icon
التغطية الحية

أردوغان بين محاولتي اغتيال.. عودة التاريخ والمواجهة في ساحة سعرد

2021.12.10 | 04:35 دمشق

dfghdfhdfghd.jpg
إسطنبول - صالح عكيدي
+A
حجم الخط
-A

بعد أن انفضت الحشود عن مسيرة يوم السبت الماضي التي خاطب فيها الرئيس رجب طيب أردوغان الشعب التركي من مدينة "سعرد - Siirt" جنوبي تركيا، امتلأت أشرطة العواجل بأخبار إحباط محاولة تفجير إرهابي كان سيستهدف التجمع، ليكون هذا الحدث فرصة لتسليط الضوء على محاولة اغتيال سياسي في المدينة نفسها، نجا منها أردوغان الشاب منذ أكثر من عقدين من الزمن، ليصبح أقوى زعيم في تاريخ البلاد.

جاءت مسيرة "سعرد (سرت)" تزامنا مع أول مظاهرة ينظمها زعيم المعارضة التركية "كمال كلجدار أوغلو" في مدينة مرسين -ضمن سلسلة من المظاهرات أعلن عنها حزب الشعب الجمهوري للمطالبة بإجراء انتخابات مبكرة. وحين الأخذ بالاعتبار أهمية المسيرة من منظور حزب العدالة والتنمية لكونها ردا شعبيا على دعوات المعارضة، يمكن القول إن اختيار مدينة سعرد التركية ساحةً لها لم يكن اعتباطياً.

كان الانتهاء من إنشاء مصنع في "سعرد" لصهر الزنك سيحقق الاكتفاء الذاتي للبلاد بحلول 2023، أحد الأسباب الواضحة لاختيار المدينة. أراد أردوغان بافتتاحه توجيه رسالة تأكيد للشعب على جدية مخططه المتمثل بجعل تركيا مركزا عالميا للإنتاج والتصدير، في ضوء الجدل القائم في البلاد حول سياسات السلطة الاقتصادية.

أما السبب الثاني فكان رمزياً، ولم يكن واضحاً إلا للعارف بالسنوات المبكرة لمسيرة أردوغان السياسية. وعلى عكس الأول يبدو أن رسالته كانت موجهة لزعماء المعارضة قبل الشعب.

مدينة اللغات الثلاث

أظهرت الصور المتداولة من مسيرة "سعرد" عدة لافتات كتبها أنصار الرئيس التركي، إحداها تصف المدينة الواقعة في جنوب شرقي البلاد بـ "مدينة اللغات الثلاث". ويقصد باللغات الثلاث: التركية والكردية والعربية، إذ إن غالبية سكان المدينة -الذي لا يتجاوز عددهم الـ 170 ألف- من أكراد وعرب تركيا.

أما أهم ما رفع في المسيرة من لافتات فكانت ثلاث صور اصطفت  جنبا إلى جنب على أحد الأبنية المطلة على ساحة التجمع: الأولى تظهر أردوغان الشاب يلقي خطابا، والثانية تظهره في السجن، والثالثة تظهره زعيماً تركياً يلقي خطابه أمام زعماء العالم من على منصة مقر الأمم المتحدة.

 

تلخص هذه الصور الثلاث قصة مفصلية في تاريخ تركيا الحديث، فالهجوم الذي نجا منه الرئيس وأنصاره يوم السبت لم يكن أول "محاولة اغتيال" تستهدف أردوغان في مدينة سعرد، إذ شهدت المدينة أواخر التسعينيات محاولة لاغتياله سياسيا -كادت أن تنجح بعد أن جردته من منصب رئيس بلدية إسطنبول وألقته في السجن لأشهر .

ظروف استثنائية.. وشخصية فريدة

لم يكن قد مضى على تسلم نجم الدين أربكان، أبو الحركة الإسلامية السياسية في تركيا، لمنصب رئيس الوزراء أكثر من بضعة أشهر. إلا أنها كانت كافية لأن يجتمع مجلس الأمن القومي التركي المؤلف من جنرالات تركيا الأكثر نفوذاً في 28 من شباط 1997، ويقرر أن يستخدم كل إمكانيات الدولة العميقة لإنهاء نفوذ "أربكان" وأصحابه.

شكل صعود نجم الدين أربكان في الساحة السياسية التركية منذ السبعينات، ثم عودته بشكل أقوى أمام كل محاولة لتحجيمه وإقصائه، مصدر قلقٍ دائم للنخبة الحاكمة في تركيا. فرسالة أربكان السياسية التي تلقى صدى شعبيا، تشكل تهديدا لمنظومة الدولة الطبقية المجتمعية من جهة -فهو راعٍ للمهمشين ومنادٍ للعدالة الاجتماعية. ومن جهة أخرى تهديداً للإيديولوجية اللائكية (العلمانية) -حجر أساس الدولة التركية الحديثة-.

نتج عن اجتماع مجلس الأمن القومي التركي -الذي لقب لاحقا بانقلاب ما بعد الحداثة-، ثلة من القرارات والإجراءات التي سميت بـ "إجراءات 28 شباط". لم تستهدف هذه الإجراءات القوة السياسية لأربكان وجماعته فقط، بل أيضاً كل الرموز الهوياتية التي تميز قاعدته الشعبية. تحت عنوان "محاربة الرجعية"، بدأت الإجراءات القضائية لإغلاق "حزب الرفاه" بقيادة نجم الدين أربكان، ولمنع الأخير من ممارسة السياسية. وعلى المستوى المجتمعي مُنع ارتداء الملابس التي تحمل رمزية دينية -مثل الحجاب- في المؤسسات العامة، وجرت عمليات التصفية والتضييق في كل مؤسسات الدولة لكل من يشتبه بتعاطفه أو انتمائه إلى شريحة المجتمع المستهدفة.

أنتجت هذه الظروف الاستثنائية، التي مرت فيها حركة "الرؤية الوطنية Milli Görüş –" بقيادة أربكان على مدار عقود، شخصية فريدة. بكاريزما طاغية، وطاقة عالية، واستعداد لخوض المعارك السياسية حتى النهاية، لم يكن رجب طيب أردوغان -الذي ترعرع في كنف الحركة منذ الصغر، رئيس بلدية عادياً لمدينة إسطنبول، إذ تشهد الحشود في ميادين عشرات المدن التركية التي كان يجولها أردوغان الشاب، أن شعبيته وتأثيره لم يراعيا حدود إسطنبول الإدارية.

"أهلا وسهلا بالصهر"

بعد أشهر من بدء "إجراءات 28 شباط"، وقبل بضعة أيام من إعلان القضاء إغلاق "حزب الرفاه" الذي ينتمي إليه، صعد رئيس بلدية إسطنبول رجب طيب أردوغان على منصة الخطاب في مدينة "سعرد" التركية، في السابع من كانون الأول/ديسمبر من عام 1997. استقبله سكان المدينة المتحمسون بعبارة "أهلا وسهلا بالصهر"، فزوجته أمينة أردوغان تنحدر من هذه المدينة.

على عكس معلمه أربكان الذي لطالما اتبع سياسية امتصاص الصدمات، آمن أردوغان أن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأن التصعيد كان لا بد منه. انعكس إيمانه على الكلمات التي ألقاها على الحشد في مدينة سعرد يومها: "مساجدنا ثكناتنا.. قبابنا خوذاتنا.. مآذننا حرابنا.. والمؤمنون جنودنا.. هذا هو الجيش المقدس الذي يحرس ديننا". ليرد الحشد المنتشي حماساً بالتكبير.

 

 

اغتيال سياسي

استغلت النخبة الحاكمة وآباؤها الروحيون من العسكر هذه الكلمات لرفع دعوى قضائية ضد أردوغان بتهمة "تحريض الشعب على الكراهية والحقد"، لينتج عنها قرار بسجن الأخير لمدة أربعة أشهر. أنهى هذا القرار إدارة أردوغان لبلدية إسطنبول بعد أربع سنوات ونصف من الخدمة، وكانت تهدف لإنهاء حياته السياسية بالكامل، فمن عنده سجل جنائي لا يستطيع الترشح للمناصب التشريعية أو التنفيذية وفقا للقانون التركي.

لكن كان للحشود التي ملأت الساحات والشوارع المحيطة بمقر البلدية لتودع رئيسها، ولآلاف الناس الذين قدموا من شتى بقاع تركيا لزيارة أردوغان في سجنه الذي لقب "بالمزار السياسي" حينذاك، رأيٌ آخر.

سيخرج أردوغان من السجن، ليجمع حوله جناح المجددين من حركة أربكان السياسية التي انفض عنها، ويؤسس حزب العدالة والتنمية الذي سيكسح المنافسين وينفرد بالسلطة بعد عقود طويلة من الحكومات الائتلافية.

لاحقاً، وبعد وصول حزبه للسلطة، سيزيل أردوغان العقبات الإدارية والقانونية أمام قيادته الرسمية، ليصبح أقوى زعيم شهدته تركيا في تاريخها الحديث -حسب كثير من المراقبين-، ولينتهي المطاف بالجنرالات الذي حاولوا اغتياله سياساً، مجردين من رتبهم، ومحكوم عليهم بالسجن المؤبد.

رسالة لزعامات المعارضة

تشهد الساحة السياسية اليوم توتراً غير مسبوق ترعاه المعارضة التركية، التي تبذل جهودها بكل الأدوات المتاحة للتضييق على أردوغان ودفعه باتجاه انتخابات مبكرة.

وبالتزامن مع أول مظاهرة تدعو للانتخابات المبكرة وينظمها زعيم المعارضة "كلجدار أوغلو" في مرسين، أنشد أردوغان الشعر نفسه من المكان نفسه الذي نجا فيه من اغتيال سياسي قبل أكثر من عشرين عاماً، حين كان شاباً وحيداً تحاربه رؤوس هرم الدولة العميقة. لعله أراد أن يقول لزعماء المعارضة: ما تفعلونه لا شيء لمن نجا وانبثق من هذا المكان، وذاك الزمان.