أراعيل دعاة (الاقتصاد الإسلامي) ومنظّريه

2020.05.08 | 00:13 دمشق

67486910_467530587363714_116927624185380864_o.jpg
+A
حجم الخط
-A

يمكن لمراقب مسيرة ما يُسمّى (الاقتصاد الإسلامي) منذ نشأته قبل حوالي التسعين عاماً حتى اليوم أن يحدّد ثلاثة أراعيل تواردوا على توليده وتمجيده:

أما الرعيل الأول فكان بعض أفرادهم أمام انفصالٍ عن دولة، وإزاء إقامةِ دولةٍ جديدة في شبه القارة الهندية على أساس ديني إسلامي، لذلك وجدوا أنفسهم مدفوعين ليقدّموا تأطيراً إسلامياً للاقتصاد والسياسية والاجتماع يسوّغ هذا الانفصال وذيّاك القيام، ويأتي على رأسهم أبو الأعلى المودودي، وربما بتأثير منه صرّح القائد محمد علي جناح بأننا في دولتنا المستقبلية سنقيم اقتصاداً يتماشى مع الإسلام ولا يتعارض معه، وكان بعضهم الآخر يحضّر لثورات أو انقلابات أو دعوات تطيح بحكومات بلدانهم المدنية، وتأتي بأخرى دينية، كسيد قطب ومحمد باقر الصدر، ويمكن أن نضيف إليهما عيسى عبده، ولذلك احتاجوا للتأطير نفسه، والطرح عينه، وكان موّال هؤلاء الدعاة في هذه التأطيرات من رأسهم، من دون إملاء أو طلبٍ أو توجيه، حيث كانت المسالك التي ارتادوها تفضي بهم إلى هذه الدعوات على سبيل الترتّب واللزوم والاقتضاء.

اتجه طرحهم أولاً وبالذات إلى اختراع شيء اسمه (الاقتصاد الإسلامي)، والتأكيد على تميّزه، عن الاقتصاد الرأسمالي أو الاشتراكي، في المنطلقات والمرتكزات والأداء والغايات، من دون الخوض المسهب في التفصيلات والجزئيات. كانت آمالهم عريضة، وتطلعاتهم تواّقة للبرهنة على أنّ الإسلام يتحدى، وأنه خير وأبقى. ونرجئ الحديث ههنا عن القيمة الذاتية لـ (لاقتصاد الإسلامي) وما يتفرع عنه من مؤسسات مالية، وما يعجّ به من مشكلات وأسقام وأوهام إلى وقت لاحق، ومقال آخر.

الرعيل الثاني من دعاة الاقتصاد الإسلامي فهم الذين استقطبتهم مؤسسات مالية في طور النشأة والتكوين

أما الرعيل الثاني من دعاة الاقتصاد الإسلامي فهم الذين استقطبتهم مؤسسات مالية في طور النشأة والتكوين، طرحت نفسها بديلاً إسلامياً عن المؤسسات المالية والبنوك التقليدية التي يقاطعها قسم كبير من المتدينين، وطلبت من هؤلاء الدعاة أمرين:

أولاً: أن يروّجوا للاقتصاد الإسلامي، وللبنوك الإسلامية، وأن يتحدثوا عن خصائصهما ومزاياهما.

ثانياً: أن يقدّموا التنظير الفقهي اللازم لهذه البنوك الإسلامية حتى تتمايز عن نظيرتها التقليدية.

فشمّر هؤلاء الأساتذة الفقهاء عن ساعد البحث والترويج، وبدأت دراساتهم تظهر تباعاً، وعينتهم هذه المؤسسات لديها، لقاء مبالغ مالية مجزية، أعضاءَ في هيئات الرقابة الشرعية، ليقوِّموا مسارها، ويمدوها بالحلول الإسلامية للمعاملات التي تطرأ، والعقود التي تُستحدث، وفي خضم هذا الشغل ظهرت في البحرين سنة 1991 منظمة أيوفي (هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية)، من أجل "تحقيق المـَعْيَرة والتجانس بين الممارسات المالية الإسلامية الدولية والتقارير المالية للمؤسسات المالية بالتوافق مع أحكام الشريعة ومبادئها"، ومن أموال الترويج والتنظير والتأطير اشترى الرعيل الثاني السيارات السريعات، وسكنوا البيوت الوسيعات، وتزوّجوا النساء المطيعات، وأنشأ أولادهم مشاريعهم التجارية والصناعية والتعليمية، وعاشوا في دوحة الرفاه وبحبوحة الجاه، وكان معظم هؤلاء المنظّرين الفقهاء من أساتذة الجامعات في كليات الشريعة ومعاهدها، فقاموا باستحداث أقسامٍ لدراسة الاقتصاد الإسلامي، ووجّهوا طلابهم لاقتحام هذا المجال، وهكذا نشأ الرعيل الثالث من طلاب كليات الشريعة في مرحلة الليسانس، وفي مرحلة الدراسات العليا (ماجستير ودكتوراه)، يدعون إلى الاقتصاد الإسلامي، وينافحون عنه، جازمين متحمّسين، يستفرغون وسعهم في البحث، ولا يبخلون بجهدهم وطاقتهم في الدرس، من دون أن ينالوا لُحسة أو لُعقة من أموال هذه المؤسسات، ومن دون أن ينعموا بفلس واحد من فلوسها! بعضهم يدفعه لذلك أمل مشرئب للولوج إلى حظيرة قدس إحدى هيئات الرقابة الشرعية مستقبلاً، وبعضهم تسوقه عاطفته الدينية الخالصة التي تروم رفعة الإسلام وخدمة المسلمين، من دون أن يكون له مطمع في دولار أو دينار.

ولكن ما لم يدركه هؤلاء الطلاب والدارسون والباحثون من أبناء الرعيل الثالث أنهم لم يخدموا في هذه الدعوة سوى الحاكم والرأسمالي، كما خدم الرعيل الثاني، من قبل، جميع حيتان الرأسماليين العرب في دول الخليج من أمثال صالح كامل، والوليد بن طلال، ومَنْ خلفهما من ملوكٍ وحكّام، وفي سوريا تحديداً كان دعاة الاقتصاد الإسلامي يخدمون بشار الأسد، الذي أصدر سنة 2005 المرسوم التشريعي رقم 35 الناظم لإحداث البنوك الإسلامية، وجاء في نص المرسوم: "يهدف المصرف الإسلامي إلى: تطوير وسائل اجتذاب الأموال والمدّخرات، وتوجيهها نحو المشاركة في الاستثمار المنتج بأساليب ووسائل مصرفية لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية"! وكان بشار الأسد في اللحظة ذاتها قد هيّأ الخلّص من أتباعه من أجل إنشاء هذه المصارف الإسلامية للهدف المذكور في نصّ القرار، وهو استدراج الأموال والمدخّرات التي بيد المتدينين الرافضين إيداعها في البنوك التقليدية، وإغراء الذين يرفضون التعامل مع البنوك التقليدية والاقتراض منها، ويفضّلون عليها التجار الذين يقرضونهم بحيل شرعية معروفة مشهورة، لا داعي لذكرها وتطويل المقال بها.

كان لسان حال بشار الأسد وحاشيته يقول:

ــ تريدون بنكاً تقليدياً؟ أهلاً وسهلاً! دونكم المصرف التجاري السوري، أو المصرف الصناعي، أو العقاري، أو بنك عودة، أو بنك سوريا والمهجر، أو بنك بيبلوس، أو بنك سوريا والخليج، أو فرنسابنك، أو بنك قطر الوطني، إلخ.

ــ أم تريدون بنكاً إسلامياً؟ أيضاً أهلاً وسهلاً! دونكم بنك سوريا الدولي الإسلامي، أو بنك شام الإسلامي، أو بنك بركة الإسلامي.

ــ أم تريدون شركة تأمين إسلامية؟ ها قد أتحنا لكم شركة العقيلة للتأمين التكافلي. ولكنكم هنا يجب أن تدفعوا أكثر! ألستم تحبون دينكم؟ إذن يجب أن تدفعوا لنا أكثر!

وكم كانت فرحة بعض المتدينين غامرة وهم يرون لأول مرة في سوريا سنة 2007 شركة تأمين إسلامية خالصة تتيح جميع أنواع التأمين

وكم كانت فرحة بعض المتدينين غامرة وهم يرون لأول مرة في سوريا سنة 2007 شركة تأمين إسلامية خالصة تتيح جميع أنواع التأمين: التأمين على الممتلكات، والتأمين الصحي، والتأمين الهندسي، والتأمين على البضائع، والتأمين على المركبات، والتأمين على الحياة، إلخ.

ومرة أخرى لم يدرك الرعيل الثالث أنهم كانوا يقومون، من حيث لا يشعرون، بدورٍ يشبه دور فتيات الإعلان، ولكن بالمجّان! يسهرون ليلهم، وتتبخّص عيونهم، وتُبح أصواتهم، وهم يتدفّقون في أدلتهم تسويقاً وتلميعاً وترويجاً ودفاعاً عن الاقتصاد الإسلامي وأهميته، والبنك الإسلامي وأدائه، وليصب سيلهم الجرّار في عنفات مؤسسات بشار، فتدور وتتحرك، وتربح وتكسب، لأنّ جميع هذه المؤسسات المالية والبنوك الإسلامية من دون استثناء هي ملكه وملك زبانيته (وعلى الأخص رامي مخلوف وسليمان معروف)، يتقاسمونها مع شركائهم الرأسماليين السوريين والعرب، ضمن حصص متفق عليها، وكما أنّ الرأسمالي الخليجي أتاح لبشار وأزلامه أن يسهموا بالمليارات في بنوكهم التقليدية والإسلامية، فقد وجب بالمقابل أن يسمح بشار لشركائه الخليجيين أنفسهم أن يسهموا في البنوك السورية الخاصة، ولذلك أتاح القانون رقم 28 لعام 2001 للمستثمرين غير السوريين المساهمة في تأسيس مصارف خاصة بنسبة مساهمة حدّها الأقصى 49%، ، وهكذا كان (بنك سوريا الدولي الإسلامي) إضافة إلى مالكيه من أزلام الأسد ذا نكهة قطرية خالصة، و(بنك الشام الإسلامي) ذا رائحة كويتية محضة، وكان (بنك البركة) خلطة بحرينية إماراتية كويتية، أما شركة التأمين الإسلامية في سوريا (العقيلة) فتوزعت ملكيتها على عدة شركات أهمها:

1 ــ مركز التجارة العالمي دمشق، وتمثله في مجلس الإدارة آية دشتي.

2 ــ شركة مجموعة أولاد الدشتي، وتمثله هالا قوطرش.

3 ــ شركة أمان الشام القابضة، ويمثلها جورج إيلي بريمو.

ولعلّ من المناسب أن نذكر هنا أن آية دشتي هي ابنة رجل الأعمال والعضو السابق في البرلمان الكويتي عبد الحميد الدشتي، وأنّ هالا قوطرش هي زوجته، وقد طُرد من البرلمان الكويتي وحُكم عليه بالسجن غيابياً بسبب دعوته لقصف السعودية، ولمجاهرته بالولاء لإيران، على خلفيته المذهبية المتعصبة، ولدعمه حزب الله وبشار الأسد دعماً وقحاً، إلى درجة أنّ عائلته اضطرت إلى أن تتبرأ من مواقفه الطائفية المبالغ فيها، ونمسك عن الحديث حول شركة أمان الشام القابضة وأدوارها التشبيحية توخياً للإيجاز والاختصار.

ولأن هذه البنوك والمؤسسات المالية إسلامية كان لا بدّ لها من مجالس هيئات رقابة شرعية، وقد اختير معظمهم منذ اللحظة الأولى من مشايخ التشبيح، قبل الثورة وبعدها:

الدكتور مصطفى ديب البغا، ونائبه السيد عبد الله نظام رئيس الجمعية المحسنية الأب الروحي لكثير من المجموعات الشيعية المقاتلة إلى جانب الجيش الأسدي، والدكتور محمد توفيق رمضان البوطي، والدكتور عبد الفتاح البزم، والدكتور علاء الدين زعتري، إلخ، وقد تولى الدكتور عبد الستار أبو غدة رئاسة هيئة الرقابة في بنكيين إسلاميين في الوقت نفسه: بنك سوريا الدولي الإسلامي، وبنك البركة، وحقيقةً لا نعلم ما موقفه الرقابي الشرعي في بنك سوريا الدولي وهو يرى هذا البنك يسند الجيش الأسدي الخائن، ويدعم مسرّحيه بمبادرة عنوانها (كفّيتو ووفّيتو)، ولا نستوعب كذلك كيف يجيز هذا الدكتور الشيخ لنفسه أن يكون رئيس هيئة رقابية في بنك البركة وهو يملك فيه مليون سهم، أي ما يعادل 2% من رأسماله! فيكون الخصم والحكم والمقوِّم والمقوَّم في آن واحد، كما هو مثبت في موقع البنك الإلكتروني.

kafeto-wafeto.jpg

وخلاصة الكلام: إنّ الرعيل الثاني والثالث من دعاة الاقتصاد الإسلامي لم يدعموا سوى نشاط رأسمالي خالص مئة بالمئة، لأنّ مالكي البنوك الإسلامية هم أنفسهم مالكو البنوك التقليدية، وأموال هذه البنوك الإسلامية والتقليدية تتدفق فيما بينها كالسواقي المائية ذات الشبكة المتصلة في أرض واحدة، وما نقوله هنا عن سوريا نقوله عن بقية البلدان، فهي لا تخرج عن هذا العلَامة شروى قُلامة.