icon
التغطية الحية

أدب المنامات.. فن عربي لتجاوز مرارات الواقع

2021.11.09 | 07:02 دمشق

41857.jpg
+A
حجم الخط
-A

اتصلت المنامات اتصالاً وثيقاً بالأدب، فكان المعبِّر الأول عنها والمُستثمرَ الأكبر فيها، منذ ملحمة جلجامش حتى آخر حلم سيزعم شاعر أنه رآه؛ ليقول فيه ما لا يسمح به الواقع الضيق حدَّ الاختناق.

وعلى أن الأحلام هي ملعب الأدب وتهمته، لم يبدع الحالمون أدباً خاصاً بالمنامات؛ إلى أن جاء الوهراني، محمد بن محرز، في القرن السادس الهجري، ليعلن ولادة أدب المنامات، التي كان أشهرها منامه الكبير الذي حاكى فيه رسالة الغفران للمعري، فطوَّف في الأزمنة والأمكنة والماورائيات متحرِّراً من سلطة الواقع، وهازئاً بالزمن وأهله كَبُرَ مقامهم أو صغر..

والوهراني، مبتدع فن المنامات السردية، هو أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني، الملقب بركن الدين، والمتوفى عام 575 للهجرة، زار دمشـــق فــي أيــام نــور الــدين محمـود بن زنكـي واتصل به، وزار مصر وبغداد، ثم استقر به المقام بدمشق، التي كانت قبلة الأنظار، وكان نور الدين شديد العطف على المغاربة، فوجه خطابة مسجد داريّا إلى الوهراني.

وتوفي بداريَّا سنة خمس وسبعين وخمسمائة (575هـ) أيام صلاح الدين الأيوبي، ودفن في تراب أبي سليمان الداراني.

 وترك الوهراني نصوصاً نثرية في صورة منامات ومقامات ورسائـل وخطـب، جمعـها كتابه "جليس كل ظريف"، وقد حققه إبراهيم شعلان ومحمد نغش تحت عنوان: "منامـات الوهراني ومقاماته ورسائله"، وراجعه الدكتور عبد العزيز الأهواني، وصدر عن دار الكاتب العربـي فـي القاهرة عام 1968م، يتألف من مائتين وسبع وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط.

واشتهر من منامات الوهراني السردية منامه الكبير الذي حاكى فيه أبا العلاء المعري في رسالة الغفران، قال ابن خلكان: "ولو لم يكن له فيها إلا المنام  الكبير لكفاه، فإنه أتى فيه بكل حلاوة، ولولا طوله لذكرته".

وجمع الوهراني في المنام ألواناً من الأدب والمزاح، فتخيل أنه رأى في المنام كأن القيامة قامت، ومنادياً ينادي: هلموا إلى العرض الأكبر، فخرج من قبره حتى بلغ أرض المحشر، فوجد بها كثيرين ممن عرفه وعاصره، فسخر منهم جميعاً وذكر ما حوسبوا عليه.

وسلك الوهراني مسلك الهزل في مناماته، موجهاً الانتقادات والإسقاطات السياسية والاجتماعية على كبار زعماء عصره، ومبتغياً طريقة جديدة في الأدب بهدف التكسب وجمع المال، وفق ما يقول عن نفسه: "لما تعذرت مآربي، واضطربت مغاربي، ألقيت حبلي على غاربي، وجعلت مذهبات الشعر بضاعتي، فما مررت بأمير إلا حللت ساحته، واستمطرت راحته، ولا بوزير إلا قرعت بابه وطلبت ثوابه، ولا بقاضٍ إلا أخذت سيبه، وأفرغت جيبه".

وعلى الرغم من ولادة أدب المنامة في عزِّ سطوع نجم المقامة وأدب الرسائل (نجد أن الوهراني كتب الرسائل والمقامة بالدرجة الأولى)، فإن المنامة اشتركت مع هذين الجنسين الأدبيين في سِماتٍ، وافترقت بأخرى، وهذا ما يتضح جلياً في أحلام نجيب محفوظ السبعة عشر، التي قصَّها علينا في كتابه "رأيت فيما يرى النائم"، إذ قال في عوالم نومه ما لم يقله أو يستطعه في يقظة قلمه وأمة الرقباء المتربصين.

ويرى الأديب د. حسن النعمي، أستاذ السرية المعاصرة والمسرح في جامعة الملك عبد العزيز بالسعودية، أن نجيب محفوظ اتبع أسلوب تحوير الواقع إلى منامات، فأحلامه التي قصها على هيئة سرد أدبي في كتابه المذكور، لم تكن منامات حقيقية، بل رسائل أراد توجيهها بوعي، فاختار لها شكل المنامات، وهو اتجاه في كتابة هذا النوع من الأدب، أما الاتجاه الثاني، وفق د. النعمي، فهو كتابة منامات حقيقية على هيئة أدب، وهنا يلجأ الكاتب إلى تجميع شظايا أحلامه وضمها في نسق سردي احترافي يؤدي وظيفة أدبية تجمع ما بين المتعة والرسائلية.  

وتصدى د. حسن النعمي إلى إحياء فن المنامات السردية، فهو إلى جانب القصة القصيرة، يكتب المنامات الأدبية على شكل قصص قصيرة جداً، ويحمِّلها رسائل فكرية واجتماعية وسياسية، لكنه ينفي نيته توظيفها في سياق معين، قائلاً إن الجمهور هو الذي يوظفها كلٌّ حسب هواه وفهمه، وهو ما يعطي المنامات الأدبية سعة وقدرة على الإغراء والإغراق في قراءة عالم ما وراء الوعي، حيث لا حسيب ولا رقيب.