أبو الخير عابدين؛ مفتي دمشق الأخير في الدّولة العثمانيّة الذي عزله الأمير فيصل

2022.01.23 | 05:10 دمشق

image_750x_61952004d0175.jpg
+A
حجم الخط
-A

من عائلة عابدين التي يصل نسبها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم، والتي كانت سلالة علم ومرجعًا في الفقه الحنفي كان الشّيخ محمّد أبو الخير عابدين الذي ولد في دمشق عام 1852م، ودرس الفقه الحنفي وعلوم الشريعة على أيدي كبار علماء دمشق من أمثال الشّيخ بكري العطّار والشيخ سعيد الأسطواني.

وعلى منهج التّوريث الدّيني الذي كان وما يزال سائدًا في بيئة المدرسة العلميّة الشرعيّة ورث الشّيخ محمّد أبو الخير عابدين الخطابة في جامع الورد في حيّ ساروجا الدّمشقي عن أبيه الشّيخ عبد الغني عابدين، وفي ريعان الشّباب عُيّن الشّيخ أبو الخير قاضيًا شرعيًّا في دوما ثم بعلبك.

 

  • المفتي من زمن السلطان عبد الحميد إلى زمن الاتحاد والترقّي

في عام 1903م رشّح والي دمشق ناظم باشا الشّيخ محمد أبو الخير عابدين ليكون مفتي دمشق وولاية سوريا، وقد قام شيخ الإسلام في الدّولة العثمانيّة الشّيخ جمال الدّين أفندي بتزكيته أيضًا عند السّلطان عبد الحميد الثّاني الذي أصدر قرارًا بتعيينه مفتيًا.

واللّافت في الأمر أنّ حكومة الاتحاد والترقي بعد عزل السّلطان عبد الحميد عام 1909م أبقت على الشّيخ محمد أبو الخير عابدين مفتيًا لدمشق وولاية سوريا، وبايع الخليفة محمّد رشاد الخامس الذي خلف شقيقه السلطان عبد الحميد بعد خلعه عام 1909م.

  • الموقف من "شهداء السادس من أيّار"

كان للمفتي الشّيخ "أبو الخير عابدين" موقفان لافتان عام 1916م، وذلك في إطار المواقف من أفعال السّلطة العثمانيّة وما يجري فيها؛ والموقف الأوّل منهما هو موقفه من إعدام ما عُرف بشهداء السّادس من أيّار.

في السادس من أيّار "مايو" استيقظت دمشق وبيروت على خبر إعدامات طالت سبعةً في ساحة المرجة بدمشق وأربعة عشر في ساحة البرج في بيروت على يد قائد الجيش العثماني الرّابع جمال باشا السّفّاح بتهمة التآمر على الدّولة العثمانيّة، وقد صار هذا اليوم بعد ذلك يومًا احتفاليًّا يعرف باسم عيد الشّهداء على اعتبار أنّ من تمّ إعدامهم هم من الرّجال الوطنيين.

أعلن المفتي الشّيخ أبو الخير عابدين تأييده تنفيذ أحكام الإعدام بحقّ هؤلاء الأشخاص على اعتبار أنّهم عملاء للدول الغربيّة ومتآمرون على الدّولة العثمانيّة وخونة يستحقون القتل والإعدام.

وفي الحقيقة أنّ موقف العلماء في دمشق من حادثة إعدام من عرفوا بشهداء السّادس من أيّار قد تباينت تباينًا كبيرًا ويمكن القول إنّها انقسمت إلى ثلاثة مواقف رئيسة؛ موقف مؤيّد لإعدامهم واصفًا إيّاهم بالعملاء والخونة، وموقف رافض لإعدامهم ويرى فيما فعله جمال باشا عين الظّلم والإجرام، وموقف ثالث فرّق بين من تمّ إعدامهم فرأى أنّ بعضهم كان فعلًا يتحرّك بتوظيف من السّفارات المعادية للدولة العثمانيّة لا سيما السّفارة الفرنسيّة فهؤلاء عملاء وخونة يستحقّون الإعدام، بينما يرون البعض الآخر ممّن تمّ إعدامهم أحرارًا رافضين للظلم مناهضين لإجرام جمال باشا ومعارضين لحكومة الاتحاد والتّرقّي فهؤلاء شهداء أبرار.

  • الموقف من الثّورة العربيّة الكبرى والشّريف حسين وابنه فيصل

في العاشر من حزيران "يونيو" من عام 1916م أطلق الشريف الحسين بن علي أمير مكّة؛ الثّورة المسلّحة ضدّ الدولة العثمانيّة.

أعلن المفتي الشّيخ محمد أبو الخير عابدين إدانته البالغة لهذه الثّورة، وقد أعلن حرمة المشاركة في هذه الثّورة، كما أعلن أنّ الشريف الحسين بن علي خارج عن الدّين لأنّه خرج على وليّ الأمر وكسر عصا الطّاعة وشقّ صف المسلمين.

لكن هذا الموقف انقلب إلى النّقيض حينما دخل الأمير فيصل ابن الشّريف الحسين دمشق محررًا من العثمانييّن في الأول من تشرين الأول "أكتوبر" عام 1918م؛ إذ سارع الشّيخ المفتي أبو الخير عابدين إلى مبايعته وإعلان الطّاعة له من اليوم الأوّل.

قد يبدو الأمر تناقضًا سلوكيًّا نابعًا من التزلّف للحكّام، غير أنّ فهم الخلفيّة الفقهيّة التي يتبنّاها الشّيخ وعموم المدرسة الفقهيّة في حينه يفسّر موقفه هذا، إذ إنّ الاستناد إلى القول بفقه الحاكم المتغلّب وأنّ طاعة من استولى على الحكم بالقوّة واجبة لضمان استقرار المجتمع وأمنه هو ما يفسّر رفض الخروج على الحكم العثمانيّ ابتداءً ثمّ المسارعة إلى مبايعة الأمير فيصل الذي استولى على الحكم عقب ذلك.

ومّما يعزّز التفسير بأنّ الموقف ليس ضربًا من المداهنة والتّزلّف هو ما جرى عقب المبايعة مباشرة بين المفتي أبو الخير عابدين والأمير فيصل بن الحسين من مواجهة انتهت بالعزل.

  • إغضاب الأمير فيصل وانتهاء المشهد بالعزل

بعد أن أعلن المفتي أبو الخير عابدين بيعته للأمير فيصل التقى به في محفل عام في بهو دار البلديّة بدمشق إذ كان يستقبل الأمير فيصل الوفود لتلقّي التّهنئة بتحرير دمشق واستلام حكمها، وذلك بعد يومين من دخول دمشق وإعلان المفتي البيعة له أي في الثّالث من تشرين الأوّل "أكتوبر" 1918م.

ألقى المفتي أبو الخير كلمة مختصرة جدًا قال فيها: "إنّ لكلّ أميرٍ بطانتَين، بطانة تزيّن له الحق وتحضّه عليه، وبطانة تزيّن له الباطل وتحضّه عليه، فعليك ببطانة الخير".

أغضبت هذه الكلمات الأمير فيصل بشدّة، واستثمر غضبه شريحة من المحيطين به ليحرّضوا على الشّيخ عابدين وقد وصفوه للأمير فيصل بأنّه "عثمانيّ الهوى" كما ذكّروا الأمير بموقفه من إعدامات السّادس من أيّار.

ساءت العلاقة بينه وبين الأمير فيصل الذي كانت أولويّته توطيد أواصر حكمه، وفور شعوره بإحكام القبضة على سوريا أصدر قرارًا بعزل الشّيخ "أبو الخير عابدين" من الإفتاء في الحادي عشر من أيار "مايو" من عام 1919م.

عاد الشّيخ أبو الخير إلى الخطابة في جامع الورد، وبعد وفاته عام 1925م خلفه في الخطابة وفي المكانة الشرعيّة ابنه الطبيب أبو اليسر عابدين الذي سيكون مفتيًا بارزًا لسوريا بعد زمنٍ ليس ببعيد.