أزمة الخبز في حلب عام 2012

2020.02.17 | 23:07 دمشق

lala.jpg
+A
حجم الخط
-A

شهدَت فترة حراك الثورة السلمي في مدينة حلب نشاطاً مميزاً لطلاب جامعة حلب، والذي تم تتويجه أواخر عام 2011 بتأسيس تنسيقية جامعة الثورة، والتي أصبحتُ فيها ممثلاً عن كليتي العمارة والفنون الجميلة في بدايات عام 2012، حيث تمكنَت التنسيقية في الفترة الممتدة منذ تشرين الثاني عام 2011 وحتى تموز من عام 2012 من تنظيم حراك الطلبة الثوري، ودفعه إلى مستوى جديد لم تنحصر فيه مظاهراتهم داخل الحرم الجامعي، بل انتقلَت إلى محيطه في عدد من الشوارع الرئيسية وفي ساحة الجامعة، كما لعبَت التنسيقية دوراً مميزاً في تنظيمها عدداً من الأنشطة السلمية ذات الصدى الإعلامي الواسع، والتي أحرجَت نظام الأسد محلياً ودولياً، مفنّدة إشاعته بأنّ من يتظاهرون في سوريا هم من أهل السوابق وأصحاب الشرور.

اقرأ أيضاً مقالاً سابقاً للكاتب: جامعة الثورة .. تنظيم الكليات

اقرأ أيضاً مقالاً سابقاً للكاتب: جامعة الثورة .. المظاهرات الكبرى

لكن مِيزة التنسيقية لم تقتصر على مكان نشاطها في حرَم واحدة من أكبر جامعات المنطقة، بل تميّزتْ بالنقاشات المحمومة التي دارتْ بين أعضاء الهيئة العامة فيها، والتي ضمّت نحواً من 800 عضو كانوا جميعاً طلاباً جامعيين، حيث كانت مجموعة التنسيقية الأساسية على برنامج "فيسبوك" منتدى لطرح الأفكار ونقاشها، بين شبابٍ يتعطّشون لتبنّي أفكارهم بعيداً عن عين الرقيب وسطوة أجهزة المخابرات، فظهرَتْ ثنائيّات الثورة السورية الأولى في تلك النقاشات، مقسِّمة الطلاب إلى مجموعات متمايزة تتجمّع حول أفكارها، فكان فيها مَنْ يؤمنون بوجوب استمرار نهج الثورة السلمي \ يقابلهم الدّاعمون لضرورة التسلّح دفاعاً عن مطالب الثورة وحمايةً لها، كما تواجد فيها المتعصّبون لمركزيّة المدينة في الثورة "مدنيّ"\ قابلهم المبشّرون بالأرياف كحواضن الثورة الأهم "ريفيّ"، إلّا أنّ أكثر الثنائيات حدّيةً وتوتُّراً كانت ثنائية إسلامي\علماني أو إسلامي\مدني، فلم يكن مُعَرَّفاً تماماً ماهية الطرف الذي يقابل التوجه الإسلامي، وجمَعَه غالباً -آنذاك- التخوّف من التوجّه الديني والتّخندُق في مواجهته، كما لم يكن التوجّه الإسلامي نفسه واضحاً لدى كثيرٍ ممّنْ تبنّوه في تلك النقاشات المحمومة، والتي كانت تبدأ بطبيعة الهتافات في مظاهرات الجامعة، وتنتهي غالباً بالاختلاف على شكل الدولة ما بعد إسقاط النظام!

كانت النقاشات الشّبيهة ضمن "جامعة الثورة" أمراً مرهقاً بحقّ، وحمَلَت داخلها بذور انقسام التنسيقيّة مستقبلاً، على أساس اندماج أطراف الثنائيّات السابقة في تيّارين رئيسيَّيْن: الأول (إسلاميّ.. ريفيّ.. يدعم التسلح) والثاني (علمانيّ.. مدنيّ.. يرفض التسلح)، مع وجود كثيرين خرجوا عن حدّية التيّارَين متبنّين ثنائيّة دون اعتراف بالأخرى، كأن يكون أحدهم (علمانيّاً.. ريفيّاً.. يدعم التسلّح) أو (إسلاميّاً.. مدنيّاً.. يرفض التسلح)، لكنّ هؤلاء كانوا القلّة.

ثمّ دخل الجيش الحر إلى مدينة حلب في رمضان\آب عام 2012 مُسرِّعاً انقسام التنسيقيّة المحتوم، فانتقلتُ مع أكثر متبنّي التيار الأول (إسلاميّ.. ريفيّ.. يدعم التسلّح) إلى الأحياء الشرقيّة في المدينة والتي باتت منطقة مُحرّرة، فيما بقيَ أغلب متبنّي التيار الآخر في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، مع وجود حالات خاصة شذَّتْ عن هذا التعميم.

هيئة الشباب المسلم

انضمّ عددٌ من طلاب الجامعة -من أبناء التيّار الأول- إلى التشكيلات المسلحة المختلفة، بدءاً من كتائب محلية من الجيش السوري الحر مثل لواء حلب الشهباء، ومروراً بالتشكيلات الكبرى التي دخلَت مدينة حلب مثل لواء التوحيد، ووصولاً إلى المجموعات التي كانت تتبنّى منهج السلفية الجهادية مثل كتائب أحرار الشام وحركة الفجر وحتى جبهة النصرة، وبات هؤلاء صلة وصلٍ بيننا –نحن الذين لم نحمل السلاح آنذاك من طلبة الجامعة- وبين التشكيلات العسكرية التي أصبحَت في فترة قصيرة تدير مساحات واسعة من المناطق المحررة، فضلاً عن الكتلة الأكبر من مدينة حلب في أحيائها المحررة.

بينما تداعى من تبقى من أفراد التيّار نفسه داخل الجامعة والذين لم ينضموا إلى العمل المسلح، إلى تأسيس "هيئة الشباب المسلم" برفقة بعض "الإسلاميين" من ناشطي مدينة حلب من تنسيقيات أخرى، حيث حملَت الهيئة شعار "الدين لله والوطن لله"، وخصّصَت مجال عملها في الجانب الإغاثي والخدمي إضافة إلى المجال الدعوي، وضمَّت التنسيقية عدداً من أنشط كوادر تنسيقية الجامعة مثل "أبو عمر الغزاوي" مدير المكتب الإغاثي فيها سابقاً، و"ysmsmb" مسؤول صندوق كلية العمارة المالي، إضافة إلى المنسق العام للتنسيقية "أبو مصعب الإدلبي" وآخرين كنتُ أنا و"أبو عروة" من المكتب الإعلامي ضمنهم.

 

d5cc18193260444ab5fbb55c8bf9ef57_400x400.jpeg

 

وجاء التحدي الأول للهيئة الناشئة مع ظهور أزمة الخبز في الأحياء المحررة بعد تحرير المدينة، والتي جعلَت طوابير الانتظار أمام الأفران القليلة العاملة فيها، تشبه تلك التي تجدها اليوم أمام مراكز توزيع الغاز في المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، فكان الناس ينتظرون في تلك الطوابير فترات تصل أحياناً إلى 14 ساعة متواصلة، ثم إذا ما حصلوا على الخبز غالباً في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، تحرّكُوا في جماعات على طول الشارع الممتدّ من المعهد الصحي في حلب جنوباً عبر الشارع الرئيسي في المناطق المحررة منعطفين مع الشارع غرباً باتجاه حي الفردوس ودوار جسر الحج.

وبسبب العلاقة الجيدة مع مختلف التشكيلات العسكرية في المدينة وخاصّة (لواء التوحيد وأحرار الشام) استطاعَت الهيئة أن تتسلَّم الملف من قبلهم مع توفير كل التسهيلات لتأمين خبز أكثر من نصف مليون إنسان آنذاك، وانبرى أعضاء الهيئة لسدّ حاجة المدينة من الخبز انطلاقاً من تأمين الطحين عبر معبر "أطمة" الإغاثي على الحدود السورية التركية بدايةً كحلٍّ إسعافي، وهي المهمة التي تمّت بجهود "يوسف موسى" و"أبو عروة" الذَين استطاعا تأمين الطحين من تركيا ثم إدخاله عبر المعبر ونقله بشاحنات إلى المدينة، ريثما تعمل الهيئة على تنظيم دورة عمل كاملة تشمل استلام الحبوب من صوامع "دبسي عفنان" في ريف الرقة الغربي ومناطق أخرى، وتشغيل عدد من المطاحن في أرياف المدينة، فضلاً عن تنظيم آلية التوزيع على أفران المدينة التي كان أغلبها مغلقاً بسبب انقطاع مادتي الطحين والمحروقات، والرقابة على عمليّة البيع للناس، وهو ما نجحَت الهيئة بفعله على مدار ستة أشهر تمّ فيها سدّ حاجة المدينة من الخبز بسعرٍ مُخفَّض، حتى بات كثير من قاطني الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام يتوافدون إلى الأحياء المحررة عبر المعابر بين قسمي المدينة لأخذ حاجتهم من الخبز.

وما إنْ تمّ ذلك حتى بدأَت جبهة النصرة والتي أنشأَت مكتباً إغاثياً وخدميّاً مضايقاتها للهيئة لاستلام "ملف الخبز" في المدينة، خاصّة وأنّها كانت تضع يدها على عدد من الصوامع والمطاحن التي كنّا نعتمد عليها، وكان لها ما أرادت مع إحجام لواء التوحيد وأحرار الشام عن أيّ فعل لردعها، ووجود أفراد من الهيئة يدعمون انتقال الملف إلى النصرة، والذي تبيّن لاحقاً أنهم مبايعون لها سرّاً، لتشهد الهيئة أوّل انشقاق في صفوفها دفعَني لتركها مع آخرين، فيما استمرَّت الهيئة بالعمل بدعم من "أحرار الشام" بشكل أساسي، عبر عدد من الملفّات الإغاثية والخدميّة، والتي تمكّنَت في أحدها من حصد نجاح كبير عبر تأسيسها مؤسسة النقل الحرة لتشغيل النقل الداخلي في الأحياء المحررة من المدينة، بعد تشغيلها لأكثر من 50 حافلة نقل في أحيائها بأسعار مُخفَّضة، ساهمَت إلى حدٍّ بعيد في تنشيط سوق العمل فيها، حتى أصبحَت الأحياء المحررة تضجّ بالحركة، وعاد إليها كثير من أهلها الذين غادروها بدايات التحرير، وبدا كأنّ الأحياء التي يسيطر عليها الثوار ستتحوّل لعاصمة اقتصادية للشمال المحرّر!

 

 

إلّا أنّ بدء حملات البراميل المتفجّرة التي كان نظام الأسد يدكّ فيها الأحياء المحررة، أفرغَت المدينة من سكانها، ليقتصر الباقون فيها على الثوّار وعوائلهم، أو على من لا يملكون مغادرَتها بسبب قلّة الحيلة، وتحوّلَت المدينة التي كانت تضجّ بالحياة إلى عاصمة للموت.

لكنّ تلك قصّة أخرى..