icon
التغطية الحية

إبحار في عالم الكبار.. وديع الصافي

2022.03.21 | 05:37 دمشق

6edaf0eb-dc3b-4779-b033-7ee87cd51519.jpg
+A
حجم الخط
-A

1- ولد وديع بشارة يوسف فرنسيس، الذي سيحمل فيما بعد لقب "وديع الصافي"، في قرية (نيحا) بالشوف سنة 1921، وهي السنة الثانية لاستقلال لبنان. وبعد أربعين سنة، أي في سنة 1961، وكان صيتُه يملأ الآفاق، غنى لقريته وللبنان، أغنية "أرز الجبل" من ألحانه، وكلمات أسعد سابا، تقول لازمتُها:

"جايين يا أرز الجبل جايينْ

اشتقنا لجبل (نيحا)، لجبل صنينْ

تحت السما ما في متل لبنانْ

لبنان أحلى وجّ أعلى جبينْ..".

2- كل شيء في عالم وديع الصافي كان مهيأً لنبوغ مبكر. جَده أبو بشارة شاعر، وذو صوت جميل، وكذلك والده بشارة فرنسيس، ووالدته شفيقة العجيل، وخاله نمر العجيل، والجميع كانوا يعلّمونه، ويشجعونه على الغناء والحفظ.. مَن يصدق أنه شارك في إحياء حفلة عرس وهو دون العاشرة من عمره؟

3- الأسرة فقيرة، ووديع يريد أن يعمل ليساعد والده. يذهب إلى العمل، ومعه العود، فيقول له رب العمل: هيك ما بيصير يا ابني. يا إما شغل، يا أما عود. فيتركه ويذهب إلى غيره.. وهكذا.

سأسجل هنا ملاحظتين. الأولى أن وديع قال، في حوار أجرته معه الإعلامية وفاء الكيلاني لقناة "روتانا موسيقا"، حينما كان في أوج الحياة: إن لديه الآن عشرين عوداً، قسمها إلى زمرتين، وأطلق على كل منها اسماً خاصاً. والثانية أنه؛ بعد أن حقق شيئاً من الشهرة، أصبحت تأتيه بعض الأموال، يعطي شيئاً منها لأبيه، فيضحك الأبُ ويقول لمن حوله ممازحاً: (أنا بدي آكل من ورا هَالنَوَري؟).. والعبارة هنا لا تنطوي على إهانة للنَوَر، لأنهم اشتهروا بأنهم يعيشون من الموسيقا والغناء.

4- يمكن القول إن وديع الصافي كان وَهَّابي الهوى، منذ صغره. ففي سنة 1933، وهو في سن الثانية عشرة، حضر، في إحدى صالات السينما ببيروت، فيلم "الوردة البيضاء" لمحمد عبد الوهاب، عشر مرات متتالية. وخلال ذلك حفظ كل أغانيه، وبالأخص "يا وردة الحب الصافي".

بقي وديع مولعاً بعبد الوهاب، طوال حياته، وفي إحدى زياراته للقاهرة، سنحت له فرصة حضور حفل رسمي كبير غنى فيه عبد الوهاب "أنشودة الفن" (1945)، فاستغل الفرصة، وطلب من أحد الأصدقاء المصريين أن يعرفه به، فلما اجتمعا قال وديع لعبد الوهاب إنه استمع إلى "أنشودة الفن" وحفظ مقدمتها، فقال مندهشاً:

"- والنبي حفظتها؟ مش معقول. طيب سمعهالي.

وعندما أسمعه المقطع أعجب به كثيراً، وأشاد به قائلاً:

- مش معقول يكون في حَدّ بالدنيا عنده الصوت ده كلُّه!".

ومنذ ذلك التاريخ أصبحا صديقين، وليس هذا وحسب، بل إن حكايات كثيرة تحكي عن إعجاب عبد الوهاب بوديع، فقد كان يسعى دائماً للقائه حينما يزور دمشق أو لبنان، ويطلب منه أن يسمعه شيئاً، وبالأخص أغنية "وَلَوْ"، من كلمات أسعد السبعلي:

"ولو، هيك بتطلعوا منا؟ وما تعودوا تسألوا عنّا

ولو، عالقليلة تذكروا الماضي..

بسمة على شفاف الوفا كنا.. ولو ولو".

وذات مرة، استمع عبد الوهاب لإحدى أغاني وديع، فأعجب بها كثيراً، وسأله عن ملحنها، فقال: أنا لحنتها. فقال له: أنت أكتر واحد فاهم مساحات صوتك وطبيعته، الأحسن تلحن لنفسك على طول.

5- لم يكن رأي عبد الوهاب صحيحاً بالمطلق، فهناك الأغنية التي أصبحت، بعد ظهورها، رمزاً لوديع، أو شعاراً لوجوده، وهي: طلوا حبابنا، من كلمات وألحان زكي ناصيف، وكذلك أغنية "عندك بحرية"، من ألحان محمد عبد الوهاب نفسه.

سأسجل هنا ثلاث ملاحظات؛ الأولى: يروي زكي ناصيف، في أحد لقاءاته المتلفزة، حكاية غريبة عن أغنية "طلوا حبابنا"، تقول إن اللبنانيين، حينما يسهرون في بيوتهم سهرات عائلية، وبعد أن يملأهم الطرب، يصادف أن يقوم إلى الرقص رجل ظريف، يحب المزاح، فكانوا يغنون له:

"قام الدب تَـ يرقص

قتل شي سبعة أنفس".

كان زكي "ناصيف" دائم الغوص في الفولكلور الغنائي لبلاد الشام، يسعى لإحيائه وتطويره، وقد أعجب كثيراً بلحن أغنية (قام الدب)، فوضع على قدها كلمات جميلة، هي:

"طلوا حبابنا طلوا

نسم يا هوى بلادي

بين ربوعنا حلوا

وضحكت زهرات الوادي".  

وغناها بصوته مع المجموعة أولاً، ثم قدمها لوديع الصافي، فانتشرت وحققت هذه الشهرة كلها.

والملاحظة الثانية؛ أن ثمة أغنيات قدمها وديع الصافي، خلال مشواره الفني، وذاع صيتها، لحنها شيخ الملحنين فيلمون وهبي، ومنها: بترحلك مشوار، وحلوي وكذابي.. ولا ننسى، كذلك، الألحان العظيمة التي قدمها الأخوان الرحباني في السكتشات التي اشترك فيها وديع الصافي مع فيروز ونصري شمس الدين. والقرادية الشهيرة:

"باب البوابة ببابين

قفولة ومفاتيح جداد

ع البوابة في عبدين

الليل وعنتر بن شداد".

الملاحظة الثالثة: أن أغنية عندك بحرية مقتبسة من الشاعر والملحن عمر الزعني، وهي موجودة على يوتيوب بصوت الفنان أحمد قعبور.

6- تقدم وديع وهو في السابعة عشرة من عمره (1938)، إلى مسابقة فيها أربعون من الهواة، وفاز عليهم بسهولة، وأعضاء اللجنة الفاحصة ميشيل خياط وسليم الحلو وألبير ديب ومحيي الدين سلام (والد الفنانة نجاح سلام) هم الذين اقترحوا عليه كنية الصافي بدلاً من فرنسيس.

7- هناك حادثة شهيرة، ملخصها أن يوسف بيك وهبي، عميد المسرح العربي، اصطحب نور الهدى (ألكسندرا نقولا بدران) إلى مصر لتشاركه بطولة فيلم جوهرة، من تأليفه وإخراجه (1943)، وقد دعا نقولا بدران والد نور الهدى الفنان وديع الصافي لمرافقتهما إلى مصر، وكانت تلك السفرة فرصة لأن يجرب وديع العيش في مصر، وأقام في القاهرة سنة، كان يغني خلالها في نوادٍ يرتادها لبنانيون وسوريون وبعض أهل مصر. وذات يوم قابل نجيب الريحاني في ميدان التحرير، فنصحه بالعودة إلى لبنان، إذ همس له بمحبة:

- ما أنت قد الحاجات دي، باين عليك ابن ناس.

8- التزم وديع، منذ بداياته، بنمط الغناء ذي السوية الفنية العالية، أسوة بأستاذه عبد الوهاب، ولكنه، بعد عودته من أول رحلة فنية إلى البرازيل، بعد سنة 1950، وجد الناس يرددون أغنية فريد الأطرش "يا عوازل فلفلوا" (كلمات أبي سعود الأبياري)، ووجد وقتئذ أنه لا بأس من تقديم بعض الأغاني الخفيفة، وبالمصادفة عرض عليه عبد الجليل وهبي أغنية "ع اللوما"، فلحنها وغناها، وكانت بالنسبة إليه قفزة نوعية في سلم الشهرة.

9- لم يكن تقديم أغنية خفيفة سهلاً، ولذلك لم يوافق حليم الرومي على إذاعتها في لبنان، فحملها إلى دمشق، وأطلقها من إذاعتها. وبالمناسبة: أطلقت إذاعة دمشق عدداً كبيراً من مطربي تلك الأيام، وفي مقدمتهم فيروز.

10- توفي وديع الصافي سنة 2013 عن 92 عاماً.