الصين والولايات المتحدة الأميركية.. الشراكة والتنافس بين الأضداد 

2024.01.01 | 06:58 دمشق

AFP/Getty Images)
+A
حجم الخط
-A

لاشك بأنّ الأمور تتحرك ببطء ولكن بثبات نحو تشكيل "الاثنين الكبيرين" (الصين وأميركا)، لكن النتائج التي انتهت إليها القمة الصينية الأميركية التي انعقدت في سان فرانسيسكو في الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام، لا يمكن تفسيرها بسهولة من حيث النجاح أو الفشل. فمن ناحية، لم تؤدِ المفاوضات الشخصية بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي جوزيف بايدن، كما كان متوقعاً، إلى اختراقات مثيرة في العلاقات الثنائية. حيث ظلّت المواقف الأولية للمشاركين في الاجتماع من دون تغيير تقريبًا أو لم تتغير إلا بشكل طفيف. وهذا يمكن اعتباره فشلا.

من ناحية أخرى، فإن حقيقة الاجتماع، والسيناريو الذي لا تشوبه شائبة لإجرائه، وعدد من الاتفاقيات المحددة التي توصلت إليها الأطراف في مختلف المجالات، تعطي سببًا لإدراك نتائجه كخطوة نحو استقرار العلاقات الصينية الأميركية المعقدة. وهي خطوة قد يتبعها آخرون في المستقبل. في الواقع، هذه الفكرة نقلها وزير الخارجية الصيني وانغ يي في حديث مع الصحافيين مباشرة بعد انتهاء المفاوضات، مشيراً إلى أن اللقاء "عزّز الثقة وخفّف الشكوك"، وساهم في "إدارة الخلافات" و"توسيع التعاون". وشدّد في الوقت نفسه على أنّ سان فرانسيسكو لا ينبغي أن تكون "المحطة النهائية"، بل المقصود منها أن تصبح "نقطة انطلاق جديدة" في تطوير العلاقات بين البلدين. وبعبارة أخرى، اعتبر الجانب الصيني نتائج الاجتماع نجاحًا محدودًا.

فإذا قمنا بتحليل نتائج القمة من خلال موقف محايد، فلا يمكن أن نتجاهل الأجواء التي تمّ الإعداد فيها، وكيف تمّ هذا الإعداد. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنّ الطريق إلى سان فرانسيسكو بالنسبة للمشاركين في القمة كان ملتوياً وصعباً. ويمكن اعتبار نقطة البداية هي اللقاء المباشر الأول بين الزعيمين الصيني والأميركي في جزيرة بالي الإندونيسية قبل عام. وفي لهجتها العامة، كما بدا آنذاك على الأقل، فإنها قدمت فرصة معينة للاعتماد على التقدم الإيجابي في العلاقات الصينية الأميركية. ومع ذلك، ولأسباب موضوعية وذاتية مختلفة، لم يتمكن الطرفان من استغلال هذه الفرصة بشكل صحيح.

وبالفعل، في الأشهر الأولى من هذا العام، تراجعت العلاقات الصينية الأميركية مرة أخرى إلى مستوى مائل. وأصبح الخطاب السياسي على الجانبين قاسياً وعدائياً على نحو متزايد، وبدأت الشكوك المتبادلة تتخذ أشكالاً جنونية صريحة، وتتابعت العقوبات المتبادلة الواحدة تلو الأخرى، في حين أصيبت آليات الحوار وقنوات الاتصال المتبادل بالشلل أو الحجب في أغلب الأحيان. لقد اقتربت العلاقات بين الصين والولايات المتحدة كثيراً من النقطة الخطيرة المتمثلة في الدخول في مرحلة من السقوط الحر؟، وتزايدت احتمالات نشوب حرب باردة، و بعبارة ملطفة، تزايدت احتمالات نشوب صراع مفتوح بين القوتين.

وفي هذا الجو العصبي المتوتر، وجدت القيادات العليا في كل من الصين والولايات المتحدة الإرادة السياسية، فداسوا على حنجرة أغنيتهم ​​في بعض الأماكن، وبدأوا مرة أخرى في البحث الصعب عن أشكال التفاعل المقبولة من الجانبين. وفي الوقت نفسه، يبدو أنه أخذت أخطاء الماضي بعين الاعتبار. لم تستعجل الأطراف الخيول، لكنها ركزت بشكل أساسي على الإعداد الدقيق، وصولاً إلى أصغر التفاصيل، لاجتماع القادة، والذي لم يتم الإعلان عنه مسبقًا، ولكن تمّ وضعه في الاعتبار باستمرار. وعلينا أن نشيد بعمل دبلوماسيّي البلدين، الذين أظهروا مستوىً عاليًامن المهارة المهنية.

وبعد اجتماع مايو/أيار في فيينا، بين رئيس مكتب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني للشؤون الخارجية آنذاك وانغ يي، مع مساعد رئيس الولايات المتحدة للأمن القومي جيك سوليفان، حيث حدّد الطرفان مسارًا لاستعادة وتكثيف قنوات الاتصال. الاتصالات الثنائية في العديد من المجالات. وفي الصيف والخريف، تلا ذلك سلسلة من الزيارات والاجتماعات والمفاوضات بين مسؤولين أميركيين وصينيين رفيعي المستوى، وتمّ إنشاء أو استئناف مجموعات العمل المعنية بالقضايا الاقتصادية والمالية والتجارية، و استؤنف عمل مجموعة المناخ المشتركة. والحقيقة أنّ الصين والولايات المتحدة، في وقت قصير جداً، ومن دون الإعلان عن ذلك رسمياً، تمكنتا من استعادة العناصر الأساسية لآلية الحوار الاستراتيجي والاقتصادي التي عملت أثناء رئاسة باراك أوباما ثم وضعت تحت السكين من قبل الولايات المتحدة. دونالد ترامب.

وبطبيعة الحال، لم تتمكن هذه المشاورات والمفاوضات في حد ذاتها من إزالة التناقضات الحادة بين الطرفين، ولكن عملية استعادة النسيج الحي للعلاقات مضت قدما، وأُتيح للقادة الفرصة، ليس فقط لرؤية صورة شمولية للوضع الحالي، بل أيضا تعيين حدود التنازلات المقبولة بسرعة؟، وربما الأهم من ذلك، تشكيل توقعات واقعية. وبالتالي، من وجهة نظر المحتوى الموضوعي، تمّ الإعداد للاجتماع بين شي وبايدن بشكل جيد للغاية.

لابد من القول إنّ الاجتماع لم يكون سوى فتح نافذة في جدار الجمود الصيني الأميركي لترحيل المشاكل العالقة بينهما إلى ما بعد الانتخابات القادمة في واشنطن وإلى تعافي الاقتصاد الصيني حيث يصبح للنقاش قواعد ثابتة في جدار الجليد

كما تمّ إيلاء الكثير من الاهتمام لقضايا البروتوكول، الذي كان الجانب الصيني حساسًا لها دائمًا، والآن بشكل خاص، خاصة وأنّنا كنا نتحدث عن أول رحلة يقوم بها شي جين بينغ إلى الولايات المتحدة منذ عام 2018. لقد تمّ رفع حالة توقعات الرحلة والمفاوضات مع الرئيس الأميركي بحكم الأمر الواقع إلى مستوى زيارة دولة تقريبًا. وأرسل الجانب الأميركي إلى شي جين بينغ دعوة خاصة للاجتماع، منفصلة عن الدعوة للمشاركة في قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (آبيك)، أي أنها تبدو وكأنها تفصل بين هذين الحدثين. ومن الواضح أنّ الجانب الصيني أُعجب بهذا النهج. وذهبت وزارة الخارجية الصينية إلى أبعد من ذلك في هذه اللعبة. وجاء في الإشعار الرسمي لزيارة شي جين بينغ إلى الولايات المتحدة أنّ "الرئيس شي جين بينغ سيسافر إلى سان فرانسيسكو لعقد القمة الصينية الأميركية وسيحضر في الوقت نفسه الاجتماع الثلاثين لقادة منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ"، أي أنّ الاجتماع مع الرئيس الأميركي كان مقررا. مرتبة أعلى من قمة أبيك. وليس من قبيل المصادفة أن وانغ يي وجد أنّه من الممكن مشاركة تفاصيل البروتوكول هذه مع الصحافيين، موضحًا بصراحة أن وضع الاجتماع بين رئيسي الصين والولايات المتحدة يختلف نوعيًا عن الاجتماعات الثنائية الأخرى لرؤساء الدول حول الموضوع. على هامش قمة" آبيك".

وفي المفاوضات ذاتها، أظهر الطرفان "نطاقاً كوكبياً". واتفق الزعيمان على أن العلاقة بين بلديهما هي أهم علاقة ثنائية في العالم. وأعرب شي جين بينغ عن موقف مفاده أنّه اعتمادًا على الاتجاه الذي تتطور فيه العلاقات بين الصين والولايات المتحدة في المستقبل، فإنّ مستقبل البشرية على نطاق عالمي سيعتمد. ومع ذلك، في تقييم طبيعة العلاقة الحالية، تباينت مناهج الأطراف بشكل كبير. وبينما أدرك الجانب الأميركي فائدة وأهمية التعاون في عدد من المجالات، ركّز مع ذلك بشكل أكبر على المنافسة، حاول الجانب الصيني، دون إنكار وجود التناقضات والمنافسة، تسليط الضوء على فكرة التعاون. ومن المثير للاهتمام، أنّه بعد محادثاته مع بايدن في وقت لاحق من ذلك المساء، أشار شي جين بينغ لطبيعة؟ العلاقة الصينية الأميركية في خطاب ألقاه أمام استقبال حافل مع رجال الأعمال والدوائر العامة الأميركية، فيما يمكن اعتباره نوعًا من صدى المناقشة الرسمية. التي انتهت للتو. وقال شي، على وجه الخصوص، إنّ "مستقبل العالم يحتاج إلى التعاون الصيني الأميركي"، مشددًا على أنّه قبل كل شيء، يجب الإجابة على السؤال الأكثر أهمية: من هي الصين والولايات المتحدة بالنسبة لبعضهما البعض، شريكان أم منافسان؟ والصين نفسها، كما أكدّ زعيمها، «مستعدة لأن تكون شريكاً وصديقاً للولايات المتحدة، لبناء علاقات معها على أساس الاحترام المتبادل، والتعايش السلمي، والمنفعة المتبادلة». ومن وجهة نظر شي، إذا نظرنا إلى الجانب الآخر "في المقام الأول كمنافس فقط، فإن هذا سيؤدي حتما إلى أخطاء في السياسة، وإلى تصرفات خاطئة، وتوليد نتائج خاطئة".

وفي الوقت نفسه، فإنّ هذه التصريحات التصالحية المحبة للسلام لا تعني على الإطلاق أنّ الصين مستعدة للموافقة دون قيد أو شرط على اتباع النهج الأميركي في جميع الحالات. وقد تجلى ذلك بوضوح في كلمات شي خلال المفاوضات بأنّ "الصين لديها مصالح تحتاج إلى الحماية، وهناك مبادئ تحتاج إلى التمسك بها، وهناك خطوط حمراء تحتاج إلى احترامها".

على وجه الخصوص، حاولت الصين إظهار نهج صارم عند مناقشة القضايا التجارية والاقتصادية، حيث تكون التناقضات بين الطرفين حادة بشكل خاص. وقال شي جين بينغ إنّ الإجراءات الأميركية في مجال ضوابط التصدير والاستثمار والعقوبات ضد الشركات الصينية هي محاولات لضرب العلوم والتكنولوجيا في الصين وتهدف في النهاية إلى "حرمان الشعب الصيني من الحق في التنمية". وأن الولايات المتحدة "ستواصل اتخاذ الإجراءات المناسبة لمنع استخدام التكنولوجيا الصينية المتقدمة لتقويض الأمن القومي الأميركي".

وحسبما يبدو فهناك طريق مسدود بشكل كامل بينهما. إلا أنّ هذا السجال لم يمنع، بعد يومين فقط من اللقاء، من عقد الاجتماع الأول للمجموعة التجارية والاقتصادية الصينية الأميركية على مستوى وزيري تجارة البلدين، فضلا عن التوصل إلى اتفاق لبدء المفاوضات بشأن تمديد الاتفاقية. اتفاقية التعاون العلمي والتقني. حتى من هذا، بشكل عام، مثال خاص، يمكننا أن نستنتج أنّ العلاقات بين الصين والولايات المتحدة ستستمر في الجمع بين عناصر التنافس والشراكة، ولن تكون العلاقة بينهما ثابتة، ولكنها يمكن أن تتغير ديناميكيًا في اتجاه أو آخر.

خلاصة القول هي أنّ الاجتماع الصيني الأميركي في سان فرانسيسكو أظهر مرة أخرى أنه مع كل الحديث عن التعددية القطبية، فإنّ درجة تأثير أكبر قوتين في عصرنا على الوضع في العالم تستمر في التزايد.

لكن لابد من القول إنّ الاجتماع لم يكن سوى فتح نافذة في جدار الجمود الصيني الأميركي لترحيل المشاكل العالقة بينهما إلى ما بعد الانتخابات القادمة في واشنطن وإلى تعافي الاقتصاد الصيني حيث يصبح للنقاش قواعد ثابتة في جدار الجليد.