آلة الإبداع الروائي

2020.01.02 | 18:03 دمشق

alrby-770x405.jpg
+A
حجم الخط
-A

يحدثنا أبو الطيب المتنبي في إحدى قصائده عن (آلة العيش) فيقول:

آلة العيش صِحةٌ وشبابٌ ... فإذا ولّيا عن المرء ولّى

وعلى غرار هذا البيت يمكن أن نتحدث عن آلة الإبداع الروائي، فإذا وُجدت وجد الإبداع وخُلّد اسمه في سجل المبدعين، وإذا ولّت ولّى، وأُسلك في سلسلة ذرعها طويل وممتد من العاديين!

هذه الآلة هي المعرفة التفصيلية الهائلة، والبحث المستقصي والدراسة المتبحّرة بموضوع الرواية، ولعله لا جديد في هذا الكلام على صعيد الفكرة، فلطالما تداولها الكتّاب وتحدّثوا عنها، ولكن الأمثلة التي سنتناولها هي ما سيشفع لنا، فربما حملت للقارئ جديداً يدعم الفكرة ويرسّخها ويعضدها.

إن كلّ روائي من الروائيين العظام يصلح مثالاً لامتلاك آلة الإبداع الروائي، وحسبنا هنا أن نستلّ من هذا العالم الزاخر نماذج لهذه الآلة التي ارتقت بأصحابها ونهضت بهم، وأبتدئ من بلزاك الذي عدّه كثير من النقاد أكبر

انطوت روايات بلزاك العديدة على مخزون هائل من المعلومات، عن كل الطبقات المهنية، وعن طبائعها وخصائصها

روائي في تاريخ فرنسا، ومن أعظمهم أثراً وفتنة إلى درجة قيل فيها: إنّ العالم الإنثربولوجي كلود ليفي ستروس قرأ رواياته أربعين مرة دون كلل أو ملل! ولا عجب في ذلك فقد وُصف عمل بلزاك بأنّه "أكبر مستودع للوثائق الإنسانية منذ أيام شكسبير".

لقد انطوت روايات بلزاك العديدة على مخزون هائل من المعلومات، عن كل الطبقات المهنية، وعن طبائعها وخصائصها، وتناولت مناورات البورصة والمضاربات العقارية، وأسرار الكيمياء، وأحابيل العطارين، ولمسات الفنّانين الفنية، ومناقشات اللاهوتيين، وخدع السياسة والسياسيين، ونقرأ فيها تاريخ الأبنية، ونعرف كل منزل في باريس متى بُني، ومن بناه، ولمن بناه، ونحل لغز شعار النَّبالة القائم فوق الباب، ونعرف تاريخ الأسرة النبيلة من خلاله.

لقد كانت آلة إبداع بلزاك معرفة موسوعية هائلة تفرض على المرء أن يتساءل: كيف حصّل كل هذا المخزون المعرفي الرحيب؟

ويمكن أن نشير هنا إلى مخزون آخر مواز في الاتساع والامتداد لدى الروائي الإيرلندي جيمس جويس، وهو المخزون القائم على تفقّه لغوي قلّ نظيره، فجعل صاحبه استثنائياً، وعمله فريداً، حتى وُصفت روايته المسماة عوليس بـ (ملحمة القرن العشرين)، وصُنّفت باعتبارها واحدة من أهم ثلاث روايات في تاريخ الرواية العالمي!

تدور أحداث الرواية في مدينة دبلن خلال يوم واحد من حياة ليوبولد بلوم سنة 1904، وفي هذه الرواية يحاول جويس استقصاء اللحظة الحاضرة التي لا يمكن القبض عليها، لكنه يروم ذلك من خلال اللغة بكل ما تنطوي عليه من استعارات ورموز ودلالات وإشارات وإحالات، ليغدو السرد اللغوي هو البطل الحقيقي في هذه الرواية، ويكفي أن نعلم أن عدد كلماتها بلغ أكثر من ربع مليون كلمة، استخدم فيها جويس معجماً وصل إلى ثلاثين ألف مفردة.

يصف لنا تسفايغ في مذكراته (عالم الأمس) غنى المعرفة اللغوية لدى جويس، وتمكّنه من فقه اللغة بما يلي: "كنتُ كلما ازددت تعرّفاً إليه ازداد إدهاشاً لي بمعرفته الرائعة باللغة. فوراء هذه الجبهة المستديرة، التي كأنما تمّ تطريقها بالمطارق تطريقاً محكماً فكأنها وعاء من نحاس، والتي كانت تأتلق في النور الكهربائي شأن الخزف الصيني، نُقشت كل مفردات التعبيرات، وكان يداخل بينها بطريقة بالغة التألق. وذات مرة، حين سألني: كيف عساي أن أعبّر عن جملة صعبة وردت في كتابه (صورة الفنان في شبابه) بالألمانية، جرّبنا الصياغة معاً بالإيطالية والفرنسية. كان لديه، مقابل كل كلمة أربع أو خمس كلمات جاهزات في كل تعبير، وحتى الكلمات التي ترد في اللهجات المحلية، كان يعرف قيمتها، ووزنها، حتى أدق لويناتها".

ليس بوسعنا ههنا أن نتحدث عن مبالغة سواء عند بلزاك أو جويس، لأنّ الحصيلة الروائية تؤكد صدق هذه الآلة وتَحقُّقها، تماماً مثلما نراها في حصيلة إنتاج الروائي المبدع أورهان باموق، الذي يحدّثنا عن مسوّدات روايته (ثمة غرابة في عقلي) فيصفها بأنّها تشكل كوماً كالجبل! هل يبالغ؟ كلا. فقد كان بطل الرواية (مولود) بائع بوظة، وكان لدى أورهان خشيةً من أن يُسأل: من أين يعرف أورهان ابن حي نيشان طاش الراقي أبطال روايته الفقراء؟ ومن أجل ذلك أعاد النظر فيما كتبه أكثر من خمسين مرة، وتتبّع بائعي البوظة واللبن، وزارهم في بيوتهم، واستمع إلى قصصهم حتى أصبح يعرفهم كما يعرف أفراد أسرته! إنها آلة البحث والدراسة والاستقصاء. الآلة التي تظهر أيضاً بشكل أوضح وأبرز في روايته (اسمي الأحمر) وهي رواية أبطالها رسامو العالم الإسلامي في القرن العاشر الهجري، ولا سيما في مقر السلطنة العثمانية.

عندما كتب باموق هذه الرواية العظيمة لم يكن الإنترنت قد انتشر، لذلك كان يسافر ويراجع المكتبات، ويصور الكتب والمخطوطات والمنمنمات، فغدا لديه مكتبة لا مثيل لها هي مكتبة (اسمي الأحمر)! ويحدثنا أورهان عن مديرة مكتبة قصر (توب كابي) فلز تشاغمان، التي قالت

أقرأُ كل ما كُتِب حول المنمنمات، وأعرف كلّ شيء عنها، وأعرف من أين استقى كلّ كاتب منمنماتٍ معلوماته، وبمن تأثر

له أجمل مديح سمعه في حياته حول الرواية: "قبل إصدار الكتاب أعطيتها المخطوط لكي تقرأه، وتنبِّهني ما إذا كنت قد وقعت بمغالطة ما، وكما هو معروف فإن مكتبة (توب كابي) هي أكبر مكتبة منمنمات في العالم، وهي مديرة هذه المكتبة، ثم أصبحت مديرة المتحف كلّه. قالت لي: أقرأُ كل ما كُتِب حول المنمنمات، وأعرف كلّ شيء عنها، وأعرف من أين استقى كلّ كاتب منمنماتٍ معلوماته، وبمن تأثر. عرفتُ أنكم قرأتم كل هذه الكتب، ولكن ما لم أفهمه هو كيف تمكَّنتم من جمع كل هذه المعلومات في كتاب واحد"؟

أما الأديب عبد السلام العجيلي فلم يصدق حين قرأ رواية (موزاييك: دمشق 39) أنّ فواز حداد هو اسم الكاتب الحقيقي، بل ظنه اسماً مستعاراً لشخص عاش أحداث سنة 1939 معايشة حقيقية، في حين ولد فواز حداد سنة 1947، وكذلك أيضاً لم يصدق العراقيون أنه لم يزر العراق في حياته عندما قرؤوا روايته (جنود الله) التي تناول فيها المسألة العراقية بعد احتلاله أمريكياً، من خلال قصة أب يذهب للبحث عن ابنه الملتحق بتنظيم القاعدة، وظنّ كثير منهم، كما يخبرنا في مقابلة تلفزيونية معه، أنّ هذه الحادثة حدثت معه شخصياً من براعة الوصف ودقته وحرفيته. لقد كانت آلة فواز حداد الإبداعية وصف المكان والزمان بشكل مفصل ودقيق، وصفاً يستند إلى دراسة وبحث وتفتيش وتدقيق، بحيث لا تتعارض أية مفردة من مفردات هذا الوصف مع معطيات الزمان والمكان خدمةً لموضوع الرواية ودعماً لسير أحداثها.

أعاد الروائي في رواية (موزاييك 39) رسم خريطة دمشق كما كانت سنة 1939، ثم تناول دمشق مرة ثانية في روايته التالية (تياترو 1949) فأعاد رسم خريطتها مرة أخرى بما يناسب عام 1949، وتابع المكان في صيرورته: كيف ينهار من جهة، ويتغير من جهة أخرى، وظل يرسم هذه الخرائط في رواياته العديدة وصولاً إلى روايته (السوريين الأعداء) التي تقف عند حدود سنة 2014

يقوم الروائي بالبناء. لأنّ الروائي معمار وبنّاء، وأسّ البناء خيال وإلهام وخلق وإبداع، ولكن الروائي أيضاً متعهد إكساء، وعليه أن يكسو البناء ويفرشه ويغنيه بالتفصيلات الصغيرة والكبيرة، والتي لا ينفع معها محض الخيال والإبداع، بل لا بدّ من آلة وأداة وهي معرفة محيطة تستوعب الجملة والتفصيل، ومعلومات شاملة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، وفي أثناء ذلك يملأ الروائي بناء الرواية بساكنيه من البشر، ويسيّرهم إلى غايتهم من المصائر بما لديه من بصائر.