أبعد قليلاً من ضربات عسكرية متبادلة

2024.04.26 | 05:39 دمشق

آخر تحديث: 26.04.2024 | 05:38 دمشق

68787878787878787878787878787
+A
حجم الخط
-A

لم تقم دولة إسرائيل لأن فلسطين أرض بلا شعب واليهود شعب بلا أرض، ولم تقم لأن لليهود حقاً في أرض فلسطين، منحها الله لهم بصفتهم شعبه المختار، ولم تقم لأن فلسطين أرض اليهود التاريخية، ولم تقم بسبب أي من هذه الأكاذيب وغيرها من تلك التي تم تعميمها ونشرها، بتواطؤ معلن وصفيق من المال، والسلاح، والتزوير والإعلام.

باختصار قامت دولة إسرائيل لسبب رئيسي، هو أن إسرائيل أهم وأكبر استثمار للغرب في منطقة الشرق الأوسط الغني بثرواته، وصاحب الموقع الجغرافي الفائق الأهمية، وأعتقد أن هذا الأمر أصبح جلياً ولا يحتاج لنقاش، المشكلة التي تحتاج لنقاش، والتي لا نزال نختلف عليها في هذه المنطقة، إنما تكمن في فهمنا لآليات دفاع الغرب عن هذا المشروع، وفي كيفية الحفاظ عليه، وحمايته، وترسيخه استثماراً لايقبل المنافسة.

تم اختيار الدين كرأسمال لا ينضب لإقامة وتسويق هذا المشروع، لا سيما أنه يقام في منطقة خرجت منها الديانات السماوية الثلاث، وبالتالي فليس ثمة ما هو أكثر ملائمة من استحضار وتعزيز الصراع الديني، وتغييب أسباب أخرى كانت أكثر حضوراً في تاريخ صراعات البشرية المعاصر، كالصراع الطبقي أو القومي، الصراعان اللذان حددا قسماً كبيراً من خريطة أوروبا وآسيا ومناطق كثيرة أخرى من العالم.

بدت الدولة الإسرائيلية نشازاً فاضحاً لكل المواثيق والاتفاقات الدولية التي وضعت، وكان لا بدّ من حل هذا التناقض، ولم يكن هناك حل سوى بالتواطؤ، وغض النظر عن كل انتهاكات إسرائيل.

كان لا بدّ لقيام هذا المشروع من أن يتم توفير ثلاثة عوامل ضرورية جداً له:

1- حمايته من أي خطر يتهدده، هذا يعني ضمان تفوقه العسكري الحاسم على كل دول المنطقة المحيطة به فرادى أو مجتمعة، ويمكننا ببساطة مراجعة الأرقام المالية الفلكية لحجم الدعم الذي قدمته الدول الغربية للكيان الإسرائيلي لنعرف مدى حرصها عليه، ويمكننا أيضاً تفسير سبب امتلاك إسرائيل لكل التقنيات العسكرية المتطورة التي ينتجها الغرب.

2- في الفترة نفسها التي تم فيها الإعلان عن ولادة الكيان الإسرائيلي، كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت، وبدأت ملامح وأسس النظام العالمي الجديد تُرسم، لكي تحدد صيغة التقاسم والنفوذ للدول المنتصرة، وبدت الدولة الإسرائيلية نشازاً فاضحاً لكل المواثيق والاتفاقات الدولية التي وضعت، وكان لا بدّ من حل هذا التناقض، ولم يكن هناك حل سوى بالتواطؤ، وغض النظر عن كل انتهاكات إسرائيل لهذه الاتفاقيات، وهذا ما نراه واضحاً عند مراجعة تاريخ إسرائيل منذ لحظة نشوئها وحتى اللحظة، فهي غير معنية بكل هذه المواثيق والاتفاقات الدولية، وكل ما يصدر عن الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن أو أي مؤسسة دولية أخرى.

3- تفتيت المنطقة، ومنع قيام دول أو كيانات يمكن لها أن تنمو وتتطور، بحيث تشكل خطراً على هذا المشروع – أقصد إسرائيل – وبالتالي كان من الضروري للغرب العمل على إجهاض كل المشاريع الوطنية الواعدة في المنطقة، ويمكن القول بسهولة إن كل الأنظمة السياسية التي قامت في منطقتنا، قد دُعمت من الغرب، أو حُوربت، بناء على مدى اقترابها أو ابتعادها عن المشروع الإسرائيلي.

تعي الأنظمة السياسية في المنطقة هذه المعادلة، وتعمل بموجبها، ولا يشذ عن هذه القاعدة أي نظام سياسي، بما في ذلك الأنظمة التي تدعي أنها تحاربها، والتي تطلق على نفسها صفة "الممانعة والمقاومة"، وبما فيها أيضاً دول أخرى منخرطة في الصراع على هذه المنطقة مثل تركيا، وروسيا، والصين وغيرها، وبالتالي فإن قراءة الحدث في هذه المنطقة، وقراءة التحالفات بين الدول وصراعاتها، وأوجه هذه الصراعات خارج هذه المعادلة يضع هذه القراءات في مأزق.

على ضوء ما تقدم يمكنني القول: إن مايجري اليوم بين إسرائيل وإيران ليس خارج هذه المعادلة، لا بل هو في مركزها، وبالتالي فإن الدجل السياسي الذي مارسته إيران – وما تزال- حول صراعها الوجودي مع إسرائيل، هو مجرد دجل متعمّد ومتفق عليه، والصراع الحقيقي بينهما إنّما يكمن أساساً في التنافس حول تقاسم النفوذ في هذه المنطقة، وفي تبعية هذا النظام أو هذه الدولة لهذا الطرف أو ذاك، تتشارك تركيا معهما في تنافس النفوذ والهيمنة هذا، لكن هذا التنافس كله يظل محكوماً بدلالة المشروع الأساسي وشروطه.

فهم المصالح الحقيقية لأطراف أي صراع، هو المقدمة الضرورية لرسم آليات التعامل معه، والتبعية لأي من أطرافه الفاعلة أو الارتهان لمشروعه تحت مسميات وطنية هو مجرد خداع أو وهم.

لم تنظر سابقاً، ولا الآن، كل من دول الغرب، وإسرائيل، وإيران، وتركيا، وروسيا، والصين و..، إلى النظم السياسية العربية على أنها شريكة في أي مشروع يخص هذه المنطقة وشعوبها، بل رأت فيها دوماً أداة في صراعها لتحقيق مصالحها، أو في مواجهة الآخرين، ولهذا لم يكن للدول الغربية وكل الدول التي لها مصالح في منطقتنا أي موقف إيجابي حقيقي من ثورات الربيع العربي، بل تشاركت جميعها في الرؤية التى ترى أن الديمقراطية والحرية لشعوب هذه المنطقة سوف تعيق إلى حد كبير من نفوذها، وقد يُهدد بشكل جدي مصالحها، ولم تع الأنظمة السياسية العربية أن عنادها والمضي قدماً في قمع وقتل شعوبها، كي تبقى في مواقعها، سيودي بها، وبشعوبها وبمستقبلها إلى الموت.

لا أذهب هنا إلى نظرية المؤامرة، والتي غالباً ما يستعملها الجميع أنظمة وأحزاباً وأفراداً كشمّاعة للتشبث بمواقفهم وتبرير فشلهم، فما أريد قوله بتكثيف شديد أن فهم المصالح الحقيقية لأطراف أي صراع، هو المقدمة الضرورية لرسم آليات التعامل معه، والتبعية لأي من أطرافه الفاعلة أو الارتهان لمشروعه تحت مسميات وطنية هو مجرد خداع أو وهم، فمن لايعي طبيعة التهديد الذي يواجهه سيكون من الصعب جداً التصدي له بفعالية، واللاهثون خلف هذا الطرف أو ذاك إنّما يسهمون -بوعي أو بلا وعي- في وأد أي مشروع وطني حقيقي.

في النهاية لا بدّ من القول: إن الغرب ما يزال حتى اللحظة يربط مصلحته الأساسية في منطقتنا بمشروعه القديم "إسرائيل"، وهو جاد في الدفاع عنه، إلى حد الانخراط في حرب عالمية كبرى إذا تطلّب الأمر، ولن يكون هناك حل لدولتين "فلسطينية/ إسرائيلية"، ولن يكون هناك دعم لدولة ديمقراطية حقيقية مهما تشدق ساسة هذا الغرب، ما لم تتهدد مصالحه بشكل حقيقي، ومن يهدد هذه المصالح ليست إيران، ولا حزب الله، ولا تركيا، ولا روسيا ،ولا نظام الأسد ولا غيرها من الأطراف، فهذه كلها أطراف تبحث عن حصصها بالتوافق مع المشروع الإسرائيلي، وحدها شعوب هذه المنطقة يُمكن لها أن تضع كل الأطراف أمام المعادلة الحقيقية للعلاقة التي يفترض أن تقوم بين الدول، أي علاقة النديّة والتشارك واحترام المصالح، لكن هذا سيظل مرهوناً بمدى وعي هذه الشعوب لمصالحها الحقيقية، وبمدى استبعاد الدين وتصنيفاته القاتلة من الصيغة السياسية لدولهم.