أُمَّةٌ من الغنم

2020.05.13 | 00:01 دمشق

ap_safety_advisory_4.6_rs.jpg
+A
حجم الخط
-A

عندما سُئل الرئيس الأمريكي "جورج دبليو بوش" عن السبب وراء الكره الكبير، الذي يُقابَلُ به الأمريكيون خارج بلادهم؟ أجاب (إن الأجانب يكرهوننا لأنه لدينا انتخابات ديمقراطية، وحريات عامة) وهكذا كررت أجهزة الإعلام الأمريكية وراءه، متجاهلةً وعن عمدٍ مكررٍ، ما كتبه "وليم ريدرر" و"أوجين بورديك" في كتابهما "الأمريكي القبيح".

لقد نسي الرئيس الأميركي، أن السياسة الخارجية الأمريكية، تدعم ومنذ عقودٍ

 طويلةٍ، أنظمةً قمعيةً ديكتاتورية، وأنظمةً أُخرى مؤسسةً على إدارة الفساد والإرهاب، بدءاً من "ماركوس" في الفيليبين إلى شاه إيران إلى "سوكارنو"، وصولاً إلى دعمها المنقطع النظير، للكيان الصهيوني، ووقوفها معه أمام جميع قرارات المجتمع الدولي.

تعتمد السياسة الأميركية، في إدارة لعبتها السياسية على الصعيد الداخلي، على سياسة التعتيم الإعلامي، وصناعة صورةٍ جديدةٍ مغايرةٍ تماماً للحقائق، التي من شانها لو تبدَّت أن تقلب الموازين الداخلية، وتغير الرؤية لدى الشارع الأمريكي، المهمش إلى أقصى درجات التهميش، من خلال سوقه كالغنم، كما يعبر صاحب كتاب "أُمة من الغنم" "د. وليام ليدرر".

تلك الصياغة المحترفة للمشهد العام، والذي تبرع به أجهزة الإعلام الأمريكية، وبمساعدة الأجهزة الاستخباراتية، تعيد تصنيع الحقائق، وعلى نحوٍ يسمح للحكومة الأمريكية، أن تغدق مساعداتها على أيِّ نظامٍ ترعاه، بحجة مكافحة الشيوعية سابقاً، والحرب على الإرهاب، ونشر الديمقراطية لاحقاً،

كما تُشَرعن لها شن الحروب، ومضاعفة ميزانية الدفاع لديها على نحوٍ مدهشٍ،

وغير بعيدٍ عن الأذهان، ما حدث في لاووس بين عامي "1950-1960"،

وكيف أن عشر سنوات من المساعدات، والإمدادات المالية والعسكرية والاستخباراتية، لم تسفر إلّا عن انزلاق لاووس إلى المعسكر الاشتراكي.

كتب "دانيس وارنر" المراسل الحربي الأسترالي المشهور، (الرجاء أخذ العلم بأن مدينة سامنيو اللاووسية، لم تكن مسرحاً لعملياتٍ قتالية، ومع ذلك استخدمها الصحفيون الأمريكان، في تقاريرهم كخط قتالٍ، كانوا يرسلون تقاريرهم منها، وكأنهم في قلب المعركة.

هذا تماماً ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية، بعكس الصورة التي كانت على الأرض، والتي يعمل الإعلام الأمريكي على حجبها عن مواطنيه.

وينبغي أن نعلم أن المساحة التي تخصص للشؤون الخارجية، في الصحافة الأمريكية المحلية، لا تتعدى 5% مما تنشره تلك الصحافة، من تفاصيل مغرقةٍ، تنحّي القارئ الأمريكي، عن متابعة ما يحدث حوله في العالم.    

كلُّ هذا تفعله أجهزة المخابرات الأمريكية، والأجهزة الأمنية العولمية إضافة إلى هوليود والصحافة الموجَّهة، التي تشرف على صناعة الأخبار وصياغتها، بشكلٍ يتناسب وتوجهات السياسة الخارجية الأمريكية.

ورغم الثقة الواهية التي يمتلكها الفرد الأمريكي، تجاه مؤسساته الإعلامية، فإنه لا يمتلك البديل عنها كمنفذ على العالم.

ويساق الفرد الأمريكي اليوم بهذه الترسانة الإعلامية الهائلة، التي تصور الأفغاني والعراقي، والفلسطيني ككائنٍ متوحشٍ، لا يعرف من دنياه إلّا القتل والإرهاب، لتنال مباركة الشارع الأمريكي، وتمويل دافعي الضرائب لتلك الحروب، التي تشنها هنا وهناك، جاعلةً من الشعوب الأخرى حقلاً لتجاربها العسكرية، ولتعلن العالم الآخر، الذي لا ينضوي تحت المشيئة الأمريكية، مسرحاً للأحكام العرفية، وهذا ينطبق بشكلٍ كبيرٍ، على الحرب التي شنتها الإدارة الأمريكية على العراق، وذهب ضحيتها ملايين الأرواح البريئة، بذريعة أسلحة الدمار الشامل، التي لم يعثر لها على أثر.

واليوم وبعد عقودٍ من نجاحات هذه الإدارات المتعاقبة، على تحويل الشارع الأمريكي وكثيرٍ غيره، إلى أممٍ من الغنم، تصدمنا هذه الصورة المريعة في إدارة أزمة فيروس الكورونا عالمياً، والتي حولَت القرية الإنسانية، إلى قطيعٍ يساق عبر وسائل الإعلام، ويحجز في بيوته، وتتوقف الحركة في عالمٍ كاملٍ.

وإذا تابعنا الأرقام التي ترد من منظمة الصحَّة العالمية، سنجد أن آلافاً يموتون يومياً، بفعل الملاريا والسرطان، والتدخين وحوادث المرور، ومرض السكري وارتفاع الضغط والانتحار، تزيد أعدادهم يومياً، عن أعداد من يموتون بفعل فيروس الكورونا.

غير أن الكورونا المهيب، يحظى بتغطيةٍ إعلاميةٍ غير مسبوقةٍ في التاريخ.

ولو نشرت أجهزة الإعلام، أنَّ عدد وفيات الأنفلونزا الموسمية سنوياً، يتجاوز ستمئة وخمسين ألفاً، وعدد وفيات الإيدز هذا العام، تجاوز خمسمئة وستين ألفاً، وعدد وفيات السرطان تجاوز هذا العام مليونين وسبعمئة ألف، وعدد وفيات التدخين هذا العام تجاوز مليوناً وستمئة ألف، وعدد الوفيات بسبب تعاطي الكحول تجاوز ثمانمئة وأربعين ألفاً، وهذه الأرقام مستمرة باضطرادٍ، لو نُشرت هذه الأرقام يومياً، كما يفعلون مع أعداد ضحايا الكورونا، لساد الهلع في أرجاء الكوكب، ولعمَّت الفوضى.

ليس من المهم هنا معرفة كيف انتشر هذا الفيروس، لكن من المؤكد، أن هناك استثماراً عالمياً يتمُّ عبر مزيدٍ من التهويل، وليس بالمستطاع التكهن إلى أين يسير هذا العالم، وكيف سيكون حاله بعد انتهاء هذه الأزمة، وما هي الأزمات التي تنتظرنا بعدها؟

من المحتمل أن الفيروس انتشر بشكلٍ طبيعيٍّ، غير أن نتائجه الكارثية بدون شك، ستكون من صنع يد الإنسان المدمرة.