icon
التغطية الحية

إمبراطورية الإنسان "العادي"

2024.01.14 | 13:18 دمشق

ثقفغق
+A
حجم الخط
-A

من الصعب تتبع رحلة العقل البشري بدقة، وتخمين الانعطافات التي أوصلته إلى تمجيد المتعة بعد أن كان يبحث في عتمة الكهوف عن الأمان والدفء، ولكن فيما لو فكرنا في أول حربٍ اندلعت خلال التاريخ البشري على أنها جريمة أولى، فهل نستطيع الربط بين الرفاهية باعتبارها أساس المتعة وبين الجريمة؟ وهل يمكننا أن نتخيل إلى أين كان سيُفضي السلام الدائم فيما لو حصل وكان سائداً فعلاً؟

مع اكتشافات التدجين واكتشافات الزراعة، والتي فرضت الاستقرار، بدأت فكرة المُلكية بالظهور، وبدأ التفاوت الطبقي كذلك في صوره الأولى بما رافقه من تمايزات ثقافية واجتماعية، وبالتأكيد بدلاً من أن يخرج كل أفراد القبيلة إلى الصيد والتقاط الثمار، صار بالإمكان جلب الثمار والحيوانات إلى المكان الذي يسكنه البشري، فتشكلت القرى الأولى، وأدى كل ذلك مع مرور الزمن إلى تطورات مهمة في الجسم البشري ومنها ضمور العضلات التي كان يحتاجها لمجابهة الحيوانات وزوال الشعر الذي كان يغطي كل الجسم ويهدف إلى الحماية والتدفئة، وأيضاً العديد من التطورات الأخرى التي فرضتها طبيعة الحياة الجديدة والتي لا تحتاج إلى كل تلك الأعباء الإضافية التي تستهلك الكثير من الطاقة، وبالمقابل تم تحويل تلك الطاقة الفائضة إلى الدماغ، فبدأت تعقيداته والتي لم تنته حتى الآن، وعن هذه التعقيدات نشأ التجريد والذي كان من نتائجه اختراع اللغات والكتابة والفنون.

مع الحرب الأولى كانت جريمة القتل الأولى بالمعنى الأخلاقي لا القانوني، فالقوانين، ومع كل التقدم الأخلاقي الذي ندّعيه ما زالت حتى اليوم تُبرر جرائم القتل التي تحدث في ساحات الحروب

عندما شغل الإنسان الأول حيزه الخاص، زرع حقله الخاص، اعتنى بحيوانه الداجن، سكن مسكنه الأول، شعر بأهمية المُلكية، وانتقل كنتيجةٍ لهذه الخبرة الجديدة إلى التفكير بالرفاهية، والتي تتطلب بالضرورة المزيد من الممتلكات، ولكن من أين ستأتي الزيادة في الممتلكات؟ بالطبع من الاستيلاء على ممتلكات الآخرين أو على حِصص الآخرين المُفترضة، وهكذا بدأت الحرب الأولى والتي كانت على أغلب الظن بين فردين، واحدٌ يدافع عن حقه، وآخر يريد سرقته، ثم تطورت الفكرة إلى تعاضد جماعات تربطها المشتركات لتشكل عدواً لجماعات أخرى لديها مشتركات مختلفة، ومع تطور بينة العقل البشري تم تطوير هذه المشتركات وتطوير أدوات القتل وتطوير العداوة نفسها لتتحول أيضاً وتنحو نحو التجريد، فصارت المشتركات التي تندلع من أجلها الحروب أحياناً أفكاراً محضة وليس لها أي ثقل مادي.

***

مع الحرب الأولى كانت جريمة القتل الأولى بالمعنى الأخلاقي لا القانوني، فالقوانين، ومع كل التقدم الأخلاقي الذي ندّعيه، ما زالت حتى اليوم تُبرر جرائم القتل التي تحدث في ساحات الحروب، إذن مع الحرب الأولى وعلى عكس المتوقع بدأت الرفاهية أيضاً، بحيث وفرت الملكيات الشاسعة الناتجة عن الاستيلاء انتاجاً يفيض عن الاستهلاك، ولأنه لم يكن بمقدور المنتصر وحده أن يقوم بالعناية بممتلكاته التي بدأت تتوسع وتتوسع، فقد خطرت الفكرة الجديدة والتي تم بموجبها إيقاف القتل جزئياً، وتحويل المهزومين إلى عبيد، هذه الفكرة التي لم تتخلص منها البشرية بعد ، ولكنها في بعض الأماكن التي يدعي أهلها تبني حقوق الإنسان، اتخذت لبوسات وتسميات جديدة متعددة.

مع الراحة الجسدية التي نتجت عن نشأة العبودية، تفرغ الإنسان المنتصر للتجريد، ومن ثم مع مرور الوقت ولدت الصناعة كنتيجة للتجريب والتأمل والاجتهاد في حقول فلسفية وعلمية عدة، هذه الصناعة التي منحت راحة إضافية للأجساد وتعباً إضافياً للدماغ، فلم يعد تعريف المنتصر يقتصر على الأقوى ، وإنما صار يشمل الأذكى أو الأكثر معرفة أيضاً، ومازال الصراع بين الجسد والعقل مستمراً، ولكن سؤال المنتصرين الجديد كان : ألا يحق للعقل أن يرتاح أيضاً مثلما ارتاح الجسد؟

الآلة التي تقوم بالأعمال نيابةً عنا، الآلة التي تحرث الأرض وتغسل الأطباق وتقشر البطاطا، كان عليها أن تقدم لنا الخدمة الأخيرة والجليلة، يجب أن تفكر بدلاً منا!، أن تتولى هي مهمة تصور الأشكال الجديدة والغريبة، وأن توفر ظروف الرفاهية الحديثة، وهذا ما بدأ الآن بالفعل، ومع الاستراحة التي يعيشها العقل، عقل المنتصر وعقل المهزوم على حد سواء، كان لابد من البحث عن منطقة وسطى يستريح فيها النقيضان من حربهما الطويلة التي امتدت لقرون، فكانت منطقة "العادي".

***

في زاوية عنوانها: " ما يؤلم في تلاشي الإريستوكراتي" نشرها الشاعر المعروف "أنسي الحاج" في العدد 76 من مجلة الناقد الشهيرة بتاريخ الأول من أكتوبر 1994 وبالرغم من أن توحش الآلة كان حينها مازال لطيفاً للغاية، وبالرغم من شيوع مصطلح البرجوازية لدى الرومانسيين حينها كدلالة على انتصار الضجيج على الفن، وبالرغم من تصنيف العادي كمقترح عبثي بديل عن القيم لا كحقل استثمار، فقد نبه الحاج بما يشبه النبوءة إلى سيل الميوعة الذي يُحضِّر لهيمنة العادي على حساب الإريستوكراتي والشعبي معاً، يقول الحاج:

"برجوازية فبركت لنفسها عوالم تحاكي العوالم الأصيلة لغةً وخيالاً وأساليب، واستولت على وسائل الإعلام وسخرتها....وطدت إمبراطورية النمط العادي والإنسان العادي".

بعيداً عن استشراف " أنسي الحاج" يتضح لنا الآن أن فلسفة "العادي"  تقوم على أنه يكفل الراحة التامة للجسد وللعقل أيضاً، ولكن عليه في النهاية أن يتحول هو ذاته إلى إنتاج، ولذلك كان من المفيد لاستمرار الرفاهية تعويم العادي ليمتلك رصيده القيمي وليصبح سلعة مطلوبة، وهذا ما تولته الآلة ببراعة، فاقتصاد ألعاب الفيديو مثلاً قد يفوق أحياناً اقتصادات بعض الدول، كما أن العادي وربما القبيح أيضاً امتلكا قيمةً سوقية وفرضا شروطاً جديدة على حركة المال، والتي لم يعد بالإمكان السيطرة عليها أو التنبؤ بها أو حتى معادلتها بقيم حقيقية وواضحة، فما معنى أن يجني يوتيوبر يصور نفسه وهو يلعب ألعاب فيديو في يومٍ واحد بمقدار ما يجني سائق قطار في سنة؟ وما معنى أن يجني رجل سمج يلقي نكاتاً تافهة بشهادة الجميع أكثر مما يجني مئة عامل يرصفون الطرقات أو يبنون المنازل أو يزرعون الحقول؟!

الفائض في الإنتاج يتوجب عليه بالطبع فائضاً في الاستهلاك وهذا ما يمكن أن نكتشفه ببساطة من خلال يومياتنا المُعاشة، ولأننا لا نستطيع دائماً أن ننجز الأفكار العظيمة التي تستحق الاحتفاء، ارتأى المالُ أن يحتفي بالعادي، أن يُعلي من شأنه ويحوله إلى قيمة بهدف استهلاكه وكذلك الاستثمار فيه.