أسبوع الجاسوسية

2019.09.16 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان الأسبوع الماضي حافلاً بأخبار الجواسيس والجاسوسية. ففي التاسع من شهر أيلول الجاري بثت شبكة سي إن إن الإخبارية الأميركية خبراً أثار الصدمة عن أن وكالة المخابرات المركزية قامت بـ"سحب" جاسوس لها تم زرعه، قبل سنوات، في إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من غير أن تعلن اسمه حفاظاً على سلامته. استطاع هذا الجاسوس أن ينال ثقة السلطات العليا في روسيا فكان عضواً نشطاً في مجلس الأمن القومي الروسي، وواظب على تزويد الأميركيين بالمعلومات من موقعه هذا.

أما عن أسباب قرار سحبه وإعادته إلى الولايات المتحدة، فقد صدر القرار خوفاً عليه من انكشاف أمره، بسبب هواجس الوكالة من تسريبات محتملة للرئيس دونالد ترمب أثناء لقاءاته بالرئيس الروسي، ربما من غير قصد! فقد عرف عن ترمب ميله إلى الاستعراض بخصوص معرفته لمعلومات لا يعرفها غيره. بالمقابل يتمتع بوتين، بحكم ماضيه المهني، بتلك الغريزة الاستخبارية التي تدفعه إلى استدراج جلسائه، ببراعة، إلى الإفضاء بما لديهم. وهناك سوابق لترمب سرب فيها كلاماً، مما لا يقال إلا في الخلوات الثنائية، لبعض رؤساء الدول الذين التقاهم إلى رؤساء آخرين!

في تموز 2017، كان ثمة لقاء ثنائي بين ترمب وبوتين، على هامش انعقاد قمة العشرين في هامبورغ. عند انتهاء اللقاء

تتجه الشكوك إلى أن سمولينكوف هو المقصود في خبر سي إن إن عن سحب عميل المخابرات المركزية من موسكو

فعل ترمب شيئاً غريباً لم يسبق له أن فعل مثله، فقد سحب الملاحظات التي كان المترجم يدونها في دفتره واستولى عليها. وهو ما أثار مخاوف المخابرات المركزية التي بدأت من فورها تنفيذ عملية استخبارية لسحب عميلها من روسيا.

بعد هذه الحادثة بفترة قصيرة، "اختفى" أوليغ سمولينكوف عضو مجلس الأمن الروسي – مع عائلته عن الأنظار، حين كان يقضي إجازته في جمهورية الجبل الأسود (من بقايا تفكك الاتحاد اليوغسلافي). ثم ظهر في الولايات المتحدة حيث يقيم إلى الآن بعيداً عن الأضواء. تتجه الشكوك إلى أن سمولينكوف هو المقصود في خبر سي إن إن عن سحب عميل المخابرات المركزية من موسكو.

وفي الأسبوع الماضي أيضاً بدأت ردود فعل مشاهدي مسلسل "الجاسوس" تظهر في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي. وموضوع المسلسل من إنتاج إسرائيلي هو قصة الجاسوس الشهير إيلي كوهين الذي نجح في اختراق دوائر السلطة في سوريا في مطلع الستينات. لم يتسن لي أن أشاهد المسلسل أو حلقات منه، لكني لاحظت في ردود فعل مشاهديه على شبكة فيسبوك إجماعاً على انتقاده بشدة بسبب تفاهة المعالجة الفنية لقصة كوهين. فالمسلسل، وفقاً لمنتقديه، لا يتجاوز كونه بروباغندة رخيصة لـ"بطولة" الجاسوس الشهير ووطنيته التي دفع حياته ثمناً لها.

يختلف فيلم المخرج الأميركي أوليفر ستون عن أدوارد سنودن ("سنودن" 2016) اختلافاً جذرياً عن تلك المعالجة الفنية المبتذلة – كما يقال - لمسلسل "الجاسوس". فالمشاهد يخرج بانطباع إيجابي عن العميل المنشق عن وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي الأميركيتين. وهو ما يعكس موقف قسم من الرأي العام الأميركي على أي حال. فحين أعلن سنودن انشقاقه، في العام 2013، انقسم الرأي العام إلى قسمين متساويين تقريباً، فاعتبره البعض خائناً لبلده، وبعض آخر بطلاً منشقاً لأسباب مبدئية. هذا الرأي الثاني هو ما يصل إلى مشاهد فيلم ستون. بالفعل تطور موقف سنودن بصورة متدرجة من الأعمال التي تقوم بها أجهزة المخابرات الأميركية، فتحول من وطني تطوع في القوات الخاصة، ثم في وكالة الاستخبارات المركزية بعد إصابته بكسر في ساقه، إلى ناقم على ما تقوم به تلك الأجهزة بذريعة محاربة الإرهاب، فتتجسس على الحياة الخاصة لملايين الأميركيين وغير الأميركيين عبر العالم، وصولاً إلى ترتيب خطة للفرار مع آلاف المعلومات الاستخبارية الحساسة قام بسرقتها من الجهاز. ولم يلجأ إلى روسيا ليبيع الروس تلك المعلومات بل بوصفها ملاذاً آمناً له. أما المعلومات فقد تبرع بها لوسائل الإعلام بلا مقابل، والمقصود هو كشف الأعمال القذرة التي تقوم بها الوكالتان الاستخباريتان، وليس معلومات يمكن لأعداء الولايات المتحدة أن يستخدموها ضدها. لذلك فقد ساعده، في انتقاله من هونغ كونغ إلى موسكو، أحد نشطاء مجموعة ويكيليكس الشهيرة.

قبل أيام ظهر سنودن في أول إطلالة إعلامية له، بعد ست سنوات من التخفي. فقد كان يخشى على حياته من عملاء أميركيين يحتمل أن يقوموا بتصفيته أو اختطافه لمحاكمته في الولايات المتحدة. أما الآن فهو يشعر بالأمان، كما قال في مقابلة له مع صحيفة غارديان البريطانية، ويخرج من غير لفحة عنق وقبعة كما كان يفعل سابقاً، ويحضر المناسبات الاجتماعية والثقافية. يقول بصدد هذا التحول لديه من الخوف إلى الشعور بالأمان إن الرأي العام الأميركي بات أكثر تسامحاً ومرونة مع حالته. بيرني ساندرز الذي يريد الفوز بترشيح الحزب الديموقراطي له للانتخابات الرئاسية في 2020، أعلن عن رغبته بإصدار قانون يتيح لسنودن العودة إلى بلده من غير أن يتعرض للمحاسبة. ومرشح ديموقراطي آخر وعد بإصدار عفو رئاسي خاص من أجل سنودن.

لا نعرف، ولا يمكننا أن نعرف، ما إذا تمكنت الاستخبارات الروسية من شراء سنودن أم لا. لكن المعلن من سيرته

نعرف أن إيلي كوهين كان وطنياً يخدم بلده إسرائيل، بصرف النظر عما يقال من إسفاف المسلسل الذي يحكي عنه

يضعه في فئة المنشقين أكثر منه من فئة الجواسيس. فهو، منذ انشقاقه إلى اليوم، ليس في موقع يتيح له التجسس ضد بلده لصالح روسيا أو غيرها. وانشقاقه سياسي، وجاء احتجاجاً على النهج المتبع في أجهزة الاستخبارات الأميركية، وبعدما شعر باليأس من إمكانية تغيير ذلك على يد الرئيس السابق باراك أوباما الذي كان سنودن يعلق آمالاً عريضة عليه.

بالمقابل، نعرف أن إيلي كوهين كان وطنياً يخدم بلده إسرائيل، بصرف النظر عما يقال من إسفاف المسلسل الذي يحكي عنه. أما الروسي العميل للولايات المتحدة الذي كشفت عنه قناة سي إن إن فلا نعرف، إلى الآن دوافعه، إن كانت المال أم الانحياز السياسي ضد سياسات بوتين.

من المحتمل أن الأرض السورية المفتوحة والمجتمع المتفكك كانا، طوال السنوات السابقة، مرتعاً لمختلف أجهزة الاستخبارات، هذا ما لم نذكر فترة استقرار نظام الأسد قبل الثورة. فآخر ما ظهر للعلن، بهذا الخصوص، هو خبر يعود إلى أواخر العام 2010 أو بداية العام التالي، حيث كانت مخابرات نظام حسني مبارك قد أعطت معلومات للأجهزة السورية بخصوص شبكة تجسس لصالح إسرائيل يقودها ضابط استخبارات سوري لم يكشف النظام عن هويته ولا ما إذا تمت محاسبته أصلاً. فـ"عملاء إسرائيل والإمبريالية الأميركية" في عرف النظام، هم ملايين السوريين الذين تمردوا عليه طلباً للحرية والعدالة، وليس جواسيسهما الحقيقيين داخل بنية النظام نفسه.