إيران التي تقاتل بنا

2019.08.15 | 21:28 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يتمثل النجاح الباهر لإيران بالمنطقة في قدرتها على تحويلنا، نحن الواقعين تحت نير تسلط عصاباتها وميليشياتها شئنا أم أبينا، إلى جنود لها. أثبت القائد العام للحرس الثوري الإيراني حسين سلامي مدى صحة هذا الواقع بوضوح تام في تصريحاته الأخيرة، حين أعلن أن حزب الله اكتسب قدرات في سوريا تمكنه من القضاء على إسرائيل وحده في أي حرب مقبلة.

يسجل لإيران نجاحها في ما كانت داعش قد نجحت فيه مرحليا، أي بناء دول صغيرة كاملة المعالم والأوصاف

ينسجم هذا التصريح مع منطق إدارة إيران لصراعاتها في المنطقة والعالم، حيث تعمل على أن يتخذ حضورها في الميادين العالمية صيغة الدولة، بينما تفرغ كل المنطقة التي تنشر فيها أذرعتها من هذه البنية بشكل تام، مع المحافظة على هيكليتها وتوظيفها في خدمتها.

تمارس إيران هذه السياسة في سوريا. مناطق النفوذ الإيراني لا تشبه أي مناطق نفوذ أخرى لناحية شكل وجود القوة المسيطرة ونوعها، بل تشبه دولة قائمة بذاتها بكل ما يتطلب ذلك من موارد وخدمات، كما أنها نجحت في صبغ بنى هذه الدول الصغيرة بصيغة مذهبية شيعية بارزة، تظهر فيها الطقوس بشكل دائم لتعزيز طابع الولاء والانفصال عن التاريخ الخاص.

يسجل لإيران نجاحها في ما كانت داعش قد نجحت فيه مرحليا، أي بناء دول صغيرة كاملة المعالم والأوصاف، وهو الأمر نفسه الذي تحاوله حاليا التيارات الإسلامية المتطرفة من دون أن تنجح في تحقيقه.

 يؤمن هذا الواقع لإيران تحويل من تحتلهم في ظل تفكك منطق الدولة وانعدامها  إلى جنود مرغمين لها، ومنح حضورها صفة الاستقرار والتمكين والديمومة.

يعني ذلك أنها، وفي أي عمليات تفاوض مقبلة، لن تدخل المفاوضات بصفة ميليشيوية، بل بصفتها مكونا داخليا له جمهوره وناسه، نماذج حكمه وصيغة دوله الصغيرة الناجحة. ستفاوض إيران بكل بساطة ليس بوصفها قوة احتلال خارجي بل بوصفها أحد المكونات السورية، وهنا تحديدا تكمن خطورة مشروعها.

ليست تصريحات قائد الحرس الثوري بشأن قدرات حزب الله سوى تنويع على المشروع نفسه، فليس من المسموح أن يكون لبنان دولة لأن إيران وحدها يجب أن تكون الدولة.

قدرة الحزب على أن ينتصر على إسرائيل وحده لا تقول شيئا خارج هذا الإطار، فإذا كانت هناك استعدادات لحرب بين الحزب وبين إسرائيل أو لا فإن الموضوع ليس مهما إلا بقدر ما يكرسه من مفاهيم، لا تصب في نهاية المطاف إلا لصالح تمتين بنية التفريق الواضح بين إيران والجميع في المنطقة، بمن فيهم من يدور في فلكها من تيارات.

الدول تفاوض بينما الميليشيات تقاتل. تحت ظل هذه المعادلة يعيش لبنان حالة من الكاريكاتورية السوداء فبينما يرفع الحزب وتيرة التصعيد ضد إسرائيل استجابة لمنطق إيران، يحاول رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري جاهدا خلال زيارته الأميركية التي سيلتقي فيها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إقناع الإدارة الأميركية بإلغاء ما تنوي أن تفرضه على بعض مؤسسات البلد وشخصياته السياسية من عقوبات.

يحاول الحريري التحدث مع الأميركيين بصفته ناطقا باسم الدولة في حين يجهز حزب الله لذكرى الانتصار في حرب تموز 2006 مهرجانا حاشدا تحت شعار "نصر وكرامة"، يعرض فيه خريطة للساحل الحيوي الإسرائيلي مرفقة بشعار يقول"هنا يمكن أن تشاهد العصر الحجري".  

المفارقة الساخرة في هذا المشهد تتجلى في أن رئيس الحكومة لا يمكنه إلا أن يكون في هيئة الميليشيا الفاقدة للشرعية في حين أن من يعلن الحرب فعلا هو الدولة، ولعل المشهدية العامة التي سبقت زيارته تثبت سطوة انقلاب الصورة بينه وبين حزب الله.

تعاني كل المؤسسات التي تدور في فلك الحريري من أزمات جمة لا تقتصر على الوضع المالي السيء، بل تعدى الأمر ذلك ليصل إلى حدود التعامل الكارثي واللاأخلاقي مع الموظفين والتحايل عليهم والتلاعب بحقوقهم، كما أن إيعازاته لوقف العمل في مطمر تربل الذي يؤثر على ما تبقى من جماهير تياره، بدت وكأنها عملية تخدير مقصودة، لم تلبث بعدها الأعمال أن عادت وأدت إلى مواجهات عنيفة بين الناس والقوى الأمنية.

الدول تفاوض بينما الميليشيات تقاتل. تحت ظل هذه المعادلة يعيش لبنان حالة من الكاريكاتورية السوداء

كل هذه المشاهد كرست حالة الميليشيا على سعد الحريري لأن تعريف مفهوم الميليشيا يربطه بشكل وثيق بإثارة الفوضى، بينما نجح حزب الله في أن يكون ضابط إيقاع وعامل استقرار وتهدئة.

مؤسسات الحزب ما زالت،على الرغم من كل الحصار والأزمات المالية، تعمل بانتظام ولم يشهد الموظفون فيها من تعامل شبيه بالتعامل الذي مارسه الحريري مع موظفيه.

يمكن كذلك التأكيد أن حزب الله نجح مؤخرا في تحويل تداعيات قضية قبر شمون لصالحه، فبعد أن بدا الجميع متورطين في إطلاق مواقف تصعيدية، تعامل مع الموقف الأميركي المحذر من استهداف جنبلاط بصفته الحكم والمرجع، في حين بدت جميع الأطراف مع كتلة المواقف المتشنجة التي أطلقتها خلال الأزمة، ومن ضمنهم رئيس الجمهورية ميشال عون الذي تبنى وجهة منحازة، بوصفهم قادة محاور.

تدفع إيران بالمواجهة معها إلى بعد جديد عبر تكريس شرعيتها، وتحويل أي فعل عدائي ضدها إلى فعل بلطجة واعتداء، وليس أدل على ذلك قرب الإفراج عن ناقلتها التي تحتجزها بريطانيا بعد إرسالها لوثائق إلى السلطات البريطانية، وكذلك فإن حرصها على الفصل بينها وبين حزب الله الذي يرجح أن يستتبع بعمليات فصل مماثلة مع سائر الميليشيات التي تدين لها بالولاء، يؤمن لها القدرة على الاستفادة من الحروب من دون أن تخوضها بنفسها.

تمنح إيران بذلك إسرائيل شرعية لحروبها على حزب الله في لبنان وعلى حماس في غزة وتقول لها بشكل واضح إنها غير معنية بهذه الحروب، بل يمكن التعامل معها كهدايا تفاوض يمكن أن يتم لاحقا برعاية أميركية بدت معالمها واضحة  في التماس الأميركي غير المباشر مع إيران إثر تدخلها في مسألة قبر شمون.

يقود ذلك كله إلى استنتاج مرعب مفاده أن كل ما تقوم به دول المنطقة البارزة من حروب وتدخلات خارجية لا يحظى بشرعية، فتدخل السعودية في اليمن بقي خارج الشرعية الدولية، والأمر نفسه ينطبق على تدخل تركيا في سوريا ومشاريع حربها ضد الأكراد.

دولتان بارزتان فقط في المنطقة يمكنهما انتزاع شرعية تدخلاتهما الخارجية وهما إسرائيل التي تهديها إيران  شرعية تدمير لبنان وفلسطين، وإيران التي حولت وجودها في سوريا وحضورها في مضيق هرمز وسوريا إلى بنية دولتية، بينما تستعد لتحويل بلادنا إلى مستودع انتحاريين يموتون لأجلها طائعين أو مرغمين.