icon
التغطية الحية

أنا والسفير الهندي "تِسامَرنا وحِچينا" | ذاكرة

2024.01.05 | 06:44 دمشق

للببب
+A
حجم الخط
-A

(تنبيه: المُسامَرة المذكورة في العنوان مفارِقةٌ للواقع من ثلاثة أوجُه. الأول أن المُسامرة لا تكون إلا ليلاً، والثاني أنها تكون بين الجُلَساء، والثالث أنها في الغالب تكون بين النُّدَماء).

أما "مسامرتي" مع سعادة سفير الهند فَجَرَت عصرًا، وعلى الهاتف، ولم تكن بيني وبينه أي صلة تُخوِّلني أن أدّعي أنه كان من جُلَسائي أو نُدَمائي. بل إنني نسيت اسمه بعد لقائه مباشرةً (وفي تلك الأيام لم تكن ذاكرتي كالغربال، كما هي اليوم). إنما المسامرة المجازية في العنوان تتناصُّ مع أغنية المطربة العراقية الراحلة وحيدة خليل (1928-1995) التي تقول في مطلعها: "أنا وخِلِّي تِسامَرْنا وحِچينا"، والتي ما إن تسمع صوتَها الأخّاذَ حتى يقفز إلى ذهنك قول الطغرائي مُتَحَسِّرًا:

"ما كنتُ أُوثِرُ أن يمتدَّ بي زمني *** حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسّفَلِ".

نعم، فما إن تسمع صوتَها الرخيمَ الرقراقَ الذي يحملك على أجنحة النشوة الرزينة والطرب الحزين حتى تتمنى لو أن العمر لم يمتد بك حتى تسمع جعير ذاك وخُوار تلك من "نجوم" الغناء العربي الذين انتشروا كالجراد المبثوث من المحيط إلى الخليج منذ أربعة عقود أو يزيد.

***

عَوْدًا على بدء. في أواخر عام 1998، أخبرني عميد كلية الآداب بجامعة تشرين أنه رشحني لترجمة اللقاء المقرَّر في صباح اليوم التالي بين سفير الهند في دمشق ومحافظ اللاذقية نواف الفارس (الذي التقيته مرةً أخرى في حفل لموسيقى الجاز أقامته في اللاذقية السفارةُ الأمريكيةُ بدمشق في ربيع 1999).

طلب مني العميد أن أتواصل مع الفندق الذي يقيم فيه السفير وأن أرتِّب مع سكرتير السفارة كيف وأين نلتقي في اليوم التالي، وأخبرني أن هذا السكرتير ينتظر مكالمة مني. يومها لم يكن عندي جَوّال – أذكر أن ثمنه في تلك الأيام كان يعادل أربعة آلاف دولار – ولم أرَ سوريًا يحمل جوالاً إلا فلَك بنت جميل الأسد التي كانت معيدةً في قسم اللغة العربية في كلية الآداب. ومن طرائف ما أحدثه جوال فلك الأسد في الكلية أن أحد الزملاء (وكان عضو قيادة قطرية حينها أيضًا) حين رآها تحمل السِّلْيُولير (كان هذا مُسَمَّاه حينها)، أراد أن "يكولِك" لها فقال لها على السجية البلهاء: "شو، سِت فَلَك؟ مايكرويڤ؟" نعم، نعم، يا سادتي، في ذلك الزمن الأگشَر حتى عضو القيادة القطرية لم تَدْرُجُ على لسانه كلمة سِلْيولير، فتناول من الميسور ما تناول، وما عليه إذا لم تفهمِ البقرُ (مع الاعتذار من البُحْتُري).

أما أنا فلم يكن عندي حتى هاتف أرضي (كان عليَّ أن أنتظر بضعة أشهر أخرى ووساطة ثقيلة لدى مديرية الهاتف). ذهبت عصرًا إلى بقالية الحارة واتصلت من هناك بفندق المريديان، وطلبت من الموظف أن يصلني بغرفة السكرتير الأول في السفارة الهندية. ردَّ الرجل، فعرَّفته بنفسي وبغرض الاتصال، فأخبرني مُحدثي أنه هو السفير بشحمه ولحمه، وليس السكرتير. اعتذرت منه عن خطأ موظف الفندق، وقلت له إنني سأعاود الاتصال وسأكلم السكرتير. قال لي السفير ما معناه لا داعي لذلك. وكانت تلك أول مرة بحياتي أخاطب سفيرًا. وكنت من قبل أظن أن السفراء صنف آخر من البشر، وأن لهم هيبةً لا نُدانيها نحن البؤساء في الأرض. لكن بعد دقائقَ معدودةٍ، تداعت كل هذه التصورات المسبقة، وأحسستُ أنني أخاطب بشرًا عاديًا. أخبرني أنهم بحاجة إلى خبرتي في الترجمة عند لقائهم المحافظ، وعرض عليَّ أن أرافقهم بعد ذلك – إن شئت – للقاء مدير الكلية البحرية، مع أنهم ليسوا بحاجة إليَّ هناك (إما لأن مدير الكلية يتكلم الإنجليزية وإما لأن لديه مترجمه الخاص، لم أعد أتذكر). سألني كيف سآتي إلى مكتب المحافظ. قلت له إنني سآخذ تكسي إلى هناك (هنا تشعر بأن مستوى الحديث قد بدأ يهبط إلى مستوى آخر يمكن أن يدور بينك وبين حماتك، لكن ليس بينك وبين سفير دولة كبرى). فوجئت بأن الرجل يطلب مني بكل لباقة أن أعطيهم عنواني وهم سيأتون في صباح الغد ويأخذوني بسيارتهم، ثم ننطلق للقاء المحافظ! وبما أنني منذ دقائق أشعر بأنني أخاطب زميلاً بائسًا مثلي (لا يملك سِلْيولير ولا حتى مايكرويڤ)، قلت له بسذاجةِ هَبَنَّقة: "وهل عندكم سيارة؟" فات الأوان ولم يكن ممكنًا استرداد كلماتي من أسلاك الهاتف قبل أن تصل إلى سمع السفير (الإخوة في أجهزة المخابرات، أنا متأكد أنكم تحتفظون بنسخة من تلك المكالمة الگشْرة – ما لم تأكلها الفئران – فحبذا لو طرَّشتم لي نسخةً منها، فهي جزءٌ من تراثي اللامادي، ولكم الأجر والثواب).

***

في صباح اليوم التالي، وصلت إلى مكتب المحافظ قبل الموعد بدقائق. جلست قليلاً عند السكرتير قبل أن يُقْبِل السفير والسكرتير الأول، ودخلنا مكتب المحافظ معًا. ثم دخل في إثرنا وفدٌ من الصحفيين المحليين، ولم يكن من بينهم من يعرف الإنجليزية. دام اللقاء نحو نصف ساعة، ولم أعد أتذكر من تفاصيله إلا أن السفير اقترح على المحافظ إقامة شراكة توأمة بين اللاذقية ومومباي، لكون كلتيهما مدينةً ساحليةً. خرج الصحفيون قبلنا، وودَّع المحافظُ ضيفَه، وخرجتُ أنا وسكرتير السفارة في إثر السفير. وعندما خرجنا من مكتب سكرتير المحافظ ناولني سكرتير السفارة مظروفًا فيه مبلغ من المال لقاء أتعابي، وطلب مني أن أرسل لهم نسخة الغد من صحيفة "الوحدة" التي تصدر في اللاذقية. وبالفعل، اشتريت في اليوم التالي نسختين: واحدة لأُرسِلها للسفارة الهندية، وواحدة لأحتفظ بها لنفسي (لكنها ضاعت فيما بعد كما ضاعت صنعاءُ بصندوقِ وَضَّاحٍ، على ذِمَّة البَرَدُّوني، رحمه الله). صعقني أن الصحفي الذي غطى اللقاء ذكر أمرًا لم يناقشه السفير مع المحافظ، مع أنني كنت أول من دخل مكتب المحافظ مع السفير وآخر من خرج منه معه أيضًا.

تذكرت حينها أنني قبل سنة أو نحوها قلت لطلابي وأنا في غاية الغضب من لا مبالاتهم تجاه دراستهم إن الوحي قد انقطع منذ أكثر من 14 قرنًا، فإذا كانوا ينتظرون أن ينزل عليهم الوحي يوم الامتحان لإنقاذهم من الرسوب المحتوم، فهم واهمون. ثم أتى عليَّ حينٌ من الدهر تبيَّن لي فيه أنني كنتُ أنا الواهم. فما زال "الوحي" (نعوذ بالله من وحي الشياطين) ينزل على السَّفَرَة المُنْتَجبين الذين ينسخون في صحف البلاد من "لوحهم المحفوظ" ما لا نسمعه نحن حُفاة البشر بآذاننا.