صور قيصر: البحث في معرض الموت.. وجع الأمل

2020.07.10 | 00:00 دمشق

من أقسى ما تركه نظام الأسد خلال أعوام الثورة التسعة هي صورُ المعتقلين المقتولين تعذيبا، مرضا، جوعا، بردا في الأقبية التي لا يصلها نور ولا يخرج منها حي سليم، صور القتلى التي سربت وعرفت لاحقا بصور "قيصر" هي من أشنع ما حصل معنا كسوريين وإن كان التسريب انتهى أواخر العام 2013، إلا أن القتل لم ينتهِ، ومازالت الأيام تخبرنا عن قتيل هنا وآخر هناك قضى تعذيبا.

قسوة الصور أنك تعرف تلك الوجوه ولا تنساها حية نابضة، لترى ما فعل بها جلاد قاتل، نعرف الوجوه والقسمات وتلك المقل المفقوءة كانت يوما تطالعنا وتلك البسمات الموءودة بذنب الثورة، كانت يوما بيننا وخيط الدم المتخثر على الجباه يختصر لنا الحكاية.

هذه الأيام تنتشر الصور أكثر مع سريان قانون قيصر الأميركي الذي أقرّته واشنطن عقابا للأسد بعد أن تأكدت من صدقية هذه الصور، وأنها تضم حيوَات أزهقت في أقبيته، وبين القبول والرفض أخلاقيا تنبت الأسئلة..هل يجوز نشرها لمن هي بحوزته أم لا؟ هل تفيد حقا من يبحث عن فقيد انقطع أثره على يد النظام أم لا؟..وبين هذه الثنائيات القاتلة يبقى ثابت وحيد هو أن أحد عشر ألف روح "على الأقل" تركت أجسادا أصبحت صورا تُعرض في فضاءات المتاحف وصفحات الشبكة العنكبوتية، وخلف هذه الأرواح ثمة أرواح تُعذب وأنفس تئنّ شوقا لسماع خبر مطمئن وربما تريد نهاية ما، أي نهاية، وهل في الوجود أقسى من حيرة أُمّ تتفحص صورا لملامح مهشمة وجثث مرقمة، علها تجد وجها تعرفه.. هل في الوجود أقسى من أن تصل رسالة مصورة لأب أو ابن أو أخ أو أخت صورة لمفقودهم.. ماذا سيفعل نظام الأسد بالسوريين أكثر من أن يتركهم للبحث في معرض الموت المفتوح ممتلئين بوجع الأمل، أمل بأن يجدوا من يبحثوا عنه.. يجدوه هنا وجها، رقما، صورة.

بين حيرة الفاقدين وغياب أثر المفقودين يبقى التعويل أن يحقق قانون قيصر شيئا من عدالة أو سمّها قصاصا من القتلة، وعلَّ الجاني تردعه سَوءة أعماله وإن كان في ذلك شك، فمع الأسف يبقى نظام الأسد ذاته الذي نعرف، يأبى أن يدخل التاريخ إلا من باب القتلة والمجرمين. نظام كامل مركب على الإجرام والنكران وسحق المختلف، مرسخ في رأس كل عناصره وداعميه أن لا حق إلا ما يرون حقا، فبعد لقاء لبشار الأسد مع موقع ياهو عام 2017 سأله فيه المذيع عن الصور وقال إنها مفبركة أو معدلة بالفوتوشوب، قالها بمنتهى السطحية واللامبالاة متجاوزا حتى حق قتلاه بأن يهتز لرؤياهم، متجاوزا أعمارا وأرواحا وحسرات، من بعد ذلك أصبح ردّه سنّة كل المدافعين عنه وعن نظامه يجترون الرد ذاته -هذه صور مفبركة- يقولون مرتاحين ويقطعون أي طريق أمام مراجعة أو سؤال عن هؤلاء ولماذا قتلوا وكيف قتلوا ومن قتلهم وأين تلك الأجساد.. مرعب ذاك التخشب تجاه هذا الكم الهائل من الألم "كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ".

حقيقة الأمر أننا منذ أن أطلق نظام الأسد العنان لقطعان قتلته ليعيثوا في مصائر السوريين فسادا منذ الأيام الأُول للثورة السورية حيث كان الخيار واضحا ملخصا في منهج واضح "الأسد أو لا أحد – الأسد أو نحرق البلد"، أصبحنا مقتنعين أن هذا النظام لن يعطي السوريين حقهم في تغيير حياتهم للأفضل، ولن يكون أهلاً ليحدث التغيير إلا للأسوأ وهو ما كان، فقتل ودمر وهجر وشرد وأحرق البلاد والعباد فهل فعلا ثمة من يرى فيه خيرا لمستقبل سوريا قد تكون الإجابة بــ"نعم" مخيبة، لكنها حقيقية، ثمة من يرى ذلك فعلا أو بالأحرى لا أحد يرى شيئا أمام معرض الموت المفتوح في سوريا من تسعة أعوام، فصور قيصر هذا الوجع المكثف الذي حرك عيون بعض العالم ليرانا ليست سوى غيضٍ من فيض ما صنعه الأسد بالسوريين جميعا.

تمرّ صور قيصر والمأمول أن تحقق شيئا من العدالة للمكلومين، بأضعف الإيمان يغيب القاتل من مستقبلهم ويروح بضحكاته الصفراء، وبرود عروقه أمام المصاب الجلل، تمر الصور وتترك في النفس أسئلة مرعبة، كيف قتل كل هؤلاء؟ هل هؤلاء كل من قُتل؟ وماذا بعد العام 2013؟ مؤكد أن القتل استمر وربما تعاظم، وأصعب الأسئلة هو سؤال الباحث عن مصير هذه الجثث المرقمة إن لم تكن سلمت لذويها واعتبرها نظام القتل شيئا من فوتوشوب فأين هي؟ ألا يشتهي من  فقد عزيزا أن يكرم مثواه، ويعوده كل حين، يزرع حوله رياحينَ وزنبقاً، ويحكي سيرته -بلى يشتهي- لكن نخشى أن يظهر قيصر آخر، يخرج دون صور ليقول لنا: لقد صاروا رمادا، وبعد الصورة أصبحوا ذكرى. 

كلمات مفتاحية