها الضعيفة بالأصل في منطقة العشائر العربية الغنية بالموارد، حيث أنهكت قوات قسد بمناوشاتها عبر نهر الفرات، بيد أن تلك الميليشيات ماتزال تفتقر للبنية التحتية والتنظيم والعتاد، فضلاً عن عدم وجود حالة انحياز عقائدي بين تلك الميليشيات وإيران ولهذا لا أحد يرجح لها أن تصبح مرشحة لشراكة شاملة مثل تلك التي ينعم بها وكلاء إيران في مناطق أخرى.

وللضغط على الولايات المتحدة، ماتزال إيران تعتمد بشكل كبير على الجماعات من خارج سوريا، ولاسيما تلك التي تنتمي للمقاومة الإسلامية في العراق، بيد أن هذه المناورة محفوفة بالمخاطر، لأن أي تصعيد خطير في شرقي سوريا تتورط فيه تلك الجماعات العراقية يهدد بانتقام أميركي على أراضي العراق، في حين أن الاعتماد على قوة وكيلة سورية لتنفيذ هجمات على قواعد أميركية بوسعه احتواء النزاع وإبقائه ضمن حدود سوريا، ثم إن تطور النزاع نحو الأسوأ قد يخلف تبعات خطيرة على شركاء إيران ومصالحها في العراق، بالإضافة إلى المخاطرة بالاستقرار الهش للعراق الذي لم يتحقق إلا بشق الأنفس، وهذا السيناريو الذي لن تستسيغه طهران ولا واشنطن.

آفاق مستقبل شرقي سوريا

بالنسبة للولايات المتحدة، يمكن أن يضر سعي إيران لتحقيق أهدافها الاستراتيجية بموقع أميركا في شرقي سوريا، فقد حقق الانتقام من أجل الغارة التي استهدفت البرج 22 نجاحاً جزئياً في ردع الهجمات، كما تبين من خلال القرار الذي اتخذته الجماعات المسلحة الحليفة لإيران والقاضي بالتخفيف من وتيرة تلك الهجمات. بيد أن الوضع الحالي الجديد مايزال متقلقلاً، فالهدوء النسبي الذي ساد عقب الهجوم أدى لإثارة القلق حيال التهديد بخطر اندلاع حرب إقليمية أوسع عقب الغارة الإسرائيلية التي نفذت على القنصلية الإيرانية بدمشق في الأول من نيسان، وهذا ما حرض إيران على تنفيذ أول هجوم مباشر لها ضد إسرائيل في 13-14 من الشهر نفسه. وهنا سعت واشنطن لخفض التصعيد، وأسهمت في الحد من التوتر من جديد، بيد أن أحداث غزة، أو الهجمات الإسرائيلية المكثفة على أصول إيرانية في سوريا، يمكن أن تدفع لظهور موجة تصعيد جديدة في شرقي سوريا. ثم إن الجماعات المتحالفة مع إيران مستعدة لمواصلة مضايقتها للقوات الأميركية في سوريا في أي حالة من هاتين الحالتين، على الرغم من أن هذا يمكن أن يتم بطرق لا تعرّض تلك الجماعات ولا مصالح إيران لأي انتقام عنيف.

وبالأسلوب ذاته، نجد بأن حملة العشائر ضد قسد لا تنطوي على خطر الانتقام من إيران بخلاف الهجمات على القوات الأميركية، ولهذا من المؤكد أن تتواصل تلك الهجمات بوتيرة متسارعة أيضاً. ثم إن قسد التي ينتابها عجز أكبر عن تحقيق أي تقدم لابد أن تغادر القواعد الأميركية المقامة في أغنى المناطق بالموارد في شرقي سوريا، أي منطقة حقول النفط والغاز الواقعة شرقي الميادين ودير الزور، وذلك لأن قسد ستكتشف بأن من الصعب عليها البقاء هناك في ظل بيئة تزداد عدائية نحوها.

ثمة أمور من شأنها تخفيف حدة التوتر في المنطقة، إذ يمكن عند التوصل لوقف دائم لإطلاق النار في غزة أن يسهم في إضعاف الزخم المعادي للولايات المتحدة في المنطقة التي تستغلها إيران وحلفاؤها، والدليل على ذلك توقف الجماعات المدعومة إيرانياً عن الأعمال العدائية خلال فترة توقف الأعمال العدائية بشكل مؤقت في تشرين الثاني الماضي. ويمكن لهدنة أيضاً أن تحسن مناخ المفاوضات بشأن الوجود الأميركي في العراق، بيد أنه ينبغي على واشنطن أن تلتفت لوضع قسد، لاسيما ضمن المثلث الجنوبي لطريق إم7 السريع، والذي يربط بين دير الزور وشمال شرقي سوريا الذي يتميز بمخزونه الكبير من الهيدروكروبون، ولهذا يجب على الولايات المتحدة أن تضغط على شريكتها قسد لتعالج مظالم الأهالي العرب والتي جعلتهم عرضة للاستقطاب من إيران. كما يتعين على الولايات المتحدة أن تتوسط بين العرب وقسد، كما فعلت في أيلول من عام 2023، عندما توسطت لإنهاء الاشتباكات المكثفة التي قامت بسبب اعتقال قسد لأحد قادة العشائر. ويجب على الولايات المتحدة وقسد أن تفكرا بجدية في مستقبل المنطقة، وأن تضعا بعض المخططات لحالات الطوارئ، وعلى الرغم من أن النية الصريحة لإدارة بايدن هي إبقاء الوجود العسكري الأميركي في سوريا، ماتزال السياسة الأميركية غير متوقعة، لذا فإن أي انسحاب أميركي متهور قد يعرض قسد لهجوم خطير من تركيا أو من حكومة النظام، وبذلك ستبدأ جولة جديدة للعنف في منطقة شرقي سوريا التي تتسم بتقلبها الشديد.

المصدر: International Crisis Group