«جهاز الأمن العام» هدف المتظاهرين في إدلب

2024.06.03 | 07:37 دمشق

جهاز الأمن العام التابع لـ"هيئة تحرير الشام" في إدلب
+A
حجم الخط
-A

طوال عشرة أعوام من عمره لم تستعدّ الذراع الأمنية لأبي محمد الجولاني، زعيم «هيئة تحرير الشام»، ليوم حساب. فقد سارت به الأيام من مجموعات صغيرة إلى كيان متماسك قوي فرض قبضته الثقيلة على سكان المناطق التي تسيطر عليها «الهيئة» وامتد إلى خارجها في ريف حلب.

في آذار 2014 تبلور جناح أمني مستقل في «جبهة النصرة»، بعد مضيّ شهرين على المعارك بين فصائل من الجيش الحر و«النصرة» وبين تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش). عندما وجدت «الجبهة» نفسها في حرب طاحنة مع تنظيمها الأم بدت، بالنسبة إلى الأخير، أشد مصيرية من معركته مع «الجيش الحر» لأنها صراع ضمن البيت نفسه حول الموارد المختلفة؛ البشرية المتمثلة في المهاجرين أساساً، والمادية من المتبرعين وشبكاتهم، اعتماداً على حيازة خاتم الشرعية في بيئات الجهادية العالمية. وفي هذا السياق كان قادة داعش يطلبون رأس أبي محمد الجولاني، المنشق عنهم إلى «القاعدة»، محمّلينه مسؤولية نكث «البيعة» وتفريق الصف الجهادي والشرخ الذي لن يندمل بينهم وبين أيمن الظواهري، أمير «القاعدة» في ذلك الوقت.

كانت داعش تعتقد أنها ستسيطر على الانشقاق بقتل متزعمه الجولاني. ومن جانبه عاش زعيم «النصرة» أياماً حذرة وشاقة من التخفي اعتمد فيها على أحد أعوانه المخلصين لتأمين منازل متغيرة باستمرار واختيار حراس موثوقين. ومن هنا بدأت مسيرة أبي أحمد حدود الصاعدة.

ولد أنس حسان خطاب في مدينة جيرود بريف دمشق في عام 1987 لعائلة متوسطة محافظة. سجّل في كلية الهندسة بجامعة دمشق حتى لوحق، في العام 2008، بسبب علاقته الهامشية بمجموعة إسلامية راديكالية في مدينته، فاجتاز الحدود ملتحقاً بما سمّي «دولة العراق الإسلامية» التي كانت في أضعف حالاتها فلم يكن له دور هام هناك. وفي عام 2011 تعرّف إلى الجولاني الذي كان قد كُلّف بتأسيس فرع للجماعة في سوريا فأسهم معه في إنشاء «جبهة النصرة». ونشأت بين الرجلين علاقة كان الجولاني فيها هو الطرف الأقوى وما يزال، رغم التذمر المتقطع الخافت الذي يبديه خطاب أحياناً. إلا أن ولاءه لأميره لم يهتز فعلياً منذ أن اختار الانحياز إليه في صراع «النصرة» و«الدولة». ولذلك عيّنه الجولاني في مناصب مركزية، بدأت من «الإداري العام» للجماعة ووصلت إلى مسؤول «لجنة المتابعة والإشراف العليا» التي يكون فيها بمثابة المدير التنفيذي لها. كما تدخل الجولاني لتعيينه نائباً له رغم فشله في انتخابات مجلس شورى «جبهة النصرة». لكن الأهم ظل، على الدوام، في إمساكه بالملف الأمني الذي يبدأ بالحماية الشخصية للجولاني ويمتد إلى الكثير من أسرار مهمات خاصة، تفاوضية وتجارية ومعابرية، جعلت منه الصندوق الأسود.

كان خطاب من أوائل من صنّفتهم الولايات المتحدة الأميركية (2012) ثم الأمم المتحدة (2014) بتهمة الإرهاب في سوريا. يصفه من عرفوه بأنه شخص شديد الدأب. ينفذ التعليمات بدقة مثل آلة فعالة وذكية. وعلى خلاف ضعفه أمام أميره فإنه لا يتورع عن توبيخ أبرز قادة الجماعة العسكريين والشرعيين إن احتاج الأمر، ناهيك عن المسؤولين المدنيين الصوريين من وزراء «حكومة الإنقاذ».

في منتصف 2020، بعد استقرار حدود سيطرة «هيئة تحرير الشام»؛ النسخة الثالثة من الجماعة، ظهر اسم أبي أحمد حدود، الذي لا تُعرف له صورة حديثة حتى الآن، على رأس كيان جديد سمّي «جهاز الأمن العام». لم يكن هذا الجهاز تابعاً لوزارة الداخلية في «حكومة الإنقاذ» كما يُفترض، كما لم يُسبق اسمه بما يدل على أنه أحد مكونات «الهيئة» رسمياً رغم اشتهار تبعيته المباشرة لقائدها وتلقي تعليماته منه بما يتجاوز جهاز الشرطة المدنية العادي التابع لوزارة الداخلية، ويتفوق على الجناح العسكري في النفوذ والصلاحيات العالية والتسليح الحديث والتجهيزات الخاصة والبدلات والأقنعة التي قُصد منها فرض الهيبة وإشاعة الرهبة.

خلال السنوات الماضية توسع «جهاز الأمن العام» وامتلك سجونه الخاصة ومحاكمه السرية ومقابره الجماعية. وفي رسالة مصورة معروفة باسم «سرطان الثورة وقوارب النجاة»، نشرها القائد السابق في «الهيئة» المشتهر بلقب أبي العبد أشداء في نيسان من العام 2021، قدّر أن عدد من طالتهم أحكام الإعدام لأسباب أمنية وصل إلى أكثر من ألف، ويرفع آخرون العدد اليوم إلى ألفين، ممن لم تتح لهم إجراءات تقاض شفافة وتوكيل محام، وتعرضوا للتعذيب، وقلة منهم فقط سُلِّمت جثثهم لذويهم أو أُعلموا بمقتلهم.

ورغم أن «جهاز الأمن العام» لم يقصّر في اعتقال الناشطين المدنيين أو الإعلاميين واستدعائهم؛ إلا أنه يُعتقد أن أكثر أحكامه بالإعدام طالت المتهمين بالانتماء إلى داعش، أو إلى «حراس الدين» فرع «القاعدة» الجديد، أو إلى تنظيمات جهادية صغرى سعت «الهيئة» إلى ابتلاعها أو إخمادها. وفي هذا ظل «جهاز الأمن العام» وفياً للمهمة التي سبق واضطلع بها منذ نشأته وقبل اتخاذه هذا الاسم؛ أي حماية الجولاني من داعش ومن يقفون على يمينه من الجهاديين الذين قد يشوّشون على الصورة العامة للمنطقة بوسمها بالإرهاب العالمي أو يقوّضون الهدنة الهشة مع النظام. وهو ما لا تريده الطبعة الجديدة لقائد «الهيئة» الذي انشغل ببناء ما سمّاه «المشروع» في إدلب، وسعى إلى تسويقه لدى الجهات الخارجية أملاً في التخلص من تصنيفه وجماعته بالإرهاب.

من هنا كانت إنجازات جهازه الأمني أثمن ما يمكن أن يبيعه لزواره الغربيين؛ بدءاً من استعراض التحولات التي يجريها في «الهيئة» ليقدّمها كفصيل محلي لا ينشط خارج الحدود ولا يسمح للجهاديين بالإعداد لذلك من مناطق سيطرته، وصولاً إلى اتهامات غير مؤكدة عن تقديم معلومات استخبارية وتسليم «مهاجرين» إلى دولهم والدلالة على عناوين بعضهم ممن استهدفهم «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة بقصف جوي أو بطائرات مسيّرة.

وفضلاً عن هذه الملفات تمكن «جهاز الأمن العام» من ضبط الخريطة السكانية لعدة ملايين ممن يقبعون في مناطق سيطرة «الهيئة»، عبر النفاذ الإجباري إلى قواعد بيانات «حكومة الإنقاذ» المختلفة من الأحوال المدنية وشهادات قيادة السيارة وعقود الشراء أو الاستئجار ورخص الأعمال، عدا عن نشر الكاميرات في الشوارع، وتجنيد «الرصّاد» (المخبرين). ونتيجة كل ذلك صار سكان هذا المناطق يشعرون بأن هناك من يستطيع أن يحصي حركاتهم وسكناتهم حين يريد. وكانت هذه الحالة الجاثمة، بالإضافة إلى انتهاك «الجهاز» الكرامات والحرمات عند مداهماته، الخلفية التي انفجرت على أساسها الاحتجاجات إثر شيوع الأخبار عن التعذيب الوحشي في سجون «الأمن العام»، مطالبة بحلّه وتنحي الجولاني، المسؤول النهائي عنه، عما يسميه إعلامه «قيادة المحرر».

لكن ذلك صعب للغاية لأنه يعني تسليم الجولاني وحدود وجنودهما رقابهم للمساءلة التي لن تكون يسيرة وربما ستفضي إلى الموت. فمنذ الآن بدأت الشهادات تتسرب عن جرائم مجموعات «الأمن العام»، والتي لن تترك معظم أعضائه خارج إطار المحاسبة عن عمليات اغتيال وزرع عبوات عدا عن أعمالهم «الاعتيادية» في مقارّ الاحتجاز. ولذلك حاول الجولاني خلط الأوراق بضم «الجهاز» إلى وزارة الداخلية بعد تحويله إلى «إدارة»، فيما يبدو أن الوزارة هي من أُتبعت له بعد أن صار وزيرها ناطقاً فعلياً باسم «الأمن العام»، مكرراً رواياته المفبركة ومهدداً بضرب المتظاهرين «بيد من حديد».

من جهة أخرى تحاول قيادة «الهيئة» زج جناحها العسكري، واستغلال احترام المتظاهرين له وتحييدهم لأفراده وتحيتهم في الهتافات لأنه يتكون من «مجاهدين». فصار إعلام «الهيئة» يقول إنه لا فرق بين النوعين؛ سواء المرابط على الجبهات أو «المجاهد في وزارة الداخلية»، لكن المحتجين ردّوا، في تظاهرات مدينة إدلب يوم الجمعة الفائت: «الأمن العام... كلّن شبيحة».