تشهد إيران اليوم أسوء موجة اضطرابات سياسية منذ تولي نظام الخميني الحكم في البلاد قبل 40 عاماً، وواجهت قوات الأمن الإيرانية المتظاهرين بالعنف المفرط ما تسبب بمقتل ما بين 180 – 450 متظاهراً خلال أسبوعين فقط، وذلك بعد أن تحولت الاحتجاجات على قرار رفع أسعار المحروقات بنسبة 50%، إلى مظاهرات تطالب بإسقاط النظام الإيراني وحكومته المتهمة بالفساد.
وقالت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في مقال بعنوان "مع القمع الوحشي تعيش إيران اليوم أسوأ موجة اضطرابات زلزلتها منذ أربعين عاماً"، إن الاحتجاجات التي بدأت منذ أسبوعين عند رفع أسعار المحروقات بنسبة 50% على الأقل بشكل غير مسبوق، تحولت في غضون 72 ساعة، إلى مظاهرات غاضبة في سائر المدن للمطالبة بإنهاء عمل حكومة النظام الإيراني وإسقاط قياداتها.
وردّت قوات الأمن الإيرانية في الكثير من المناطق عبر فتح النار على المتظاهرين السلميين، وغالبيتهم من الشباب العاطلين عن العمل أو ذوي الدخل المحدود ممن تتراوح أعمارهم ما بين 19-26، بحسب شهادات أدلى بها شهود أو وفقاً لما ورد في الفيديوهات التي وثقت الأحداث. ففي مدينة ماهشهر وحدها الواقعة جنوب غرب البلاد، ذكر شهود وعاملون في المجال الطبي بأن فيلق الحرس الثوري الإيراني حاصروا وقتلوا ما بين 40-100 متظاهر، معظمهم شبان غير مسلحين، وذلك داخل هور لجأ إليه هؤلاء المتظاهرين هرباً من قوات الأمن.
وحول ذلك يعلق أوميد ميماريان وهو نائب مدير مركز حقوق الإنسان في إيران -وهي مجموعة حقوقية مقرها نيويورك- بالقول: "إن استخدام القوة القاتلة ضد الناس مثلما حدث مؤخراً في عموم البلاد لهو استخدام غير مسبوق، حتى بالنسبة للجمهورية الإسلامية وسجلها مع العنف".
وهكذا قتل ما بين 180-450 شخصاً خلال أربعة أيام بسبب العنف المكثف من قبل الأمن الإيراني، فضلاً عن إصابة ألفي شخص بجروح واعتقال سبعة آلاف آخرين، بحسب ما أوردته منظمات دولية حقوقية ومجموعات معارضة وصحفيون محليون.
الذي يحصل اليوم لا يُقارن باحتجاجات 2009
هذا ولقد قوبلت موجة الاحتجاجات الهائلة السابقة في إيران، والتي ظهرت عام 2009 عقب السباق الانتخابي، بقمع مفرط أدى لمقتل 72 شخصاً خلال فترة زمنية أطول امتدت لعشرة أشهر.
ولم تكشف حالات الاضطراب التي وقعت مؤخراً مدى تأرجح حالة السخط على قادة إيران وحسب، بل كشفت أيضاً وبكل وضوح خطورة التحديات الاقتصادية والسياسية التي يواجهونها، ابتداء من العقوبات المرهقة التي فرضتها على البلاد إدارة ترمب وصولاً إلى حالة السخط المتزايدة تجاه إيران من قبل دول الجوار ضمن الشرق الأوسط الذي تعصف به حالة من عدم الاستقرار والاضطرابات الجامحة.
فلقد تم الإعلان عن زيادة سعر المحروقات في وقت خلد فيه معظم الإيرانيين للنوم، وقد أتى ذلك الإعلان كمحاولة من قبل إيران لسد الثغرة في ميزانيتها. وتعتبر العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب أهم عائق فرض على صادرات إيران من النفط والسبب الرئيسي لظهور هذا النقص. وقد أتت تلك العقوبات كنوع من الضغط على إيران لإرغامها على التفاوض مرة أخرى بخصوص الاتفاق النووي الذي تم توقيعه عام 2015 بين إيران والقوى العظمى في العالم، إلا أن الرئيس ترمب خرج من تلك الاتفاقية واصفاً إياها بالضعيفة.
هذا وقد خرجت معظم التظاهرات التي عمت البلاد في المناطق والمدن التي يقطنها مواطنون من الطبقة العاملة وذوي الدخل المحدود، مما يشير إلى أنها انتفاضة ولدت ضمن القاعدة الشعبية التي كانت موالية عبر تاريخها لهرمية السلطة بعد "الثورة الإسلامية".
وهكذا صب الكثير من الإيرانيين الذين تعرضوا لحالة من الاستغباء والسخط، جام غضبهم على المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بشكل مباشر، كونه وصف عملية القمع برد فعل مبرر على مؤامرة حاكها أعداء إيران في الداخل والخارج.
وقد شجعت عمليات القتل زعيم المعارضة والمرشح الرئاسي السابق -الذي أدت خسارته لانتخابات عام 2009 إلى خروج مظاهرات سلمية قمعها آية الله خامنئي بالقوة- السيد حسين موسوي على الإعلان عن إنذار استفزازي ضد كل ما يجري.
ففي بيان نشر يوم السبت الماضي على موقع إلكتروني معارض، تحدث السيد موسوي الذي أصبح تحت الإقامة الجبرية منذ عام 2011، والذي نادراً ما يتوجه بالخطاب للعامة، فأنحى باللائمة على المرشد الأعلى بسبب ما تشهده البلاد من قتل. وقارن ذلك بمجزرة عام 1978 المشينة التي نفذتها قوات الحكومة وأدت لسقوط الشاه محمد رضا بهلوي بعد ذلك بعام كامل، وذلك على يد عناصر الثورة الإسلامية الذين يحكمون البلاد الآن.
وقال: "لقد كان من قام بالقتل عام 1978 يمثل النظام غير الديني أما عناصر وقناصة أحداث تشرين الثاني/نوفمبر 2019 فيمثلون الحكومة الدينية، وقتها كان رئيس الأركان هو الشاه نفسه، أما اليوم فالمرشد الأعلى يمثل السلطة المطلقة".
هذا وقد رفضت السلطات تحديد عدد الضحايا والمعتقلين كما أنكرت الأرقام غير الرسمية التي تتعلق بعدد القتلى في البلاد ووصفتها بأنها مجرد تخمينات. غير أن وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني فضلي تحدث عن ظهور اضطرابات عمت مختلف أنحاء البلاد.
إذ ذكر عبر الإعلام الرسمي الإيراني قيام احتجاجات خرجت في تسع وعشرين من أصل إحدى وثلاثين ولاية وتمت مهاجمة خمسين قاعدة عسكرية، وهذا إن كان صحيحاً فإنما يدل على غياب التنسيق في الاحتجاجات السابقة. كما أوردت وسائل الإعلام الرسمية في إيران مقتل عدة أفراد من القوات الأمنية وإصابة آخرين بجروح في اشتباكات وقعت مع المتظاهرين.
وتضمنت الممتلكات التي تعرضت للتخريب 731 مصرفاً، و140 أرضاً مشاعاً، وتسعة مراكز دينية، و70 محطة بنزين، و307 مركبات، و183 سيارة شرطة، و1076 دراجة نارية و34 سيارة إسعاف، بحسب ما أورده وزير الداخلية.
مجازر دموية في مدن الأحواز
أما أسوأ مظهر من مظاهر العنف حتى الآن فيتمثل بما تم توثيقه في مدينة ماهشهر وريفها، والبالغ تعداد السكان فيها 120 ألف نسمة وذلك ضمن إقليم الأحواز جنوب غرب البلاد، وهي منطقة تشتمل على أغلبية عربية عرقية عاشت تاريخاً طويلاً من الاضطرابات والمعارضة للحكومة المركزية في طهران. وتعد مدينة ماهشهر قريبة من مجمع مصانع بتروكيماوية تعتبر الأكبر في البلاد، وتعتبر بوابة على أهم ميناء وهو ميناء بندر إمام.
ولقد التقت صحيفة نيويورك تايمز بستة من أهالي هذه المدينة، بينهم قائد للاحتجاجات عاش لحظات العنف، وهو صحفي من هذه المدينة يعمل لصالح الإعلام الإيراني، وقد أجرى تحقيقات حول العنف ثم تم منعه من نشر تلك التحقيقات، بالإضافة إلى ممرضة تعمل في مشفى هناك وقامت بمعالجة العديد من الإصابات.
وكلاهما قدم لنا الرواية ذاتها تقريباً حول قيام الحرس الثوري بنشر قوات كبيرة في مدينة ماهشهر يوم الاثنين الماضي الواقع في 18 من تشرين الثاني/نوفمبر، وذلك بهدف قمع المتظاهرين. وكلاهما تحدث بشرط عدم الكشف عن اسمه مخافة أن يتعرض لانتقام قوات الحرس الثوري.
وخلال ثلاثة أيام، بحسب ما أورده أهالي تلك المدينة، تمكن المحتجون من السيطرة على معظم أنحاء المدينة وضواحيها، فقطعوا الطريق الرئيسي المؤدي إليها مع مجمع معامل الصناعات البتروكيماوية. وقد أكد وزير الداخلية الإيراني سيطرة المحتجين على مدينة ماهشهر والطرق المؤدية إليها في مقابلة متلفزة بثت خلال الأسبوع الماضي، إلا أن الحكومة الإيرانية لم تعلق على أسئلة محددة وجهت لها خلال الأيام الماضية حول عمليات القتل الجماعية التي نفذت في تلك المدينة.
ولقد حاولت القوات الأمنية المحلية وكذلك قادة شرطة مكافحة الشغب تفريق الجموع وفتح الطرقات، لكنهم فشلوا في ذلك بحسب ما أورده الأهالي. ثم وقعت اشتباكات عدة بين المحتجين وقوات الأمن وذلك خلال الفترة الواقعة ما بين مساء السبت حتى صباح الإثنين قبل إرسال قوات الحرس الثوري إليها على جناح السرعة.
وعند وصول قوات الحرس الثوري واقترابها من مدخل ريف المدينة، عند منطقة شهرك تشامران التي تقطنها غالبية عربية عرقية من ذوي الدخل المحدود، شرعت تلك القوات بإطلاق النار على الفور دون أي إنذار فاستهدفت عشرات الرجال الذي قطعوا الطريق المؤدي إليها، ما أدى لمقتل عدد منهم بشكل فوري، بحسب ما أورده بعض الأهالي الذين أجريت معهم مقابلات عبر الهاتف.
وقد ذكر هؤلاء بأن بعض المحتجين تزاحموا على الوصول إلى هور قريب، وبأن أحدهم كان مسلحاً بسلاح AK-47 وقام بالرد على قوات الحرس الثوري واستهدافهم، فما كان من تلك القوات إلا أن طوقت الرجال وحاصرتهم على الفور وردت عليهم بنيران أسلحة آلية، ما أدى لمقتل ما يقارب من 100 شخص بحسب ما ذكر الأهالي.
السياسة الأمنية الدموية لدى النظام الإيراني
وعندها قامت قوات الحرس الثوري بجمع جثث الضحايا على ظهر شاحنة ونقلها خارج المدينة، بعدها قام أقارب الجرحى بنقلهم إلى مشفى ميمكو.
وقد ذكر أحد الأهالي، وهو شاب في الرابعة والعشرين من العمر، عاطل عن العمل بالرغم من أنه يحمل إجازة في الكيمياء، وهو أحد الناس الذين ساهموا في تنظيم احتجاجات لقطع الطرقات، بأنه كان على مسافة تقل عن ميل واحد عن الحرس الثوري عندما فتح النار بشكل عشوائي على الناس وبأن صديقه المقرب البالغ من العمر 24 عاماً أيضاً وابن عمه البالغ من العمر 32 سنة قتلا في تلك العملية.
وذكر هذا الشاب بأن كليهما أصيبا بطلقة في الصدر وتمت إعادة جثتيهما إلى عائلتيهما بعد مرور خمسة أيام على الحادث، أي بعدما قامت العائلتان بالتوقيع على أوراق تعهدتا فيها بعدم إجراء مراسم جنازة أو تأبين لكلا الفقيدين وعدم إجراء أي مقابلات حول هذا الموضوع مع الإعلام.
وقد ذكر منظم الاحتجاجات الشاب أيضاً بأنه تعرض لطلق ناري أصاب أضلاعه في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر، أي بعد يوم من عمليات القتل الجماعية، وذلك عندما اقتحمت قوات الحرس الثوري بالدبابات الحي الذي يقيم فيه واسمه شهرك تاليغاني، والذي يعتبر من أفقر ضواحي مدينة ماهشهر.
وأكد هذا الشاب قيام معركة بالبنادق والرشاشات استمرت لساعات بين قوات الحرس الثوري والعرب من أهالي هذه المنطقة، والذين من عاداتهم الاحتفاظ ببنادق للصيد في بيوتهم. وقد ذكر الإعلام الرسمي الإيراني وكذلك شهود على الحادثة مقتل أحد قادة الحرس الثوري في اشتباك وقع بمدينة ماهشهر، فيما يظهر فيديو تم رفعه على تويتر الدبابات التي تم نشرها هناك.
فيما تحدثت ممرضة تبلغ من العمر 32 عاماً من مدينة ماهشهر تم الوصول إليها عبر الهاتف بأنها قدمت العناية للجرحى في المشفى وبأن معظمهم تعرض لجروح بسبب طلق ناري في الرأس أو الصدر.
كما وصفت لنا حالة التشوش والفوضى التي عمت أرجاء المشفى بعدما تزاحم الأهالي لنقل جرحاهم بينهم شاب في الحادية والعشرين من العمر كان على وشك أن يزف عريساً لكن ذلك لم يحدث بسبب وفاته، وهنا تصف لنا أمه وهي تبكي وتقول: "أعيدوا لي ابني! سيزف عريساً في غضون أسبوعين!"
وقد ذكرت هذه الممرضة بأن قوات الأمن انتشرت في المشفى لتقوم باعتقال بعض المتظاهرين الجرحى بعدما استقرت حالتهم، كما أفادت بأن بعض أقاربهم كانوا يخشون من الاعتقال، ولهذا قاموا بنقل جرحاهم إلى المشفى ثم فروا هاربين بعدما غطوا وجوههم.
صرخة غضب في البرلمان
وفي الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر أي بعد أسبوع على الأحداث نفّس ممثل هذه المدينة في البرلمان وهو محمد غولمورداي عن غضبه عندما وجه انتقادات حادة ضد الحكومة وقد تم بث كل ذلك عبر التلفزيون الرسمي الإيراني، كما تم التقاط صور ومقاطع فيديو لما جرى ورفعها على شبكة الإنترنت.
حيث صرخ غولمورداي في البرلمان وقال: "ما الذين فعلتموه ولم يفعله الشاه سيء الصيت؟" وعندها قام شجار حاد بينه وبين بقية أعضاء البرلمان، بينهم ذلك العضو الذي حاول خنقه من رقبته.
وقد ذكر صحفي محلي في ماهشهر بأن العدد الإجمالي للقتلى خلال ثلاثة أيام من الاحتجاجات في تلك المنطقة قد وصل إلى 130 بينهم هؤلاء الذين قتلوا في الهور.
وفي مدن أخرى مثل شيراز وشهريار وثق مقتل العشرات في الاحتجاجات على يد قوات الأمن التي أطلقت النار على المتظاهرين العزل، بحسب ما أوردته مجموعات حقوقية وما ظهر في مقاطع فيديو نشرها شهود عيان على شبكة الإنترنت.
وحول ذلك حدثنا يوسف الصرخي وهو ناشط سياسي من الأحواز هاجر إلى هولندا منذ أربع سنوات بالقول: "إن هذا النظام يدفع الناس إلى العنف، فكلما قمعهم أكثر زاد ذلك من عدوانيتهم وغضبهم".
وذكر محللون سياسيون بأن هذه الاحتجاجات ظهرت لتوجه ضربة قاسية للرئيس حسن روحاني الذي يعتبر معتدلاً بعض الشيء ضمن الطيف السياسي في إيران، وبأن كل ذلك يضمن فوز المتطرفين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة التي ستعقد بعد سنتين.
هذا وتعتبر ردة الفعل القاسية تجاه التظاهرات دليلاً على عمق الهوة بين قادة إيران وشريحة كبيرة من السكان البالغ عددهم 83 مليون نسمة.
وحول ذلك يعلق هينري روم وهو محلل مختص بالشأن الإيراني لدى مجموعة أوراسيا وهي مجموعة استشارية مختصة بالمخاطر السياسية في واشنطن فيقول: "أتى رد فعل الحكومة بشكل عنيف ووحشي وسريع"، غير أن الاحتجاجات برأيه ماتزال "تظهر بأن الكثير من الإيرانيين لا يهابون فكرة الخروج إلى الشوارع".