أين أصبحت الطبقة الوسطى السورية بعد اللجوء؟

2024.06.15 | 05:19 دمشق

الاجئون
+A
حجم الخط
-A

لا نريد الدخول في جدل طويل حول تعريف الطبقة الوسطى ومعايير تحديدها ونسبيتها واختلافها من مجتمع إلى مجتمع آخر. ولعل أسهل التحديدات وأوضحها هو استقرار الدخل الشهري لفترة طويلة بما أنه أحد المعايير التي تعطي مؤشراً لتعريف الطبقة الوسطى مع ما يرافق ذلك من عادات وسلوكيات وأخلاقيات وسمات إضافية.

ويمكن الاستئناس بتقارير البنك الدولي لتحديد حجم الطبقة الوسطى، حيث أشارت تقاريره إلى أن عددهم في سوريا كان نحو ثلث السكان، مع إقرارنا بأن مفهوم الطبقة الوسطى في المجتمعات غير المستقرة والدول النامية مفهوم سريع التحول، لأن عدم استقرار السياسات الاجتماعية والسياسية يجعل إمكانية الانهيار واردة في كل لحظة، بخاصة أن الدولة لم يكن في حسبانها المحافظة على استقرار مجتمعي، إما لأنها لا تعرف دوره، أو لديها رغبة بإجراء تحولات اجتماعية لأهداف معينة، أو أن سياساتها تتسم بالعشوائية، أو أن ما يهمها هو مصلحة الطبقة الأكثر ثراء من أهل السلطة والمال والنفوذ.

ويرى مهتمون بالبحوث الاقتصادية أن الطبقة الوسطى هي المعول عليها في منتجات كثيرة كشراء السيارات، بل عادة ما يقاس حجمها في مجتمع ما بعدد السيارات في بلد ما مثلاً، وكذلك في شيوع المنتجات البنكية كقروض البيوت مثلاً أو كماليات الاستهلاك المنزلي، أو المنتجات المتعلقة بالرفاهية اليومية كالحلويات والموالح وسواها. ويعول على الطبقة الوسطى بتعزيز قيم الاستهلاك والمنتجات الجديدة. لأنه بمفهوم ما، الطبقة الفقيرة لديها استعداد للتخلي عن كثير مما لا يدخل في الأساسيات، أما الطبقة الأغنى فعادة ما تنتَج لها مواد بكميات قليلة.

الطبقة الوسطى السورية حين وصلت إلى أوروبا وجدت نفسها أقرب ما تكون إلى الطبقة الفقيرة مادياً، أو لنقل بلغة أخرى أنها وجدت نفسها عارية مادياً ولم يبق لها إلا تاريخها الطبقي. ها هي تجلس اليوم مع الطبقة الفقيرة في مكاتب اللجوء، وتقف على الدور بانتظار طبق الطعام في المخيمات، وتمر بالمراحل ذاتها التي يمر بها الجميع، مهما كانت طبقتهم، هذا ليس أمراً سهلاً على المستوى النفسي.

لم يستوعب كثير من أبناء هذه الطبقة الفروقات الطبقية وطريقة التعاطي معها في أوروبا، حيث إن الشعب جميعه ها هنا تنطبق عليه الإجراءات كلها في الشأن العام والقانون، والفروقات التعليمية والمالية لا تنتج سلوكيات مختلفة فيما يتعلق بالمظهر العام

لم يستوعب كثير من أبناء هذه الطبقة الفروقات الطبقية وطريقة التعاطي معها في أوروبا، حيث إن الشعب جميعه ها هنا تنطبق عليه الإجراءات كلها في الشأن العام والقانون، والفروقات التعليمية والمالية لا تنتج سلوكات مختلفة فيما يتعلق بالمظهر العام.

ما أزعج الكثير من أبناء الطبقة الوسطى، من جذور سورية، أن هناك محاولة تعد طبقي سريعة عليهم من الطبقات الفقيرة وتجريح، نتيجة عدم استيعاب مفاهيم التحول، أو أحقاد قديمة، أو لكون الإجراءات ومراحل الحياة الجديدة بعد اللجوء متشابهة. لكنك إنْ نظرت إلى السلوك أو طرائق التعامل مع الحياة فإنك ستجد الفروقات شاسعة في التلقي والتواصل والتعاطي اليومي والسلوكيات وأخلاقيات الحياة العامة.

حرصُ الطبقة الوسطى على التعليم نقلته معها ها هنا إلى أوروبا، لكنها اصطدمت بحاجات مجتمع تركز على المهني، ويمكنني الاستشهاد بحالة المجتمع الهولندي الذي تحرص الدولة فيه على دعم الطبقة الوسطى لكن اختلاف مركزية دور الأهل في علاقتهم مع أطفالهم جعل إمكانية السيطرة على خيارات الأطفال صعبة، ولم يستطع الأهل تغيير سلوكهم بفترة قصيرة لبناء علاقة جديدة مع أطفالهم وبقيت جملة (لو كنا في سوريا لما كان الوضع كذلك)!

الطبقة الوسطى السورية في أوروبا من أكثر الطبقات كآبة، نظراً لأنها أكبر الخاسرين فيما وجدت الطبقات الأكثر فقراً الفرصة للبدء من جديد بظروف جديدة ومعطيات جديدة، وأتيح لكثير من أبنائها فرصة للعبور الطبقي.

أما أسباب الكآبة فتعود إلى التحسر على ما فات وانشغالها به وعدم القدرة على التجاوز، وشعورها أن ما عملت عليه فترة طويلة قد تم سلبه منها نتيجة اللجوء، وصرف معظم ما تملكه على الطريق قبل الوصول إلى هذه البلاد، وكذلك عدم ملاءمة تاريخها التعليمي لظروف هذه البلاد التي ترحب بالمهني أكثر من ترحيبها بالشهادات العليا.

يبحث كثير من أبناء الطبقة الوسطى السورية اليوم، بعد اللجوء، عن فرص عمل في علاقات الماضي، لكن علاقات الماضي تغيرت وتبدلت ولم تعد مستقرة اقتصادياً أو اجتماعياً، وبات كل منها مشغول بذاته ومصاعبه!

عوائل الطبقة الوسطى السورية في أوروبا أكثر طبقة تعاني من الطلاق الصامت، لأن حجم ما أصابها قد ولد صدمات كبيرة، وهي لا تستطيع أن تتشابه مع الطبقة الفقيرة في كثرة انتشار الطلاق، وعدم وجود ما تخسره، حرصاً منها على سمعتها ومحافظة على صورة الوالدين أمام أطفالهما ومحافظة على تاريخها وتميزها، لذلك يتحمل الأم والأب تبعات نفسية عنيفة كي تبقى المركبة تمشي دون فراق.

وجدت الطبقة الوسطى السورية نفسها بعد مرحلة اللجوء في مآزق كبيرة، فهي باتت تشبه الطبقة الفقيرة مادياً، وجُرِّدت من دورها معنوياً كون المجتمعات ها هنا مستقرة، وينظر إليها في المجتمعات الغربية أنهم لاجئون، أي أنهم قادمون من دول فاشلة، ويعيشون اليوم على المساعدات، وكذلك تنشغل هذه الطبقة ليل نهار بتذكير أبنائها بتاريخها المهني والاجتماعي والمالي والعملي في البلد الأم.

إحدى أكبر الإشكاليات التي تعانيها الطبقة الوسطى بعد اللجوء أن المجتمعات المستضيفة لا تعرف شيئاً عنها، والصور النمطية للاجئين عند هذه المجتمعات تضعهم في سلة واحدة، وفيها من السلبي الكثير!

الطبقة الوسطى السورية بعد اللجوء تظهر في صور عدة:

مقاتل فقد أسلحته.

بحار من دون سفينة.

أستاذ جامعي يعلق شهاداته العليا في صالون منزله باللغة العربية في مجتمعات لا تقرأ هذه اللغة.

أطفال لا يهمهم منجز أهلهم لأنه لا نيفع حاضرهم أو مستقبلهم.

صحفي يكتب مقالات أسبوعية في مجتمع لا يعرف لغته.

طبيب لم يستطع تعديل شهاداته أو أن يفتح عيادته.

وجيه اجتماعي لا أحد يحتاج إلى دوره.

علاقة زوجية تقف في عنق الزجاجة لا تستطيع الانطلاق نحو ما تريده أو نسيان تاريخها.

وطن بعيد المنال، العودة إليه تمشي نحو المستحيل أكثر مما تمشي نحو الممكن.

الطبقة الوسطى السورية بعد اللجوء: حسرات لا تنتهي لحبيبين يمسك كلٌّ منهما بيد الآخر، ليتأكد أنه هو ذاته. ذاته الذي عرفه ولم يتلاش أو يتحول إلى سراب!

ذلك أن السراب هو اليقين الوحيد، وأكثر ما يملأ أفق الحياة اليوم لدى كثير من السوريين، سراب الأصدقاء والمعارف والأفكار.

سرابٌ جعلهم، وهم يتابعون التغيرات التي أصابت كثيرين ممن حصلوا على غنى مفاجئ، أو مكانة لا تليق به؛ يردّدون:

إذا امتلأت كفُ اللئيم مِن الغِنى .. تمايلَ إعجابا وقال أنا أنا

ولكن كريم الأصل كالغصن كلما .. تحمّل أثماراً تواضع وانحنى.