أداليج الوهم ومساحات الفراغ السياسي

2023.07.22 | 06:22 دمشق

آخر تحديث: 22.07.2023 | 06:22 دمشق

المعارضة
+A
حجم الخط
-A

رغم أن غالبية الكتل السورية تفترض ذاتها نظريا وسياسيا أنها تتبنى الديمقراطية معرفيًا وفكريًا كشرط لقبول الآخر وبناء الديمقراطية، إلا أن الاختلاف بجذره الطبيعي بين البشر كمحدد أساسي لبناء التوافقات الزمنية حول المشترك العام بنسب تحددها الأولويات والضرورات والسياق، لم يمكّننا بعد كسوريين من تجاوز الخلاف الأيديولوجي أو المصلحي وردم الهوة المتسعة بينها. كما لم يترك لنا مساحةً مقارنة للتحقق من قياس فاعلية قدرتنا، صوابنا وخطئنا، في طريقة إنتاج مشروعنا الوطني كهدف سوري عام.

المشروع الوطني الذي بتنا ندرك جيدًا حجم تجاذبات المصالح السياسية قصيرة النظر، بمحاورها الإقليمية والدولية، في إزاحته عن مساره، يبدو هذا المؤشر الأقوى على الحال السوري. لكن الأكثر وضوحًا استمرار الأداليج الصنمية خلف فرضياتها الأولى دون النظر لمعطيات ومتغيرات الواقع الراهن وربطه بالمستقبل، وتصرّ على خوض غمار معارك وهمية منفّرة وطاردة لكل مختلف معها، وجميعها تقول أنا وفقط صاحب المشروع الأجدر وعلى الجميع اللحاق بي! 

من الطبيعي في الحالة السورية أن تلعب السلطة السورية دورًا معطلًا لأي توافق سوري عام حول إيجاد حل للمسألة السورية إلا وفق أجندتها المركزية في الهيمنة والسطوة والاستفراد في الحكم، وهذه الصيغة تحمل الوجهين معًا، أي أيديولوجية الهيمنة البعثية الشوفينية المتعصبة لوحدانية الاتجاه والهدف في الاستفراد في الحكم، محمولة على نظام متكامل الأركان مصلحيًا ومنفعيًا، يدرك دوره الإقليمي وشروط استمراره من خلال القبض المطلق على مفاصل البلد ماديًا واقتصاديًا وبالضرورة سياسيًا وبشكل منفرد دون أية شراكة معه. لكن، وهذه الـ"لكن" مرة أخرى فاتحة بوابة الشيطان والتأويل، كما بوابة للاستدراك والتفصيل أيضًا، لكن أن تمارس المعارضات الصيغ السلطوية ذاتها في طريقتها المفردة في إدارتها للمسألة السورية، وكل فريق منها يدعي وحدانية قدرته على ذلك، فهو ما يجب إعادة النظر فيه مرة ومرات، وإلا فسوريا بشعبها وتنوعها العام في مأزق خطر يهددها بمزيد من التشظي والانقسام، وكلي خشية أن يتحول لواقع سياسي بذاته!

فعلى سبيل المثال لا الحصر، في الأمس القريب برزت ورقة تفيد بجملة من التفاهمات بين هيئة التنسيق ومسد، ونكتشف بعدها بيوم أن المقصود هو التيار المنشق عن هيئة التنسيق. واليوم تبرز ورقة من مسد تقول فيها: إن الخلاف مع هيئة التنسيق (والمقصود الهيئة الأم) كبير حول اللامركزية وإدارة الحكم والجيش السوري! وسلطة النظام ترفض التجاوب مع مبادراتها، وفي المقابل ائتلاف قوى الثورة والمعارضة يرفض حتى الجلوس معها! في مقابل هذا ثمة سعي لتوحيد جهود القبائل العربية في شرقي الفرات بعيدًا عن أداليج السياسة البارزة على السطح، ويبدو أنها تهيئ لمرحلة قادمة، بمؤشرات دولية وإقليمية لإعادة ترتيب المنطقة شرق وجنوب الفرات والحدث المقبل قد يبدو عنوانه معبر البوكمال، وهذا موضوع سيتكشف بالقريب من الأيام.

الصراع على السلطة لم يأخذ مساره فيما يسمى "أسلمة" وفقط، بل بدا واضحًا في صنوف المعارضة السورية السياسية "الديمقراطية" و"العلمانية" أولًا، حيث تنازع شرعيات التمثيل في محطات الثورة كان الأوضح في مساراتها جميعا لليوم.

بين هذه وتلك، لم تزل أنماط المعارضة السورية القديمة منها والمحدثة لليوم تقارب المسألة السورية من بوابة التنافس على إثبات فرضياتها وأداليجها السياسية في نقاش المستقبل الممكن لسوريا، وكأن سوريا دخلت في مرحلة التغيير وبات الانفتاح على المشاريع الوطنية الديمقراطية يستدعي التنافس الحر في الواقع! فرضيات المستقبل عنوان جذاب لدخول ساحات الصراع والتنافس الهدام حول مفاهيم نظرية نعتقد انها صحيحة، قرأناها، نمني أنفسنا في تحقيقها ولم نختبر قدرتنا بعد على حملها! لدرجة يسود اعتقاد راسخ أنه إذا ما وضعتَ جملة من العناوين المتعلقة بالديمقراطية واللامركزية والحرية والعقد الاجتماعي... في مقدمة أي حوار أو بيان فإن الجماهير ستتبعنا أفواجًا، ما يُذكر بنقد فيلهالم رايش لذلك النمط من الأداليج حين يقول حاملها "ما بالك أيتها الجماهير لا تتبعيني فأنا محررك"!

وحتى لا أكون بموقع المتنكر للفكر والأحلام، أؤكد على ضرورتها أولًا، ولكن دعنا نبحث مع من يبحثون عن طريقة تحقيقها وآليات عملها، عن اكتشاف قدرتنا في اختبار فكرنا وأدواتنا في الواقع، ولنذهب باتجاه القياس والاختبار. ويبدو لي أن أبرز النقاط التي تحيل إلى هذه الطرق هو الابتعاد عن وضع المسلمات النظرية مقدمة لأي حوار لكونها محط خلاف ممتد زمنيًا ويتطلب مساحة عمل سياسية منفتحة متحررة وشرطها الواقعي الدخول في مرحلة التغيير لا افتراض أنه قائم والسلطة لم تزل تتغول في جموع السوريين! ومن ثم وضع معطيات الواقع المحدد بالعديد من الدراسات حول الواقع السوري وتعيناته الواقعية وقواه الفاعلة، ومدى إمكانية توافقها على التعاون في حل مشكلاتها العالقة البينية. والإقرار بالواقع القائم بتوصيفاته الحالية، و استمرار السلطة في الحكم وترويجها عربيًا مرة أخرى، وتباين المعطيات بين شرق الفرات وشمال غرب سوريا وجنوبها.... الإقرار بهذا الواقع لا يعني الرضوخ له والقبول به، بل هو أولى الخطوات لحل مشكلاته والتعامل معه، لفرد مساحات الحوار بين أطرافه حول المصلحة الوطنية. فإن كانت المصلحة الوطنية حسبما تريدها السلطة السورية هي استعادة هيمنتها على كامل الجغرافية السورية، فمن مصلحة كل الكتل السورية المعارضة استحقاق التغير، وهذا ما له مقومات عمل وبرامج سياسية تختلف عن تنازع الأداليج على المفاهيم والتصورات واعتبارها مطلقة. والإقرار بالواقع يعني دراسات الإمكانيات والمعطيات، وهو بالضرورة امتلاك القدرة على توصيف أي مشروع ممكن وفق مصفوفات التحليل السياسي من حيث نقاط القوة مقابل الضعف، والفرص المتاحة مقابل التهديدات الممكنة، وبالنتيجة إمكانية بناء مشروع متكامل الأركان فكريًا وسياسيًا ومصلحيًا.

أتساءل مع كثيرين: ماذا قدمت للهوية السورية  نماذج المعارضة المتتالية منذ 2011: هيئة التنسيق والمجلس الوطني، وكتل كل منها الضمنية، وما نتج عنها لاحقًا من ائتلاف وهيئة عليا ومنصات في كل مدن العالم... تدخل لليوم في نزاع أداليجها التي باتت لا تمت للسياسة بصلة بقدر الشروخ النفسية والشخصية، حتى باتت مساحات الفراغ السياسي السورية قابلة لأن تملأ بأي مشروع سياسي إلا المشروع السوري!

لليوم جميع أداليجنا تعمل في شؤونها السياسية وفق برامجها الخاصة دون الفعل في الصالح العام. حيث يتبدى الخلاف الحاد بين الأحزاب المحمولة على الأيديولوجيات الكلاسيكية المتقادمة سواء "القوموية" أو "الماركسوية" أو "الإسلاموية"، وتنازعها على الأحقية المفردة في الحكم والسلطة، وما نتج عنها من انقسامات وتشظيات والمزيد من النزعات البراغماتية السياسية والعسكرية محدودة الهدف والفاعلية، "والعين مليانة" على قولة المثل الدراج لكثرتها المفرطة في شتى بقاع الجغرافية السورية. وهذه جميعها تشترك لليوم بأنها لم تقم وزنًا لشؤون السوريين والمصلحة العامة والعمل السياسي بوصفه عملا بالشأن العام: عمل بالمصلحة العامة والفكر والقيم، أو هكذا يفترض أن تكون السياسة التي نقرأ عنها. فكيف وأن المسألة السورية باتت محط نزاع دولي، دخل كل طرف من الأطراف السورية في أتون معتركها طوعًا أو مجبرًا! والدول القائمة على الملف السوري لا تنظر سوى لمصلحتها وحسب فيما مصلحة السوريين يذروها الفراغ وصراع الأداليج.  ووهم البديل عن السلطة القائمة، أو تكون بموقع القيادة ولو في بقعة جغرافية على مستوى قرية أو بلدة أو إقليم كشرق الفرات أو شمال غرب سوريا أو في أية مدينة سورية، ويا لهول هذا العبث.

يبدو من الطبيعي القول أن المصالح الدولية فرضت شروطها على كتل سورية متعددة في طريقة تعاطيها مع الشأن السوري، كالائتلاف ومسد وهيئة التنسيق، لكن أبدًا من غير الطبيعي أن تعتبر كل جهة منها أن مصلحتها السياسية الراهنة هي بديل عن المصلحة الوطنية العامة، ومن غير الطبيعي أن تُعاد وتكرر النتائج الوصفية لأي حوار سوري، دون أن نعيد أولويات حوارنا وتوافقاتنا المرحلية وفق المصلحة العامة، والنتيجة الراهنة اتساع مساحات الفراغ السياسي التي لا نعلم من سيملؤها بعد وبأي صيغة ستكون!

الصراع على السلطة لم يأخذ مساره فيما يسمى "أسلمة" فقط، بل بدا واضحًا في صنوف المعارضة السورية السياسية "الديمقراطية" و"العلمانية" أولًا، حيث تنازع شرعيات التمثيل في محطات الثورة كان الأوضح في مساراتها جميعا لليوم.