icon
التغطية الحية

"أوبنهايم".. أرستقراطي ألماني عشق البداوة ورأس العين

2023.08.17 | 17:09 دمشق

Baron Max von Oppenheim
ماكس فون أوبنهايم
تلفزيون سوريا ـ بثينة الخليل
+A
حجم الخط
-A

مدينة "رأس العين" شمال غربي محافظة الحسكة على الحدود السورية التركية، هي نقطة عبور ألمانيا إلى سوريا، وهي واحدة من أهم المراكز الحضرية في بلاد ما بين النهرين، دجلة والفرات. فأول ذكر لها يعود إلى ما قبل الميلاد، أي أن عمرها آلاف السنين. إلا أن شيئا منها أصبح موجودا في ألمانيا بسبب الباحث الألماني الشهير "ماكس فون أوبنهايم".

وبسبب إغراقها في القدم، وموقعها بين تركيا والشام والعراق، حيث تعاقبت أهم وأقدم الحضارات، تختزن مدينة رأس العين، والمنطقة المحيطة بها، كنوزاً أثرية لا تحصى، تروي تاريخ الشرق، الذي يمثل تاريخ مهد الحضارة الإنسانية.

هذا الغنى الأثري جذب إلى رأس العين اهتمام الرحالة العرب ومنهم "ابن حوقل" و"ياقوت الحموي"، وجذب اهتمام وشغف المنقبين والباحثين وعلماء الآثار الغربيين، وعلى رأسهم الباحث الألماني الشهير "ماكس فون أوبنهايم".

ماكس فون أوبنهايم (1860 – 1946) أرستقراطي ألماني، محام ودبلوماسي ومؤرخ وعالم آثار، قام برحلات استكشافية إلى الشرق، منها رحلات إلى البادية السورية وبلاد الرافدين، اهتم فيها بالبدو الذين ألف عنهم عدة مجلدات، واهتم خاصة بآثار منطقة رأس العين.

فبعد أن تناهى إلى سمع العالم الألماني أهمية المنطقة، واكتشاف تماثيل ولقى ذات قيمة تاريخية كبيرة بطريق المصادفة فيها، قرر أن يأتي إلى رأس العين، ليرى عن كثب حقيقة الأمر. وقام بثلاث رحلات.

الرحلة الأولى:

في عام 1899 سافر ماكس فون أوبنهايم إلى دمشق ثم حلب ثم شمال بلاد الرافدين ممثلا عن البنك الألماني. وخلال هذه الرحلة اكتشف موقع "تل حلف" الأثري القريب من رأس العين، ونشر نتائج تنقيباته الأثرية في كتاب بعنوان "تل حلف حضارة جديدة في ميزوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين) القديمة".

حط أوبنهايم رحاله بين نهري الخابور والبليخ، وكانت حين ذاك قبيلة "الملان" بقيادة "إبراهيم باشا الملي" هي من تحكم تلك المنطقة، فزار مقر إبراهيم باشا في "ويران شهير" التي تقع شمال رأس العين بين ماردين وأورفا (في تركيا حالياً)، ونزل ضيفا عليه، وتحدث معه طويلا باللغة العربية عن مغامراته ورحلاته واكتشافاته، وكسب صداقته وإعجابه.

أوبنهايم
المصدر: zeit online

خلال جلسة أوبنهايم في خيمة إبراهيم باشا، سمع من الموجودين عن تماثيل غريبة تم العثور عليها في أثناء دفن موتى في تل يقع قرب رأس العين، ما جعله ينطلق إلى رأس العين في رحلة استغرقت 5 أيام محفوفة بالمخاطر، كون المنطقة الواقعة بين ويران شهير ورأس العين خالية من التجمعات السكانية الثابتة، ولا أمن فيها، حيث تعرض ثماني مرات لهجمات من البدو، لكنه في كل مرة كان يتفاهم معهم.

استمر الحفر في التل ثلاثة أيام بمساعدة رجال شيشان موجودين هناك، أكدوا للعالم الألماني وجود تماثيل في المنطقة. وكشف خلال أعمال التنقيب عن واجهة قصر، إضافة إلى تماثيل ولقى وآثار بالغة الأهمية. وقام أوبنهايم بإعادة طمر ما اكتشفه لأنه لم يكن يحمل تصريحا رسميا بالحفر من قبل السلطات العثمانية، بعد ذلك توجه إلى الحسكة ومن ثم إلى ألمانيا.

الرحلة الثانية:

في عام 1911 أي بعد 12 عاما، عاد أوبنهايم إلى المنطقة وهو يحمل الترخيص الرسمي بالتنقيب، وجلب المعدات الثقيلة والأجهزة العلمية وأدوات التنقيب من أوروبا إلى حلب حيث احتاجوا إلى ألف جمل لنقلها من حلب إلى تل حلف في رحلة استغرقت 20 يوما.

واجه أوبنهايم مصاعب كثيرة خلال عمله في تل حلف، منها أن منطقة تل حلف كانت تفتقد للخدمات الأساسية، ومنها عدم توفر العدد الكافي من العمال في هذه المنطقة، وعدم معرفة الموجودين بالتنقيب والحفر الأثري. وهو عمل شاق، يحتاج إلى كثير من القوة والصبر والتأني والدقة. فاضطر العالم الألماني لجلب عمال من عدة مناطق. ووصل عدد العمال البدو الذين التحقوا بالبعثة إلى 650 عاملا، بعضهم كان يترك العمل لصعوبة العمل، وظروف الطقس، وبعضهم ترك العمل تأثرا بشائعات وخرافات عن مخاطر فتح القبور والآثار القديمة.

وهكذا أصبح تل حلف يعج بالحياة، حيث بلغت أعداد الخيم التي كانت تؤوي عائلات عمال التنقيب ورجال القبائل، عدة آلاف، وكان منزل البعثة يحتضن أحيانا 70 شخصا من المشرفين على البعثة، وكان يوجد في منزل البعثة جناح لـ 12 عسكريا من الحرس التركي.

وبنهاية عام 1913 توقفت أعمال التنقيب وقام أوبنهايم بجلب التماثيل واللقى  إلى منزل البعثة وسلمها إلى عمال سكة قطار برلين -بغداد الذين أنشؤوا مقرهم الرئيسي هناك.

وأراد أوبنهايم العودة إلى تل حلف لكن الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) منعته من ذلك.

الرحلة الثالثة:

في عام 1927 عاد أوبنهايم إلى تل حلف التي لم تعد جزءا من الدولة العثمانية، وباتت جزءا من كيان دولة جديدة خاضعة للانتداب الفرنسي، اسمها سوريا، وأمضى فيها خمسة أشهر كرس بدايتها لاستخراج التماثيل واللقى من تحت أنقاض منزل البعثة. فقد كانت هناك تماثيل كثيرة محطمة في باحة المنزل، وتم استخدامها كأحجار في بناء المنازل أو بناء الطاحونة في رأس العين، ولم يستطع إلا أن يصورها ويصنع نسخا منها من الجبس من قبل مختص ألماني.

ثم سمحت له السلطات الفرنسية بالتنقيب في كامل المنطقة، فنقل عددا من التماثيل واللقى إلى حلب بالقطار ونظم متحفا صغيرا من أجلها، أما حصته فنقلها بالشاحنات من حلب إلى الإسكندرية ومنها إلى أوروبا.

وعاد أوبنهايم إلى تل حلف في عام 1929 وبدأ بحملة التنقيب الأخيرة في موقع تل حلف وجبلة البيضا (رأس التل) جنوب جبل عبد العزيز، والذي اكتشفها خلال قيامه بجولة عام 1913 في المنطقة، حيث وجد عدة آثار ولقى وتماثيل على قمة الجبل المرتفع وقام بإخفائها.

مصير الآثار التي اكتشفت في أعمال التنقيب التي قام بها أوبنهايم كشفت عن أعداد هائلة من المنحوتات واللقى الأثرية. اللقى التي تم اكتشافها عام 1911 – 1913 تم توزيعها بين حلب وألمانيا، كما ضاع قسم كبير منها بسبب الإهمال وتركها في منزل البعثة الذي دمر خلال سنوات الحرب العالمية الأولى  (1914 – 1918).

في عام 1914 وفي أثناء نقل أوبنهايم لبعض المنحوتات إلى ألمانيا استولت عليها بريطانيا في البحر المتوسط وتم نقلها إلى المتحف البريطاني. وبعضها الآخر تم تقسيمه بالتساوي بين أوبنهايم والسلطات الفرنسية.

رفض أوبنهايم إعطاء حصته من اللقى إلى المتحف الألماني حيث قام بوضعها عام 1930 في مبنى مصنع مهجور في برلين وأطلق عليه اسم متحف تل حلف، الذي تعرض للقصف عام 1943 خلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) ما أدى إلى تحطم تماثيل وآثار، تم نقلها لاحقا إلى مخزن متحف برلين عام 1944. وبين عامي 2001 و 2010 رمم علماء آثار ألمان 40 قطعة، لتصبح ألمانيا الدولة الأكثر احتفاظاً، وحفاظاً، على آثار مدينة رأس العين، بفضل عالم أحب الشرق، وعمل لحفظ تراثه وتاريخه.


المصادر:

دراسة للدكتور نضال حاج درويش

-Abenteuer Orient - Max von Oppenheim und seine Entdeckung des TellHalaf